أخبار العالم

ياسين عدنان يلج عوالم محمد نور الدين أفاية .. مفكر حر عابر للمدارات



قال الأديب والإعلامي المغربي ياسين عدنان إن “محمدا نور الدين أفاية هو رجل الفكر المنفتح على الآداب والفنون والأكاديمي الذي طوع خطابه ورشق لغته لتصير قادرة على النفاذ عبر قناة الإعلام”، مضيفا أنه “لم ينغلق داخل منهج صارم، ولا اعتكف في قلب صومعة كتب؛ بل ظل حرا في تنقله النشيط بين مختلف المدارات الفكرية والجمالية”.

واستحضر ياسين عدنان، في مقال له بعنوان “محمد نور الدين أفاية.. مفكر حر عابر للمدارات”، عددا من اللقاءات التي جمعته بأفاية، مشيرا إلى أن “ترفعه الشخصي ونزاهته الفكرية جعلاه يتعالى على الصغائر والشبهات، فظل المثقف فيه متشبثا باستقلاليته الفكرية”.

نص المقال:

أحس أحيانا بأن مبدعي هذا البلد ومفكريه يعيشون في جزر معزولة. التماسات بينهم نادرة والتفاعل قليل. وهو ما ورطهم أحيانا في عدم الانتباه إلى عطاء زملائهم من منتجي الأفكار وصناع الوجدان في مجالات غير تلك التي انغلقوا داخلها؛ لكن محمدا نور الدين أفاية شكل استثناء لهذه القاعدة المغربية، فهو رجل الفكر المنفتح على الآداب والفنون، والأكاديمي الذي طوع خطابه ورشق لغته لتصير قادرة على النفاذ عبر قناة الإعلام، كما عرف دائما كيف يتنفس خارج مدرجات الجامعة واضعا خبرته رهن إشارة المجتمع والمؤسسات.

تلقيت محمدا نور الدين أفاية أول مرة ناقدا سينمائيا. كنت طالبا مواظبا على عروض النادي السينمائي بالرباط، حين وجدت بين أعضاء النادي من يقترح عليّ كتاب “الخطاب السينمائي بين الكتابة والتأويل” الصادر عن دار عكاظ سنة 1988. فوجدتني إزاء كتابة عن السينما تتجاوز التلخيص المبتسر لمضامين الأفلام والانطباعات الصحافية الخفيفة الشائعة في جرائد تلك الأيام. ثم إنه كان أول تأليف مغربي في مجاله. لكن أفاية لم يكن ناقدا سينمائيا متخصصا، بل رجل فكر وفلسفة مشغولا بالحداثة وأسئلتها. وما اهتمامه بالسينما سوى تجلٍّ من تجليات رؤيته للحداثة. وهي رؤية تحرص على استحضار الصورة والمخيلة والتخيل، وترفض أن تسجن الحداثة في تصور ديكارتي يرى العقل وحده القادر على بناء المعرفة والتقدم.

لذلك، لم ينغلق أفاية داخل منهج صارم ولا اعتكف في قلب صومعة كتب؛ بل ظل حرا في تنقله النشيط بين مختلف المدارات الفكرية والجمالية. وصار من العادي أن تصادف أفاية في المسارح ومهرجانات السينما واللقاءات الأدبية. يشتغل تارة ضمن هيئة تحكيم مهرجان للسينما، لتصادفه بعدها بأيام يتابع عرضا مسرحيا في مسرح محمد الخامس قبل أن يشتبك معه في دراسة تفتح العرض وصناعه على آفاق تجدد رؤيتهم لعملهم. ثم يحدث أن تراه يقتعد الصف الخلفي في أمسية شعرية ينصت باهتمام وتضامن مع هشاشة القصيدة ومبدعيها. هناك في إحدى هذه الأمسيات بالرباط، التقيت صاحب “الصورة والمعنى” أول مرة. هكذا إذن، تميز أفاية بذهابه الحر الصديق إلى فضاءات لا يؤمها المتفلسفون المغاربة إلا لماما.

الروح الحية المنفتحة متعددة المدارات التي تجلت في إنتاج أفاية الفكري المتنوع نلمسها بذات الحيوية في مساره كمثقف أكاديمي لم يتقوقع داخل فضاء الجامعة؛ بل حرص على نقل قلقه الفكري وروحه النقدية من مدرجاتها إلى شاشات التلفزيون. هكذا، بصم أفاية على مسار مهم من خلال برنامج “ديوان” الذي قدمه لفترة على شاشة القناة الثانية “دوزيم”، قبل أن يرسخ اسمه كأحد رموز الإعلام الثقافي في بلادنا من خلال برنامجه الأهم “مدارات” الذي قدمه لسنوات على شاشة القناة الوطنية “الأولى”. لكن أفاية اضطر إلى إيقاف مغامرته التلفزيونية ليلتحق بزمرة حكماء المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري. بعدها، عمل خبيرا باللجنة الثقافية للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. وإلى جانب عضويته في المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، أسندت إليه أكاديمية المملكة المغربية مؤخرا مهمة تسيير المعهد الأكاديمي للفنون التابع لها. انخرط أفاية في هذه المهام بلا تردد، فهو من جيل تحرر من تلك الإيديولوجيا التي كانت تعتبر كل اشتغال للمثقف في إطار مؤسسات الدولة انزياحا عن موقعه “الطبيعي” في معارضة “السلطة”. ولعل ترفع محمد نور الدين أفاية الشخصي ونزاهته الفكرية جعلاه يتعالى على الصغائر والشبهات؛ فقد ظل المثقف فيه متشبثا باستقلاليته الفكرية، إذ لم يفقده انخراطه في المهام المنوطة به قلقه النقدي ولا أطفأ جذوة السؤال داخله. هكذا، ظلت روحه النقدية هادئة لا تتوسل الصوت العالي ولا الشعار المدوي، وإنما تفسح لقلقها وأسئلتها المجال عبر الكتابة، وعبر تآليفه الرصينة، بوضوح فكري وأناقة لغوية، وبلا ضجيج.

على الرغم من أن لقاءاتي الشخصية مع محمد نور الدين أفاية تعددت وتوالت، فإن علاقتي به توطدت أساسا من خلال كتبه. فكلما قرأت لأفاية كتابا جديدا إلا وفتحني على أفق جديد، أو على الأقل حرضني على قراءة كتاب أو كاتب كانت معرفتي به معدومة أو سطحية. هكذا، ما إن أنهيت قراءة كتابه “الغرب المتخيل: صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط” حتى وجدتني أبحث بلهفة عن “كتاب الاعتبار” لأسامة بن منقذ لأقرأه بشغف. وما إن أنهيت كتابه “في النقد الفلسفي المعاصر”، خصوصا فصله السادس “التفكيكية في السياق الفكري العربي”، حتى وجدتني أكتشف قارة فكرية مضطرمة اسمها عبد الكبير الخطيبي. أنا الذي كنت أعرف الراحل شخصا، وألم به نصا، كان أفاية بالنسبة لي سبابة حكيمة دلتني على الجوهري في فكر وأدب صاحب “الذاكرة الموشومة” وجعلتني أعود إلى قراءته من جديد. في كتابه “السلطة والفكر” استفزتني قسوته على الإبداع المغربي الذي يعاني من “نقص لافت في التخيل”، وعلى ثقافتنا ذات “البنية الاستنساخية” و”المخيلة التكرارية الناقلة”؛ لكنني كنت أحتاج تلك الخضة لأخفف من غلواء احتفائي، التبشيري تقريبا، بالنبوغ المغربي في المنابر الصحافية العربية التي كنت أشتغل فيها حينئذ. هكذا كنت دائما أستفيد من كتابات أفاية، وأغتني بها.

لكنني لن أنسى قط لقائي الأول معه في أمسية شعرية بحديقة قصبة الأوداية بالرباط. كان محمد نور الدين أفاية قادما للتو من القاهرة وفي حقيبته مجموعتي القصصية الأولى “من يصدق الرسائل؟” الصادرة عن دار ميريت في 2001. يبدو أنه سمع عن المجموعة كلاما طيبا هناك. ثم اطلع بعدها على ديوان “مانيكان” الصادر عن منشورات اتحاد كتاب المغرب عام 2000. وكانت المفاجأة أن الإعلامي الكبير، الذي كان يطل علينا مساء كل أربعاء عبر الشاشة ونحرص على مناقشة مضامين حلقاته في قاعة الأساتذة بالثانوية التي كنت أعمل بها، يتقدم نحوي في رشاقة مهيبة ليدعوني إلى “مدارات”. تهيبت الأمر، على الرغم من أن الرجل كان دافئا في تقديم دعوته.

في ضيافة أفاية، تعلمت أن السؤال ليس نصف الجواب فقط، بل ثلاثة أرباعه. فأسئلته في “مدارات” كانت محركات تحفز على الجسارة وتحرض على ذكاء التجاوب. لذا، لم أستغرب أن خلفت الحلقة صدى طيبا في الوسط الثقافي. وبعد أشهر من بثها، فوجئت باتصال من أفاية يطلبني في لقاء عاجل. صعدت إلى الرباط وأنا أجهل موضوع دعوته. فوجدته ينتظرني رفقة مخرج “مدارات” الأستاذ إدريس أولحيان. فهمت من أفاية أن التحاقه بمجلس حكماء “الهاكا” سيحرم جمهور القناة المغربية الأولى من إطلالته. كما علمت منهما أن مخرج “مدارات” عيّن حديثا مديرا للإنتاج بالتلفزيون. وبه، فقد اتفق الرجلان على أن تستمر لحظتهما الثقافية في شبكة برامج التلفزيون المغربي، واصطفياني لتأمين هذه الاستمرارية. هكذا، استقر رأيهما عليّ دون أن تكون لي أدنى علاقة شخصية مع أي منها.

هناك أشخاص تصادقهم عن عشرة ومعايشة، وهناك آخرون أرواحهم الصديقة تملأ عليك الرحب وتجعلك تتشبث بصداقتهم وتفخر بها مهما شحت فرص اللقاء. ومحمد نور الدين أفاية، رغم شح هذه الفرص، يبقى أحد أصدقائي الكبار الذين بصموا مساري الشخصي إنسانيا، فكريا، ومهنيا، وأنا مدين له بذلك.

÷ نص الشهادة التي حالت ظروف قاهرة دون أن أساهم بها حضوريا في ندوة “الفلسفة والتفكير بالفعل” التي احتضنتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بارباط تكريما للأستاذ محمد نور الدين أفاية يومي الاثنين والثلاثاء سادس وسابع ماي الجاري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى