طريق التنمية: ما سر اهتمام تركيا وقطر والإمارات بالمشروع العراقي؟
- Author, سارة فياض
- Role, مراسلة بي بي سي عربي للشؤون الاقتصادية
في صيف عام 2011، أقام رجل الأعمال العراقي صادق جعفر خيمة عزاء سوداء في محافظة البصرة جنوبي العراق، لتقبل التعازي في “وفاة” أكبر ميناء في بلاده، حتى قبل “مولده”.
كان الرجل الذي تحدثت إليه حينها وكالة رويترز للأنباء، يعتبر قيام الكويت ببناء ميناء ضخم – هو ميناء مبارك الكبير- بمثابة حكم بالإعدام على مشروع ميناء الفاو الكبير، الذي كانت حكومة نوري المالكي التي حكمت العراق آنذاك قد أعلنت عن وضع حجر الأساس لإنشائه قبل 14 شهرا من نصب خيمة العزاء تلك.
لم يمت مشروع حكومة المالكي تماما، لكنه تعثر في مواجهة تحديات عدة.
وبعد أربعة عشر عاما من إعلان حكومة المالكي، أشرف رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني والرئيس التركي رجب طيب أردوغان على توقيع مذكرة تفاهم رباعية إلى جانب كل من الإمارات وقطر للتعاون في تنفيذ مشروع “طريق التنمية”، الذي يبدأ من ميناء الفاو الكبير، وذلك خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العراق الأسبوع الماضي.
فهل يؤذن هذا بقرب تحول المشروع القديم الجديد إلى حقيقة على أرض الواقع؟
من القناة الجافة إلى طريق التنمية
لم تكن حكومة المالكي تطرح خطة جديدة تماما في ربيع عام 2010، فقد شكل مشروع إنشاء ميناء كبير في المدينة المطلة على سواحل الخليج، حلما تبناه العراقيون لعقود طويلة، وتأخر تنفيذه في ضوء الحروب والنزاعات المتلاحقة التي عرفتها البلاد، بدءا بالحرب العراقية الإيرانية وليس انتهاء بالغزو الأمريكي الذي أطاح بنظام صدام حسين عام 2003.
جاء إعلان حكومة المالكي وقتها ليتحدث عن مشروع الميناء بوصفه حجر الزاوية في مشروع “لنقل بضائع العالم ترانزيت من الجنوب إلى الشمال بعد ربطه بالقناة الجافة”، التي كانت تشير إلى خطة لإنشاء شبكة طرق برية تمتد عبر العراق مرورا بسوريا أو تركيا لتصل إلى شواطئ المتوسط.
ورغم الحماسة التي صاحبت الإعلان الحكومي، تأخر تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع، والمتمثلة في بناء كواسر الأمواج، لسنوات عدة، وتباطأت وتيرة العمل فيه، في ظل تجاذبات سياسية عدة وضغوط دولية وإقليمية فضلا عن خلافات بين القوى الفاعلة في العراق الذي سيدخل دوامة جديدة من العنف بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مناطق واسعة من البلاد عام 2014، كما ستشهد البلاد أيضا حالة من عدم الاستقرار مع اندلاع مظاهرات شعبية واسعة ستطيح بحكومة عادل عبد المهدي لتخلفها حكومة بقيادة مصطفى الكاظمي عام 2020.
وبحلول العام 2021 لم تكن البلاد قد أنجزت من المشروع الذي كان من المقرر إنجازه خلال أربع إلى خمس سنوات بتكلفة تقدر بأربعة مليارات دولار، سوى كواسر الأمواج.
وفي أبريل/ نيسان من ذلك العام، زار مصطفى الكاظمي موقع مشروع الميناء، ليضع، مجددا، حجر الأساس، ولكن هذه المرة لإنشاء خمسة أرصفة في الميناء الجديد تنفذها شركة دايو الكورية، فيما أكد المسؤولون الحكوميون أن إنشاء الميناء سيمهد لإنشاء “قناة جافة” تربط الشرق بالغرب عبر الأراضي العراقية.
وسيشهد عهد رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني إعادة تسويق المشروع تحت اسم مشروع “طريق التنمية” وفي القلب منه ميناء الفاو.
وبحسب الحكومة العراقية سيتضمن المشروع، إضافة إلى الميناء، طرقا سريعة وسكك حديد وخطوطا لنقل الطاقة تمتد من أقصى الجنوب العراقي وصولا إلى الحدود العراقية التركية في فيشخابور، بتكلفة تبلغ 17 مليار دولار، على أن يتم إنجاز المشروع على ثلاث مراحل تنتهي الأولى عام 2028، والثانية عام 2033، والثالثة عام 2050.
يرى الباحث العراقي صفاء خلف أن الحكومات العراقية المتعاقبة على حكم البلاد منذ عام 2010 حاولت استخدام المشروع “للتسويق لإنجاز ما للشعب العراقي”، الذي يعلق آمالا كبيرة على مشروع الميناء والطريق البري.
بدوره يشير الزميل الزائر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية حمزة حداد إلى وجود ما يبدو إجماعا سياسيا على أهمية المشروع للعراق، الذي “عمل عليه جميع رؤساء الوزراء الذين مروا على البلاد منذ انطلاقته بشكل أو بآخر.”
ويعتقد حداد أن حكومة السوداني “اختارت مشروع طريق التنمية ليكون العنوان الأبرز لها، وليمثل إرثها السياسي”، ولذا فهي “تدفع جديا” نحو إتمامه على الأرض، مشيرا إلى إن العراق بدأ يعرف شيئا من الاستقرار قد يسمح بإنجاز المشروع.
هل يعني هذا أنه متفائل؟ يجيب حداد قائلا “عندما يتعلق الأمر بالعراق علمتني التجربة أن أتريث حتى أرى شيئا ملموسا على أرض الواقع، وبالنظر إلى الجداول الزمنية المعلنة من الحكومة فمن الواضح أننا لن نرى شيئا حقيقيا على الأرض قبل 10 سنوات”.
سر الاهتمام التركي
نظرا لطبيعة المشروع الذي يلعب فيه العراق دور نقطة الوصل، يمثل إقناع الأطراف الإقليمية بالوقوف وراء المشروع واحدا من أكبر التحديات التي يجب على العراق تذليلها.
ويرى حداد أن العراق نجح في استمالة تركيا لدعم المشروع، خاصة بعد استبعاد أنقرة من مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والخليج وأوروبا، والذي تم الإعلان عنه خلال قمة العشرين في سبتمبر/أيلول 2023، وهو ما “دفع الأتراك إلى تبني المشروع العراقي بقوة وزخم أكبر”.
بدوره، يؤكد خبير الشؤون العراقية في مركز دراسات الشرق الأوسط في أنقرة، الدكتور بلجاي دومان، أن الاهتمام التركي بالمشروع العراقي يأتي ضمن إطار أوسع من تغير أولويات السياسة الخارجية التركية التي باتت تركز على التعاون مع دول الإقليم ونبذ الخلافات.
ويشدد دومان أن التباحث التركي العراقي بشأن المشروع بدأ قبل الإعلان عن مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، ويشير إلى أن “المشروع هو في الأساس مشروع عراقي، وبالتالي ما حدث هو أن العراق بات كثر انفتاحا على المشاركة التركية في المشروع، وهو ما رأيناه خلال الزيارة التي أجراها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى تركيا في مارس/ آذار من العام الماضي”.
يعرب دومان عن “تفاؤل شديد” بنجاح المشروع، مبررا ذلك بحرص كلا الدولتين على المضي قدما به في ضوء الفوائد التي ستعود عليهما، وحاجة كل منهما إلى تحقيق منافع اقتصادية، فتركيا بحاجة إلى تقوية اقتصادها الذي عاني من أزمات عدة، فيما يسعى العراق إلى تنويع مصادر دخله بعيدا عن النفط.
ويشير إلى أن “نصف المشروع متحقق بالفعل، فتركيا تملك البنية التحتية اللازمة التي يحتاجها المشروع على الجانب التركي وما تبقى هو تأهيل وبناء البنية التحتية في الأراضي العراقية”.
لكن هذه النقطة تمثل تحديا كبيرا للمشروع بقدر ما هي مبعث للتفاؤل عند الدكتور دومان.
فالباحث العراقي صفاء خلف، يشير إلى أن العراق لم يحل حتى الآن عقدة التمويل في المشروع. فالعوائد التي يتوقع أن تجنيها البلاد من المشروع بواقع 4 مليار دولار سنويا، لن تبدأ قبل إنجاز المرحلة الثانية منه عام 2034، حسب ما يشير الإطار الزمني المعلن من الحكومة، هذا على فرض عدم حصول تأخير.
في المقابل، يضيف خلف، لا يبدو أن أيا من الدول الثلاث الموقعة على مذكرة التفاهم قد أبدت استعدادها لتمويل المشروع، ما يعني أنه سيكون على العراق تمويله “بموارد ذاتية”، في وقت تعاني فيه الميزانية العراقية أصلا من كثير من الضغوط.
يتفق حمزة حداد من المجلس الأوروبي مع هذا التقييم إلى حد كبير، ويوكد أن الاعتماد الكبير على عوائد النفط التي تمثل 90٪ من إيرادات البلاد، وتضخم القطاع العام، يجعل من البلاد عرضة لعدم الاستقرار في حال أي تراجع لأسعار النفط، ويعرض ميزانيتها لضغوط كبيرة، ما يجعل من مستقبل المشروع وقدرة الحكومة على تمويله أو التزامها بذلك رهن تقلبات أسعار النفط.
لكن خطر عدم الاستقرار الذي يخيم على العراق لا يرتبط فقط بأسعار النفط، فهناك أيضا الخلافات المستمرة بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، التي سيمر جزء من المشروع عبر أراضيه، هذا فضلا عن نشاط حزب العمال الكردستاني في المناطق الشمالية من العراق، وما قد يمثله من خطر أمني يبدو أن تركيا تسعى لتحييده.
دور تأخر 20 عاما
على الرغم من كل هذا يبدو أن جيران العراق الخليجيين، أو بعضهم على الأقل، بات ينظر للعراق بوصفه وجهة واعدة للاستثمار. فبعد أن تقاسمت إيران وتركيا السوق العراقية على مدار عقود، تبدو دول خليجية عدة مهتمة بتطوير العلاقات الاقتصادية مع بغداد، بعد تأخر “دام 20 عاما”، كما يقول زميل المجلس الأوروبي حمزة حداد.
لكن الدكتور عبد الخالق عبدالله، أستاذ العلوم السياسية من الإمارات يختلف جزئيا مع هذا التقييم. ويؤكد أن دول الخليج العربية وقفت إلى جانب العراق لسنوات، مرجعا أي تأخر في دورها إلى ” أوضاع عراقية داخلية كانت معادية للوجود العربي بحكم التغلغل الإيراني في النسيج السياسي والاجتماعي العراقي، وسعي المشروع الإيراني إلى الحد من علاقة الخليج بمحيطه الإقليمي والعربي.”
تغير هذا في السنوات القليلة الماضية، التي عرفت تحسنا كبيرا في الوضع الأمني والسياسي، بحسب الدكتور عبدالخالق عبدالله الذي يؤكد: “شتان ما بين عراق 2014 وعراق 2034”.
ويرى حمزة حداد أن قطر كانت سباقة للاستثمار في العراق مقارنة بجيرانها الخليجيين، مشيرا إلى استحواذ شركة قطر للطاقة المملوكة للدولة على حصة تبلغ 30 ٪ من مشروعات شركة توتال الفرنسية في العراق، بعد أن كانت الشركة قد وقعت عقدا مع الحكومة العراقية لتنفيذ مشروعات للنفط والغاز والطاقة المتجددة بقيمة ٢٧ مليار دولار.
وتبدو قطر مهتمة بتوفير مشروع طريق التنمية ممرا لوصول صادراتها من الغاز إلى تركيا ومنها إلى أوروبا عبر العراق، وهو الأمر الذي يمثل واحدا من أهداف تركيا التي تسعى لتكون مركزا لنقل الطاقة في المنطقة والعالم.
تكامل أم تنافس؟
أما الإمارات فيقول الدكتور عبد الخالق عبد الله، إن مشاركتها في المشروع نابعة من اهتمامها في المشاركة بل وأخذ زمام المبادرة لتأسيس عدة ممرات لنقل البضائع والركاب بين مناطق العالم، إذ إنها من بين الدول المشمولة في الممر الهندي الشرق الأوسطي الذي يصل إلى أوروبا.
وكانت شركة موانئ أبوظبي قد وقعت في أبريل/نيسان الجاري اتفاقا لتطوير ميناء الفاو الكبير مع الشركة العامة للموانئ في العراق.
فهل تكون الإمارات بذلك منخرطة في تطوير ميناء يتوقع البعض له آن ينافس موانئها؟
يستبعد الدكتور عبدالخالق عبدالله آن يكون “هناك ميناء قادر على منافسة موانئ الإمارات في المنطقة”، مضيفا أن الدولة الخليجية تسعي إلي أن تكون “ميناء العالم ومطاره”، وقد قطعت في ذلك أشواطا كثيرة.
لكن الأكاديمي الإماراتي يستدرك مستبعدا فكرة التنافس بين موانئ المنطقة وممراتها بشكل عام، “فحجم التجارة العالمية يزداد بشكل سنوي، ما يجعل من تعدد الممرات بابا للتكامل وليس التنافس فيما بينها.”
لكن كلام الدكتور عبدالخالق لا ينفي أن الجغرافيا قد تفرض وجود شيء من التنافس بين بعض الموانئ التي أنشئت في المنطقة خلال الأعوام الأخيرة، خاصة في منطقة الخليج حيث تطرق دول عدة أبوابا متشابهة في مسعاها لتنويع مصادر دخلها.
يؤيد الباحث العراقي صفاء خلف هذه الفرضية، ويشير إلى تقارير كثيرة سابقة كانت قد تحدثت عن عروض قطرية وكويتية، من بين عروض أخرى، “قدمت للعراق تمويلا لمشاريع تنموية أو أطروحات لتطوير ممرات ربط بري وسككا حديدية مقابل التخلي عن فكرة ميناء الفاو الكبير”.
ويلفت خلف إلى أن المعارضة الأكبر لمشروع طريق التنمية انطلاقا من ميناء الفاو قد تأتي من الكويت، التي تخشى علي مستقبل مينائها في مبارك الكبير، والذي لا يفصله عن ميناء الفاو سوى بضعة كيلومترات.
يؤيد حمزة حداد هذا الطرح داعيا الحكومة العراقية إلى تبني سياسة خارجية تقوم على تحسين العلاقات مع الكويت وحل الأمور العالقة في ملفات الحدود والتجارة وغيرها.
وماذا عن إيران وسط هذا كله؟
يستبعد حمزة حداد أن تلعب طهران دورا معطلا في العراق الذي “بات بوابتها على العالم في ضوء استمرار العقوبات المفروضة عليها”.
بدوره يرى صفاء خلف أن عدم اعتراض إيران على المشروع قد يكون نابعا من قدرتها على الاستفادة منه مستقبلا عبر مد طرق فرعية. وبينما يشير الدكتور دومان إلى العلاقات الجيدة التي تجمع أنقرة وطهران بوصفها أساسا يمكن منه الانطلاق إلى توسيع مظلة التعاون في المنطقة، يقول الدكتور عبد الخالق عبدالله إن الدول الخليجية تراهن على تبلور مسار وطني عراقي يعمل من أجل عراق منفتح على جيرانه في الخليج والعالم العربي وليس على الجارة الإيرانية وحدها.