لسنا عرباً.. مصريون يتعلمون اللغة القبطية “لإحياء هويتهم الأصلية” وحمايتها من الاندثار، فما القصة؟
- Author, وائل جمال
- Role, بي بي سي نيوز عربي
لا تزال اللغة القبطية تشكل رابطا وثيقا وجسرا عابرا بين الماضي والحاضر حتى الآن لدى عدد من المصريين، من غير المتخصصين، الذين يسعون إلى تعلمها بغية الحفاظ على إرث ثقافي وإحياء ما يقولون إنه هويتهم التاريخية، في عالم تلاشت فيه الحدود بين الشرق والغرب، وتداخلت فيه المفردات اللغوية، كما اغتربت موروثات حضارية داخل مجتمعاتها الشرقية.
هذا ما دفع عدداً من المصريين إلى إعادة قراءة تاريخهم القديم، والاهتمام بتدريس اللغة القبطية أو تعلمها، مستفيدين بمنصات التواصل الاجتماعي، وما تقدمه من خدمات مرئية ومكتوبة، وهو ما شجع خبراء في اللغة القبطية على إطلاق فصول دراسية عن بُعد تقدم مادة تعليمية وحضارية للمصريين الراغبين في ترسيخ صلتهم بإرثهم اللغوي القديم، وإحياء استخدام هذه اللغة بلفظها “الأصيل”.
“لسنا عربا ولا أفارقة”
يدور جدل دائم، على المستويين العلمي والاجتماعي، بشأن أصل الإنسان المصري وجذوره الأولى على أرض وادي النيل، لا سيما بعد أن أكد عالم الآثار المصري البارز، زاهي حواس، وزير الآثار السابق، مراراً في أكثر من لقاء تلفزيوني ومحاضرة أكاديمية على حقيقة أن المصريين “ليسوا عربا أو أفارقة”، لافتا إلى اختلافات بين المصريين من حيث “الكلام والشكل والسلوك والعادات والتقاليد” مقارنة بجيرانهم العرب.
وتتزامن مثل هذه التصريحات مع توجيه مصريين منذ سنوات اهتمام خاص بتعلم اللغة القبطية، التي تعد المرحلة الأخيرة والحلقة الأحدث من سلسلة حلقات تطور اللغة المصرية القديمة “الهيروغليفية”، وزيادة الإقبال على “محو الأمية القبطية” عبر منصات وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي، التي قربت الحدود بين المتخصصين من خبراء اللغة والراغبين في تعلمها.
ويقول جورج سيدهم، خبير اللغة القبطية، في حوار حصري لبي بي سي، تأكيدا لتصريحات حواس، إن الفترة الحالية تتميز بوجود اهتمام ملحوظ لدى البعض بشأن الجذور المصرية وقراءة التاريخ الوطني بدافع الاعتزاز بالهوية.
ويضيف: “ثمة اهتمام لدى البعض، من جميع أطياف المجتمع، بشأن تاريخ مصر، وأن المصريين أصلهم أقباط وليسوا من العرب، لا سيما على مستوى الاهتمام باللغة القبطية، إذ يتضح لنا أن المشهد الحالي مختلف مقارنة بالماضي، عندما كانت القبطية حبيسة الكنائس فقط وعدم توافر فرص كثيرة أمام المصريين أينما كانوا لتعلمها”.
“التواصل الاجتماعي بين المعلم والمتعلم”
يؤكد سيدهم أن القبطية تعيش حاليا مرحلة انتعاش نسبي، مشيراً إلى أن زيادة الاهتمام يرجع إلى انتشار الإنترنت في كل مكان، وهو ما أسهم بدور كبير في تسهيل تبادل المادة التعليمية واللغوية، فضلا عما يبذله الجميع، المعلم والمتعلم، من جهود فردية في هذا الصدد.
ويقول: “ساعد انتشار صفحات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك، في تيسير سُبل التواصل بين معلمي اللغة القبطية وأولئك الراغبين في تعلمها، الذين كانوا يواجهون صعوبة في الماضي في العثور على مصادر أو معاهد لغوية تساعدهم في تلبية رغبتهم”.
وينادي البعض بتدريس اللغة القبطية في مراحل التعليم المختلفة في المدارس المصرية بهدف “إحياء الهوية”، ويطالبون بوضع مناهج دراسية تقدم الأصول اللغوية للطالب في مختلف مراحله التعليمية، بيد أن سيدهم يرى أن هذه الفكرة “غير مجدية في عالمنا المعاصر”.
ويفسر قائلا: “فكرة وضع منهج دراسي إلزامي لتعلم القبطية في المدارس فكرة ليست عملية، لأن الكثير من الناس قد لا يرغبون في تعلمها أصلا، ويرون أنها غير مهمة وغير مفيدة عمليا في حياتهم، فلماذا نفرض تعلمها على الجميع؟ الأفضل أن تكون العملية التعليمية نابعة من رغبة الشخص لتحقيق أفضل نتائج”.
ويقول سيدهم، من واقع تجربته العملية في تقديم فصول تعليمية عن بُعد للراغبين في تعلم اللغة القبطية، مستفيدا من منصة يوتيوب وتطبيق “غوغل كلاس” لمتابعة المتعلمين وتقييمه لنتائجهم: “البعض يلتزم ويستمر، والبعض تجبره ظروفه على عدم الاستمرار، وآخرون ينقطعون فترة ثم يعودون مرة أخرى لاستكمال مسيرتهم”.
ويضيف: “هذا ما دفعني إلى تخصيص صفحة على يوتيوب ووضع فيديوهات تعليمية للغة القبطية يلجأ إليه كل من يرغب في تعلمها، حسب الوقت الذي يناسبه، كما شجعتني تعليقات كثيرين من المتعلمين أكدوا فيها على نجاح تجربتهم في تعلم القبطية التي كانوا يجهلونها تماما”.
“أصل اللغة القبطية”
تعد اللغة القبطية، التي لاتزال تستخدم حتى الآن في طقوس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وصلواتها وألحانها، الطور الرابع والأخير من أطوار الكتابة المصرية القديمة، التي تتألف من الهيروغليفية (التي استخدمها المصريون القدماء كخط للكتابة المقدسة في الأغراض الدينية في المعابد والمقابر والبرديات)، والهيراطيقية (وهي كتابة مبسطة نسبيا للهيروغليفية واستُخدمت في المكاتبات الرسمية والخدمات الدينية أيضا)، ثم الديموطيقية (وهي كتابة شعبية عامية مبسطة للغاية لما سبق).
ويقول العالم المصري عبد الحليم نور الدين، أستاذ اللغة المصرية القديمة بجامعة القاهرة، في دراسته “اللغة المصرية القديمة: الخط القبطي (اللهجة الصعيدية)” إن القبطية هي “نتاج الفكر الإنساني المصري القديم في مجال اللغة والكتابة، وهي خلاصة رحلة طويلة من التطوير والتحديث للخطوط المصرية القديمة”.
ويضيف: “استطاع المصري تطويع هذه الخطوط وفق حاجته من جهة، ووفق التطور الطبيعي للغة ذاتها من جهة أخرى، محافظا – قدر الإمكان – على أساسيات اللغة والخط من حيث القيم الصوتية، والقواعد الأجرومية، مع عدم الإخلال بقدرة هذه الخطوط على توصيل المعاني للمتلقين، بحيث لا يجد المتعامل معها صعوبات في القراءة أو الفهم”.
ويقول نور الدين في دراسته إن اللغة القبطية: “تنحدر من اللغة المصرية القديمة في مرحلتها المتأخرة مباشرة، أي كما كان المصريون يتحدثونها منذ النصف الثاني من عصر الأسرة الـ 18 بالدولة الحديثة (في حدود القرنين الـ 15 والـ 14 قبل الميلاد) وحتى عصر الأسرة الـ 25”.
ويلفت إلى أن تلك المرحلة المعروفة بالقبطية “بدأت بشكل واضح وجلي منذ أواخر القرن الثاني الميلادي، وانتهت رسميا – وليس فعليا – بدخول الإسلام مصر عام 641 ميلاديا، حيث بدأت تحل محلها بالتدريج اللغة العربية، وإن استمرا معا لفترة طويلة”.
بيد أن العالم الفرنسي، ماريوس شين، يسجل رأيا له يخالف الآراء الشائعة، في مقال عن اللغة الوطنية الشعبية لمصر القديمة، نُشر في المجلد الثالث عشر لمجلة جمعية الآثار القبطية، ننقله عن دراسة متخصصة في قواعد القبطية، للعالم بنتلي لايتون، أستاذ حضارات ولغات الشرق الأدنى بجامعة يل، مترجمة بعنوان “الفريد في شرح قواعد اللغة القبطية بلسان أهل الصعيد”، يؤكد فيه شين على أن اللغة المصرية القديمة واللغة القبطية، كانتا متعاصرتين وموجودتين معا منذ أقدم العصور.
ويقدم دراسة مستفيضة لقواعد اللغتين يُستخلص منها أن اللغة المصرية القديمة لم تكن لغة تخاطب، وإنما هي مأخوذة عن القبطية – باعتبار القبطية هي الأصل – وقد صيغت بحيث يقتصر استخدامها من جانب الكهنة والكتبة في الكتابة فقط، أي أن اللغة المصرية القديمة لغة صاغها بعض المصريين الناطقين بالقبطية لهدف الكتابة فقط، وظلت معرفتها محصورة في دائرة الكتبة وحدهم دون عامة الشعب.
وكلمة “قبطي/قبطية” نسبة إلى “قبط” وهي كلمة مشتقة بتحريف من اللفظ اليونانية “أيجوبتي” أو “أيجوبتوس” الذي أطلقه اليونانيون والرومان على “مصر” و”المصريين”، بعد حذف السابقة الحرفية “أي -” واللاحقة الحرفية “- وس” في الكلمة اليونانية لتصبح “جبت/أو جبط”، لذا كُتبت الكلمة (قبط) بمعنى “مصري” إشارة إلى الإنسان الذي عاش على أرض مصر، وإلى الكتابة التي عبّرت عن لغته في هذه المرحلة”.
كما يمكن رصد أصول القبطية متشعبة في عصر الأسرات المصرية القديمة، من خلال مئات المفردات القبطية التي استعملها المصريون في التعبير عن حاجة الفرد في حياته اليومية من مأكل وملبس ومشرب، وما إلى ذلك من مرافق الزراعة وغيرها، وترجع أصولها جميعا إلى اللغة المصرية القديمة، كما أن أصول قواعد اللغة القبطية، كأدوات التذكير والتأنيث والضمائر، ترجع إلى قواعد اللغة المصرية القديمة.
“القبطية لغة حية”
تقول لارا ضايف، صحفية وإحدى المهتمين بدراسة اللغة القبطية عن بُعد، في حديث لبي بي سي، إن تعلم اللغة عموما لم يعد من الصعب مقارنة بسنوات سابقة، بفضل ما هو متاح حاليا من أدوات تكنولوجية تسهم في تعلم لغات حديثة أو قديمة مثل القبطية، التي لا يزال يردد منها المصريون العديد من كلماتها في محادثاتهم اليومية الدارجة.
وتضيف: “اللغة القبطية ليست لغة ميتة أو غريبة عن اللسان المصري، إنها لغة حية بالفعل، فكل من يتعلمها ولو بقدر بسيط، سرعان ما يكتشف أنه يردد كلماتها بالوراثة في حواراته اليومية، وهذا ما يكسبها بُعدا نابضا بالحياة بعيدا عن الجمود”.
وتلفت لارا إلى أن الأجهزة الحديثة، مثل الهواتف الذكية على سبيل المثال: “تلعب دورا إيجابيا في الوقت الراهن في تعلم اللغة القبطية، التي أصبح لها العديد من التطبيقات والقواميس والمواقع الموثوق بها، التي يسهل على المتعلم الاستعانة بها بلا جهد أو تكاليف تُذكر، فضلا عن إمكانية التواصل في أي وقت مع المتخصصين في اللغة القبطية للرد على بعض التساؤلات من خلال مجموعات دراسية على فيسبوك أو واتسآب تُخصص لهذا الغرض”.
وتقول: “أصبح تعلم اللغات القديمة، التي كانت حكرا على المتخصصين، متاحة للجميع حاليا وبسهولة، وفقط أختار الدورة التدريبية التي تناسبني على منصات الإنترنت مع بعض الالتزام الشخصي لتحقيق نتائج جيدة”.
وتضيف لارا أنه في ظل ما نشهده من حرص كثيرين على تعلم لغات أجنبية، وهو أمر طبيعي في عالمنا المعاصر “يحرص كثير من الآباء على تعليم أطفالهم اللغة القبطية في الكنائس والمؤسسات المعنية بذلك، والتي بدورها تقدم الخدمة بالمجان بهدف استمرار حفاظ المصريين على هويتهم ولغتهم القبطية”.
“لماذا تُكتب القبطية بحروف يونانية؟”
ساد استخدام الخط الديموطيقي، منذ القرن السابع قبل الميلاد، في المعاملات الرسمية، إلى أن جاء القرن الثالث قبل الميلاد، ليشهد تطورا فارقا في تاريخ اللغة المصرية القديمة وخطوطها، إذ بدأ ظهور الخط القبطي والرغبة في التحول من الخطوط القديمة وفقا لما فرضته ظروف العصر.
استعارت اللغة القبطية الأبجدية اليونانية مع إضافة بعض الرموز من الخط الديموطيقي، وهي سبعة رموز أو حروف صوتية شائعة في اللسان المصري القديم، وانحسر استخدامها في المرحلة الأولى على كتابة بعض الأسماء، وأفضل مثال على ذلك بردية “هايدلبرغ”، وهي قائمة من الأسماء اليونانية مع المقابل المصري، وهي كتابات من العصر البطلمي، ولا نعلم هل كاتب النص يوناني أم مصري، لكن ربما سبقت هذه الوثيقة محاولات أخرى لم تصل إلينا.
ويلفت يوحنا نسيم يوسف، أستاذ القبطيات بالجامعة الكاثوليكية بأستراليا في دراسته “مقدمة في علوم الدراسات القبطية” إلى وجود نص في نقوش تعود إلى عام 202-201 قبل الميلاد بالحروف اليونانية عن الملك خر-أون-نفر، ويضيف أن “القبطية القديمة ظهرت في نصوص سحرية ونصوص فلكية وثنية، وتعود هذه النصوص إلى القرون الأولى (وهي وثائق لا علاقة لها بالمسيحية)”.
كما حفظ التاريخ كتابات قبطية قديمة تعود لعصر لم يكن قد أعتُرف فيه بعد بالمسيحية كدين رسمي للبلاد، رغم دخول المسيحية مصر على يد القديس مرقس عام 54 ميلاديا أيام حكم الإمبراطور الروماني نيرون، ومن أشهر تلك الكتابات: بردية طبعها العالم “غريفث”، ونص آخر محفوظ في متحف اللوفر بباريس نشره العالم “إرمان”، والنصان يتناولان موضوعات ذات صلة بالسحر والفلك، ويشتملان على ترتيل إلى المعبودات المصرية القديمة “أوزير” و”إنبو” و”رع” و”إيزة”.
كما عُثر، غير هذه الكتابات، في أخميم في صعيد مصر، على مومياوات تضم بطاقات مكتوبة بالقبطية يرجع تاريخها إلى القرن الثاني الميلادي، وبعضها مؤرخ بالعام الرابع الميلادي خلال فترة حكم الإمبراطور الروماني هادريان (117-138 ميلاديا) ونشرها العالم “جورج شتيندورف”.
لم يتفق علماء اللغة على أسباب استعارة القبطية للأحرف اليونانية كطريقة في منظومتها الكتابية والصوتية، بيد أن نور الدين يرى في دراسته أن الاختيار ربما “كان بتأثير وجود اليونانيين الغزاة في مصر إبان ظهور الخط القبطي، أو ربما كان ثمة استسهال باتخاذ هذه الأحرف ونظام الكتابة كحل سريع جاهز لتطوير الكتابة المصرية القديمة”.
ويضيف أن المصريين لم يجدوا فيما يبدو “صعوبة في نسخ نظام الكتابة اليونانية (الأبجدية)، فقد تم التعبير عن الحروف الساكنة (المشتركة بين اللغتين) بالأحرف اليونانية، أما الحروف المميزة للغة المصرية القديمة، فقد استعاروا لها حروفا من الكتابة الديموطيقية، واختلف عدد هذه الأحرف باختلاف اللهجة المكتوب بها النص (القبطي)”.
وعلى الرغم من انتقاد البعض استعانة القبطية بالأبجدية اليونانية، نلفت إلى أن الكتابة اليونانية القديمة بنظام الأبجدية لم تكن في حد ذاتها ابتكارا يونانيا، بل سبق وأخذه اليونانيون من ابتكار شرقي أصيل، ويعزوا العلماء بداية ظهور الكتابة بالأبجدية إلى “الكنعانيين” (الفينيقيين) الذين استعاروا بدورهم هذا النظام الكتابي من أبجدية الكتابات “السينائية” (التي ظهرت في سيناء)، والتي كانت بدورها متأثرة بالكتابات المصرية الهيروغليفية والهيراطيقية.
لذا يرى نور الدين أيضا أن “اتخاذ المصريين للخط القبطي لم يكن فحسب بتأثير احتلال البطالمة (اليونانيين) لمصر قرب القرن الرابع قبل الميلاد، وإنما يبدو السبب الأقوى – في ظننا – هو أن نظام الكتابة الأبجدية أصبح شائعا ومنتشرا في العالم القديم، لاسيما الدول المجاورة لمصر، فكانت استجابة مصر لدواعي التطوير أمرا محتوما، سواء في ظل وجود احتلال، أو في عدم وجوده”.
“القبطية ولهجاتها في مصر”
تمركز إنتاج الأدب القبطي في مركزين هما: وادي النطرون (الصحراء الغربية) للهجة القبطية البحيرية، والدير الأبيض (سوهاج) والأديرة الباخومية (بالصعيد) للهجة القبطية الصعيدية، وهكذا كانت أديرة الرهبان معاقل الأدب القبطي الصميم باللهجتين.
واللغة القبطية مثل اللغات الأخرى ليست لهجة واحدة، وإنما مجموعة من اللهجات (صعيدية، بحيرية، وفيومية … إلخ)، تعكس كل واحدة منها لهجة محلية أقدم في المصرية القديمة التي انحدرت منها، ويمكن تقسيم لهجات القبطية بشكل عام إلى ثلاث مجموعات: مجموعة اللهجات الصعيدية (الجنوبية)، ومجموعة اللهجات البحيرية (الشمالية)، ومجموعة لهجات مصر الوسطى.
ويتفق علماء اللغة على أن اللهجة الصعيدية هي أقدم وأنقى تلك اللهجات القبطية، والأغنى من حيث وفرة نصوصها، سواء بالنسبة للأعمال التي كُتبت بها، أو تُرجمت إليها، فضلا عن كونها الأوفر من حيث المخطوطات الكتابية الدينية والأخرى الأدبية، كما أن النصوص القبطية، التي ترجع إلى القرن الخامس الميلادي أو ما قبله، مكتوبة باللهجة الصعيدية وتفوق عدد الوثائق المكتوبة بجميع اللهجات الأخرى.
ويرجح العلماء أن تكون اللهجة الصعيدية هي أول اللهجات القبطية التي تُرجم إليها الكتاب المقدس، في القرن الثالث حتى القرن الرابع الميلادي، بيد أن اللهجة الصعيدية بدأت بعد القرن التاسع تفقد مكانتها الأدبية أمام اللهجة البحيرية التي صارت لهجة الصلوات في الكنيسة منذ القرن الحادي عشر الميلادي.
ويقول يوحنا نسيم يوسف في دراسته: “لم تصلنا نصوص (باللهجة) البحيرية من القرون الأولى إلا بعض النصوص من منطقة (القلالي-حوش عيسى) (محافظة البحيرة في دلتا مصر) وتعود إلى القرن السادس أو السابع الميلادي، وكذلك نص في دير السريان يمثل البشارة، كما توجد مخطوطة تحتوي على كتابات للعهد القديم وهي محفوظة في الفاتيكان”.
وبحلول القرن الحادي عشر الميلادي أصبحت البحيرية هي اللهجة الرسمية للكنيسة القبطية، بسبب اختيار غالبية بطارقة وأساقفة الكرازة المرقسية في دير “أبو مقار”، وكثرة نسّاخ المخطوطات في هذا الدير، وفي بقية أديرة وادي النطرون، نسخ النصوص المقدسة وسائر كتب الصلوات الكنسية باللهجة البحيرية.
أما فيما يتعلق بمجموعة لهجات مصر الوسطى فهناك اللهجة الفيومية، وترجع الوثائق الموجودة بهذه اللهجة إلى الفترة ما بين القرنين الرابع والحادي عشر الميلاديين، ويقسم العلماء هذه اللهجة إلى مجموعة لهجات فرعية، منها لهجتان في وسط الفيوم، لهجتها الأساسية، ولهجة “فيومية قديمة” كانت على أطراف الفيوم.
“صمود القبطية”
على الرغم من أن المحاولات الأولى للكتابة باللغة القبطية، وكذلك الوثائق المعروفة باسم النصوص القبطية القديمة، جرت بمعرفة مجموعة من “غير المسيحيين” في مصر (لاسيما خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين)، إلى أن الفضل في تثبيت “الأبجدية” القبطية في الوضع الذي تُعرف به حاليا، وفقا لدراسة نور الدين، “لا بد وأن يُعزى إلى الكنيسة المصرية… في حبرية (فترة رئاسة) البطريرك الثاني عشر، البابا ديمتريوس السكندري (189-232 ميلاديا) وخلفائه”.
ويرجح علماء أن ترجمة “الكتاب المقدس” إلى القبطية بدأت في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي، وأن أقدم ما لدينا من مخطوطات كتابية بالقبطية يرجع إلى القرن الثالث الميلادي، كما أن قوانين القديس “باخوميوس (حوالي 320 ميلاديا) قضت بأن يقرأ الرهبان الكتاب المقدس بالقبطية”.
واستمر نشاط ترجمة الكتب الدينية الكنسية من اليونانية إلى القبطية حتى انعقاد “مجمع خلقدونية (عام 451 ميلاديا) وما بعده حتى القرن السابع الميلادي، عندما دخل الإسلام مصر، وهي فترة كانت اللغة اليونانية أيضا منتشرة في الإسكندرية وبعض المراكز الثقافية في المدن الكبرى.
وما يؤكد استمرار اللغة القبطية وآدابها حية حتى القرن العاشر الميلادي أنه في عهد البابا “زخارياس” (البطريرك الـ 64) (1004-1032 ميلاديا)، نجد أن أسقف الأشمونيين المؤرخ المصري القبطي ساويرس ابن المقفع (915-987) يقول في مؤلفه “تاريخ بطاركة الإسكندرية القبطية” ما معناه أن “القلم العربي عُرف عند أهل الديار المصرية كما أننا نعرف من جهة أخرى أن كثيرا من العرب عرفوا اللغة القبطية”.
“انهيار القبطية أمام انتشار اللغة العربية”
ظلت اللغة القبطية اللغة الرسمية في البلاد حتى عهد والي مصر عبد الله بن عبد الملك، الذي قرر تعريب دواوين الدولة في سنة 705 ميلاديا (وفي رواية أخرى سنة 714 ميلاديا)، وبدأ الأقباط يهملون تدريجيا دراسة اللغتين اليونانية والقبطية، وسارع كتّابهم إلى تعلم اللغة العربية التي أصبحت لغة الأعمال، باعتبارها اللغة الرسمية للدولة.
ويلفت نور الدين في دراسته إلى عامل آخر وهو أن “اتجاه الشعب إلى تعلم اللغة العربية والتحدث بها أدى إلى فقدان التواصل مع اللغة القبطية شيئا فشيئا، ومن ثم تزايدت مع الوقت صعوبة فهم لغتهم القبطية، بل إن ما ساعد على إحداث العُزلة التدريجية لهذه اللغة، هو اضطرار الكهنة أيضا إلى تعلم العربية لمواصلة عملهم الديني والتعليمي للشعب”.
ويضيف :”كانت الضربة الكبرى لانهيار اللغة القبطية هو تخلي الكنيسة عنها وعدم تعليمها للأطفال، ففي عهد البابا كيرلس الثاني (البطريريك رقم 67)، إبان عهدي الخليفتين الفاطميين الظاهر لإعزاز دين الله (1005-1036) وأبو تميم معد المستنصر بالله بن علي (1029-1094) تغلبت اللغة العربية على اللغة القبطية، وأصبحت هي المتداولة في الأوراق الحكومية وجميع تعاملاتها، وفي الأسواق ومستندات البيع والشراء…، ورأى البطريرك أنه يجب تعلمها حتى يستطيع التعامل مع الخليفة والجهات الحكومية ومع شعبه”.
ويقول نور الدين: “القانون الثالث من قوانين البابا غبريال الثاني بن تريك (البطريرك 70) (1131-1146) يطالب الأساقفة بتعليم رعيتهم الصلاة الربانية وإقامة الطقوس المقدسة (الإفخارستيا ومختلف الليتورجيات الأخرى) باللسان الذي يعرفونه ويفهمونه، والمعروف أن هذا البابا هو أول من صرح بقراءات الأناجيل والرسائل والمواعظ باللغة العربية”.
“القبطية تُولد من جديد”
نهضت اللغة القبطية من كبوتها في منتصف القرن الـ 19، ونبغ فيها كثيرون من بينهم: عريان أفندي جرجس مفتاح (متوفى سنة 1888 ميلاديا)، والإيغومانس فيلوثاؤس، والقمص تكلا، وبرسوم أفندي الراهب في وقت البابا كيرلس الرابع (1853-1861)، الملقب بأبي الصلاح، فوضعوا لها الكتب .
ويلفت نور الدين إلى أن “اللغة القبطية المستعملة الآن في الكنائس والأديرة ليست هي اللغة القبطية الأصلية، وذلك بسبب التغيرات التي أدخلها المعلم الأرثوذكسي عريان أفندي جرجس مفتاح (في عام 1858) على نطق اللغة القبطية، بجعله كاللفظ اليوناني الحديث، فغيّر بذلك نطق اللغة القبطية الأصيل، وتسبب في ابتعاد النطق الجديد للقبطية بعض الشيء عن الجذور المصرية الأصلية”.
وقد أُطلق على طريقة النطق الجديد (اللفظ الحديث)، وأُطلق على طريقة النطق الأصلية (اللفظ القديم)، ولايزال اللفظ الحديث هو المستخدم على نطاق واسع، بيد أن ذلك لم يحل دون وجود محاولات بسيطة لتدريس وإحياء النطق الأصلي للغة القبطية بجهود فردية، معظمها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تطرح مناقشات واسهامات تضم العارفين باللغة القبطية ولهجاتها لنشر أصول نطقها القديم.
كما دعم الأنبا شنودة الثالث (1923-2012)، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية السابق، جهود إحياء اللغة القبطية والتحدث بها منذ رسامته أسقفا للمعاهد الدينية في سنة 1962، كما أسس “معهد اللغة القبطية” في عام 1976، والذي يهدف إلى إحياء تراث اللغة والتحدث بها بلفظها الأصيل، وإعداد نخبة من المتخصصين يسهمون بالتعاون مع علماء أجانب في إحياء تراث الأدب القبطي والحفاظ عليه.
ويلفت نور الدين في دراسته إلى “حقيقة هامة يجهلها البعض، إذ يظنون أن آداب اللغة القبطية دينية محضة، والواقع غير ذلك، فهي إلى جانب ما حفلت به من هذه الآداب من سير القديسين والبطارقة والأناجيل وأسفار العهد القديم عامة، لم تقف عند هذا الجانب الديني فحسب، بل تناولت الجانب الدنيوي أيضا”.
وتضيف لارا ضايف أن حرص مصريين حاليا على تعلم اللغة القبطية، بطريقة فردية ورغبة شخصية منهم، سواء في المعاهد اللغوية المتخصصة أو عن بُعد “بشير خير على خطى استمرار القبطية وعدم انقراضها في خضم ما يشهده العالم من عولمة وتسارع تكنولوجي حديث له إيجابياته وسلبياته على الأجيال الجديدة”.