الانتخابات الأمريكية والشرق الأوسط: تاريخ من الاستثناءات
- Author, محمد عبد الرؤوف
- Role, بي بي سي عربي
“إنه الاقتصاد يا غبي” – تلخص تلك العبارة الفظة، التي أطلقها سياسي أمريكي في تسعينيات القرن الماضي، مذهب فريق من خبراء السياسة الذين يرون أن الأوضاع الاقتصادية هي التي تحسم دائماً السباقات الانتخابية في الولايات المتحدة على حساب قضايا أخرى من بينها العلاقات الخارجية.
لكن، وفي ظل ما تشهده الولايات المتحدة من نقاشات حادة وتظاهرات على خلفية حرب غزة قبل الانتخابات الرئاسية، فقد يتبادر إلى الذهن أسئلة عن مدى صحة الحديث عن أولوية الاقتصاد دائما في الاستحقاقات الانتخابية الأمريكية، إلى جانب أسئلة أخرى حول ما إذا كان لقضايا الشرق الأوسط دور رئيسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي تُنظّم منذ أكثر من 200 عام.
ولا يمكن الإجابة عن هذا السؤال دون تسليط الضوء على بعض الانتخابات الرئاسية الأمريكية السابقة التي تزامنت مع تطوّرات درامية في المنطقة.
ترومان وانتخابات 1948
تُعدُّ الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1948 إحدى أكثر الانتخابات تشويقاً في تاريخ البلاد؛ إذ جاءت نتائجها مخالفة لكثير من التوقعات.
فالرئيس الديمقراطي، هاري ترومان، الذي كان يسعى لولاية جديدة، واجه تحديات كبيرة في السباق الانتخابي؛ كان عليه أن يتغلب على عدد من المرشحين، أبرزهم مرشح الحزب الجمهوري، توماس ديوي، الذي كان يشغل منصب عمدة ولاية نيويورك، ووزير التجارة السابق، هنري والاس، صاحب التوجهات الليبرالية.
وكانت استطلاعات الرأي تظهر تقدم ديوي على ترومان خلال الحملات الانتخابية والنقاشات المصاحبة لها التي تطرقت إلى العديد من القضايا من بينها الأوضاع الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، وقضية الحقوق المدنية الخاصة بالأمريكيين السود.
وبحسب بعض المؤرخين فإن الشرق الأوسط كان حاضراً بشكل ما في تلك الحملات؛ إذ شهد عام 1948 تأسيس دولة إسرائيل، والحرب العربية-الإسرائيلية الأولى.
ويرى الأكاديمي الإسرائيلي، مايكل كوهين، في كتابه “ترومان وإسرائيل” أن اعتراف إدارة ترومان بإسرائيل بعد 11 دقيقة من إنشائها في مايو/أيار 1948، رغم معارضة مسؤولين بارزين في وزارة الخارجية لهذا القرار، جاء في الأساس تطبيقاً لحسابات انتخابية لجذب أصوات الناخبين اليهود في الانتخابات التي كانت ستجرى بعد أشهر، خاصة في ولاية نيويورك، التي كان الناخبون اليهود يشكلون أكثر من 10 في المئة من سكانها.
في المقابل، يذهب فريق أخر من المؤرخين إلى أن قرار ترومان جاء في الأساس بسبب تعاطفه مع الحركة الصهيونية، كما يقول الكاتب الأمريكي أيه جيه بايمي (AJ Baime) مؤلف كتاب “رئيس عن طريق الخطأ”، الذي يتناول سيرة حياة ترومان.
وبغض النظر عن دوافع ترومان، فإن الانتخابات أسفرت عن فوزه، ما مثل مفاجأة للكثير من المراقبين الذين توقعوا فوز المرشح الجمهوري توماس ديوي، لدرجة أن صحيفة في مدينة شيكاغو تسرعت ونشرت خبراً عن فوزه، ليظهر الرئيس ترومان في اليوم التالي حاملاً نسخة من الصحيفة وهو مبتسم.
ولم يكن حصول ترومان على أغلب أصوات اليهود الأمريكيين حدثاً استثنائياً؛ وكان ذلك يجسد توجهاً بدأ قبل تلك الانتخابات بنحو 25 عاماً، واستمر حتى الانتخابات الرئاسية الأساسية الأخيرة 2020؛ إذ حصل مرشحو الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية على أكبر عدد من أصوات الناخبين من يهود الولايات المتحدة منذ عام 1924، بحسب الأكاديمي الأمريكي، هربرت إف وايزبرغ، في دراسته عن تصويت اليهود في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
سرحان سرحان
بعد 20 عاماً، وتحديدا عام 1968، سيعود الشرق الأوسط إلى الساحة الانتخابية الأمريكية بشكل غير مباشر.
فوزير العدل الأمريكي السابق، روبرت كينيدي، وهو شقيق الرئيس الراحل جون كينيدي، كان من أبرز المتنافسين على ترشيح الحزب الديمقراطي للسباق الرئاسي.
لكن وفي يونيو/حزيران عام 1968 قُتل كيندي بعد إطلاق النار عليه في ولاية كاليفورنيا، وألقت الشرطة القبض على المهاجر، فلسطيني المولد، سرحان سرحان، قبل أن تتم محاكمته ثم إدانته.
وأثناء التحقيق الذي سبق المحاكمة، وما تلاها من مقابلات صحافية، اعترف سرحان بجريمة القتل التي وقعت في الذكرى الأولى لحرب يونيو/حزيران 1967، مُرجعاً الأمر إلى إعلان كينيدي نيته بيع العشرات من الطائرات الحربية إلى إسرائيل.
اعتراف سرحان لم يحل دون انتشار نظريات مؤامرة حول وجود قاتل آخر.
وأصدرت محكمة في ولاية كاليفورنيا حكما بإعدام سرحان، استبدل لاحقاً بعقوبة السجن مدى الحياة بعد إلغاء الولاية أحكام الإعدام.
لكن تطوراً دولياً آخر، بعيداً عن أحداث الشرق الأوسط، كان بمثابة عامل حسم في انتخابات 1968.
كان التورط الأمريكي في حرب فيتنام من بين العوامل التي حسمت السباق الرئاسي لصالح الجمهوري ريتشارد نيكسون على حساب المرشح الديمقراطي هيوبرت همفري.
الخميني وكارتر
كثيراً ما أشار الرئيس الأمريكي جيمي كارتر إلى الوساطة الأمريكية لاتفاق السلام بين مصر وإسرائيل بوصفها إحدى إنجازاته في مجال السياسية الخارجية.
لكن حدثاً ضخماً آخر في منطقة الشرق الأوسط ارتبط لاحقاً بشكل سلبي بسيرة كارتر في البيت الأبيض، خاصة أنه تصادف مع الفترة التي كان يسعى فيها لحشد تأييد الشارع الأمريكي للفوز بولاية ثانية في انتخابات 1980.
ففي عام 1979 اندلعت الثورة الإيرانية لتطيح بحكم الشاه محمد رضا بهلوي، حليف واشنطن المقرب، ولتؤسِّس نظام حكم يتقدمه رجل الدين المعادي لسياسات الولايات المتحدة، آية الله روح الله الخميني.
وعلى مدار الأشهر التالية بات واضحاً أن الصداقة بين واشنطن وطهران حلّ محلها التوتر، بل والعداء.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني، وبعدما سمحت واشنطن للشاه المخلوع بدخول الأراضي الأمريكية لتلقي العلاج، اقتحم طلاب إيرانيون مقر السفارة الأمريكية في طهران واحتجزوا العشرات من الموظفين والدبلوماسيين والجنود الأمريكيين.
وعقب فشل المساعي الدبلوماسية لإطلاق سراح الرهائن الأمريكيين، أصدر كارتر أوامره في أبريل/نيسان 1980 بتنفيذ عملية أطلق عليها “مخلب النسر” لتنطلق طائرات أمريكية تقل جنوداً من القوات الخاصة عبر الصحراء الإيرانية بهدف إنقاذ الرهائن الأمريكيين.
لكن “النسر الأمريكي” فشل في مهمته، إذ تسببت عاصفة رملية في تحطم طائرتين بينما اصطدمت طائرة ثالثة بطائرة بضائع، ما أسفر عن مقتل 8 جنود أمريكيين وانسحاب من تبقى من الجنود.
وجاء فشل الحلول الدبلوماسية والعسكرية لإطلاق سراح الرهائن الأمريكيين ليؤجج النقاش في الساحة الإعلامية الأمريكية حيال تلك القضية.
فصارت أزمة الرهائن الأمريكيين مثار اهتمام العديد من وسائل الإعلام الأمريكية خاصة قناة أيه بي سي، التي تزامن تدشينها لبرنامج إخباري مسائي أسبوعي تحت اسم ” نايت لاين” مع بدء أزمة الرهائن لتتحول تلك الأزمة إلى عنصر شبه دائم في التغطيات الإخبارية للبرنامج.
وفي ظلّ تلك التطورات، جرت الانتخابات في نوفمبر/تشرين الأول لتسفر عن فوز ساحق للجمهوري رونالد ريغان على حساب كارتر.
لكن إلى أي مدى كان لأزمة الرهائن الأمريكيين في إيران دور في تحديد الفائز بالسباق نحو البيت الأبيض؟
تشير العديد من الكتابات عن انتخابات 1980، ومن بينها دراسة المسؤول الحكومي الأمريكي السابق، تايلر هولتون، عن تأثير أزمة الرهائن على الانتخابات، إلى أن عنصر الاقتصاد كان العامل الحاسم في خسارة كارتر، وليس أزمة الرهائن التي كان لها “تأثير ما” لكن ليس تأثيرا رئيسيا.
إذ أظهر استطلاع رأي أجرته قناة سي بي أس وصحيفة نيويورك تايمز قبل شهرين على الانتخابات أن 53 في المئة من المستطلعة آراؤهم يرون أن القضايا الاقتصادية هي أبرز ما كان يواجه البلاد في ذلك الوقت، بينما قال 5 في المئة فقط إن ما يحدث في إيران هو الأكثر أهمية.
وبعد 444 يوماً، أفرجت إيران عن الرهائن الأمريكيين في نفس يوم تنصيب ريغان، ما أثار نظريات مؤامرة عن “اتفاق ما” جرى بين مسؤولين في حملة ريغان وقادة إيرانيين لتأجيل إطلاق سراح الرهائن إلى ما بعد الانتخابات، لكن التحقيقات الرسمية خلصت إلى عدم وجود ما يؤكد هذا الزعم.
“إنه الاقتصاد يا غبي”
وجاءت انتخابات عام 1992 لتجدّد النقاش حول تأثير قضايا العلاقات الخارجية على السباق الرئاسي الأمريكي.
فالرئيس الجمهوري جورج بوش الأب كان يعول جزئياً على إنجازاته الخارجية لتأمين الفوز بولاية ثانية؛ إذ مثلت نهاية الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفيتي نصراً لواشنطن التي خرجت أيضا منتصرة في حرب الخليج الثانية ضد العراق.
في المقابل، فإن مرشح الحزب الديمقراطي، بيل كلينتون، بدا وكأنه يفتقر إلى الخبرة في عالم الدبلوماسية الدولية مقارنة بالمخضرم بوش.
ولكن المسؤول في حملة كلينتون، جيمس كرافيل، حدّد استراتيجية من ثلاث نقاط، صارت واحدة منها قاعدة سياسية؛ ففي مسعى للتشديد على أهمية البعد الاقتصادي في الحملة الانتخابية على حساب القضايا الأخرى، قال كرافيل في مذكرة داخلية “إنه الاقتصاد يا غبي”.
وأظهرت نتائج الانتخابات صدق حديث كرافيل – على الأقل في انتخابات 1992- إذ فاز كلينتون بالسباق الانتخابي في ظلّ ارتفاع معدلات الركود الاقتصادي.
حرب العراق
وبينما لم تشفع حرب الخليج الثانية لجورج بوش الأب عند الناخبين الأمريكيين عام 1992، فإنّ حرباً أخرى ضد البلد ذاته ستكون من أسباب فوز نجله بسباق رئاسي جرى بعد 12 عاما.
فهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001 أحدثت نوعاً من الصدمة للأمريكيين استمر تأثيرها لسنوات تقاطعت فيها سياسة واشنطن الخارجية مع ما وصفته إدارة بوش بـ”الحرب ضد الإرهاب”.
وتحت شعار “الحرب ضد الإرهاب” غزت القوات الأمريكية أفغانستان، للإطاحة بحكم طالبان.
وبعد ذلك غزا الجيش الأمريكي العراق بزعم أن البلد العربي يطور برنامجاً لأسلحة الدمار الشامل، وهي مزاعم ثبت لاحقاً عدم صحتها.
ذلك الربط بين مكافحة الإرهاب وحرب العراق، رغم عدم وجود أدلة على صحته، كان بمثابة حجة رئيسية استخدمها الرئيس بوش الابن الذي شدد على أن حربي أفغانستان والعراق جعلتا الولايات اكثر أماناً.
وأسفرت الانتخابات عن فوز بوش الابن بالانتخابات الرئاسية على حساب خصمه الديمقراطي جون كيري.
وأظهرت نتائج الانتخابات أن قطاعاً كبيراً من الأمريكيين أيد حديث بوش؛ إذ أظهرت استطلاعات رأي الناخبين أن نحو 34 في المئة من المستطلعة آراؤهم يرون أن قضايا الإرهاب وحرب العراق كانت أهم ما يواجه البلاد.
الاقتصاد أم العلاقات الخارجية؟
وأذكى تأثير حرب العراق على نتائج الانتخابات الأمريكية النقاش بين المختصين حول تأثير العلاقات الخارجية على الانتخابات الرئاسية.
فهناك فريق يقول إن تتبع نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية يظهر أن الاقتصاد غالباً ما يكون هو عامل الحسم الرئيسي، حتى لو كان لقضايا العلاقات الخارجية (ومن بينها أحداث الشرق الأوسط) تأثيراً متباين متفاوت على نتائج عدد من السباقات الرئيسية، خاصة عندما يتعلق الأمر بمشاركة كبيرة في حرب أو أزمة تتعلق بمواطنين أمريكيين.
لكن في المقابل فإن فريقاً آخر يرى أن قاعدة “إنه الاقتصاد يا غبي” لم تعد صالحة في زمن ثورة الإنترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، مشدّدين على أن المستقبل سيشهد المزيد من التأثير المتبادل بين الانتخابات الرئاسية وقضايا العلاقات الخارجية.