“كائناتٌ مسكينة”: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ”النظرة الذكورية”؟
- Author, جوي سليم
- Role, بي بي سي نيوز
نال الفيلم الأخير للمخرج اليوناني يورغوس لانثيموس “كائنات مسكينة” (بور ثينغز) ثناءً نقدياً وجماهيرياً كبيراً، لا سيما بعدما حصد جوائز مهمة آخرها نيل الممثلة الأمريكية إيما ستون جائزة الأوسكار كأفضل ممثلة عن دور “بيلا باكستر” وهي الشخصية الرئيسية في الفيلم.
وأثار الفيلم نقاشاً حول ما إذا كان يمكن اعتباره “فيلماً نسوياً”، كما أن بعض المشاهدين والنقّاد وضعوه في موازاة فيلم “باربي” الذي رُوّج له في الصيف الماضي على أنه فيلم نسوي. خصوصاً أن الفيلمين يرويان قصة امرأة صنعها رجال، تقرّر اكتشاف العالم الحقيقي بحثاً عن المعنى وعن تحقيق الذات، فتصدمها قسوة الواقع خارج أسوار عالمها الطفولي المصطنع.
ورأى البعض أن فيلم لانثيموس المقتبس من رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب الاسكوتلندي ألسدير غراي، يستحق عن جدارة أن يوصف بالفيلم النسوي لا فيلم غريتا غرويغ الذي طغت عليه نزعةٌ تجارية.
لكن لانثيموس رفض تصنيف فيلمه كفيلم نسوي. لا يحبّ المخرج اليوناني الذي اشتهرت أفلامه بسوداوية ساخرة أو بقسوة مرحة، إن جاز التعبير، تحليل أفلامه وموضوعاتها، لأن ذلك برأيه يجعل العمل يبدو “أحادي البُعد” وكأنه يركّز على جانب واحد منه فقط، في حين أنه يحاول أن يصنع أفلاماً “أكثر انفتاحاً من ذلك”، على حدّ قوله.
“نسوية ناقصة”
مع ذلك، من الصعب أن تشاهد “كائنات مسكينة” من دون الانتباه إلى الخطاب النسوي الذي ينطوي عليه. ظهر ذلك في قصة بيلا، المرأة التي “خلقها” الطبيب العبقري غودوين (ويليم دافو) بعدما زاوج بين جثة امرأة حامل حاولت الانتحار عن جسر لندن وبين دماغ جنينها الذي زرعه في جسدها، في تنويع على ثيمة فرنكشتاين. يخلق الطبيب كائناً لديه فضول ونهم كبير لاكتشاف العالم، عبر العلاقات الجنسية والسفر ثم عبر قراءة الفلسفة والعمل في الجنس في بيت للدعارة في باريس، في رحلةٍ طويلة وغنية تجعل من هذا الكائن المصطنع ذاتاً مستقلة مع نهاية الفيلم.
كل هذا من المفترض أن يجعل من الفيلم قصة نسوية بامتياز ترصد رحلة تحرر امرأة مسجونة في عالم الرجل – الإله، تصل في ختامه إلى التخلّص من أغلالها وإلى نيل استقلالها بشكل كامل ثم اختيارها الزواج من الرجل الوحيد في الفيلم الذي عاملها كندٍّ ولم يحاول السيطرة عليها.
لكن الفيلم ناله العديد من الانتقادات حول شوائب السردية النسوية التي يقدمها إلى حدّ أن البعض وصفه بأنه “مجرد استيهام لرجل عن امرأة شهوانية”، وهو واحد من الكليشيهات المعتادة تاريخياً عندما يقارب الرجل حرية المرأة من خلال علاقاتها الجنسية مع الرجال فقط. وكأن لانثيموس صنع فيلماً عن تحرر المرأة من وجهة نظر الرجل التقليدية عن ذلك.
صحيفة الغارديان البريطانية أفردت صفحاتها لنقاش نسوية فيلم لانثيموس، حيث جمعت آراءً متعددة ومتناقضة حول الفيلم. أحد هذه الآراء كان تعليق سميرة أحمد، المذيعة في راديو بي بي سي 4 وأمينة منظمة “مركز عدالة المرأة”، والتي رأت أن رحلة “اكتشاف الذات” التي تخوضها بيلا سرعان ما تتحول إلى رغبة لا تشبع لممارسة الجنس مع أكبر عدد ممكن من الرجال، وهذه “واحدة من أقدم أساطير الرجال المعتدين على النساء”.
من جهتها، قالت زوي ويليامز، الكاتبة في الغارديان أن الفيلم “يحقّق أمنيات مباشرة للنظام الأبوي السام: جسد امرأة بالغة مع دماغ أشبه بصفحة بيضاء، هذا هو الكوكتيل المثالي للمرأة بالنسبة لهذا النظام”. عند هذه النقطة، أشار العديد من التعليقات إلى أن مشاهد الجنس في بداية الفيلم تحيل على البيدوفيليا، حيث أن بيلا التي اكتشفت اللّذة الجنسية للتو، تمتلك عقل طفل. وأثارت هذه المشاهد بالذات عدم ارتياح لدى الكثير من المشاهدين، في حين اعتبر آخرون أن وصفها بالبيدوفيليا فيه مبالغة ما، حيث أن أعمال لانثيموس السابقة، خصوصاً محتواها الجنسي، لا طالما بعثت شعوراً بالانزعاج لدى المشاهد.
ولعلّ المشكلة الأكبر في نظر المنتقدين تمثّلت في علاقة بيلا بالطبيب، خصوصاً مع عودتها إلى حضنه في نهاية الفيلم، ما يُعدّ برأيهم رمزاً لاستمرار تبعيتها للنظام الأبوي… ويدلّ على أن نسوية الفيلم المفترضة ظلّت “نسوية ناقصة”.
سجن “النظرة الذكورية”
مثل أفلام شهيرة أخرى أخرجها رجال، عالجت موضوع جنسانية المرأة أبرزها “شبق” (نمفومانياك) للارس فون ترييه و”حياة أديل” (بلو إز ذي وورمست كولور) لعبد اللطيف كشيش، أثار “كائنات مسكينة” انتقادات لكونه برأي كثيرين يصوّر الحياة الجنسية للمرأة وفقاً لـ”النظرة الذكورية” وللمخيّلة التقليدية للرجل.
ذلك في مقابل أفلام أخرى مثل “صورة لسيدة تحترق” (بوتريت أوف إي ليدي أون فاير) لسيلين سياما التي أرادت من فيلمها الإيروتيكي أن يقلب الصورة النمطية لجنسانية المرأة على الشاشة الكبيرة وأن يعالجها بعدسة مغايرة عن تلك التي اعتاد معظم المخرجين الرجال استخدامها.
في فيلم لانثيموس، “لكل امرأة شعرت بالقوة وهي تشاهد قصة بيلا على الشاشة، شعرت خمس أخريات بالحرمان من تصوير حقيقي لتجربة الأنثى. بالنسبة للبعض، انحرف الكم الهائل من الجنس على الشاشة إلى خيال ذكوري عن الأنوثة، من إخراج وكتابة رجل، ويجسد النظرة الذكورية”، بحسب ما كتبت الكاتبة إيون غامبل في الغارديان.
في النظرية النسوية، تتمثل “النظرة الذكورية” (male gaze) في فعل تصوير النساء والعالم في الفنون البصرية وفي الأدب من منظور ذكوري مغاير الجنس يقدم النساء كأشياء جنسية لمتعة المشاهد الذكر مغاير الجنس. في العروض البصرية والفنية للسينما السردية، يكون للنظرة الذكورية ثلاثة زوايا نظر: وجهة نظر الرجل الذي خلف الكاميرا، والشخصيات الذكورية في التمثّلات السينمائية للفيلم، والمتفرّج الذي يحدق في الصورة.
استُخدم مفهوم “النظرة” في هذا السياق للمرة الأولى عام 1972 من قبل الناقد الفني البريطاني جون بيرجر في برنامج “طرق الرؤية” (ويز أوف سيينغ)، والذي يقدم تحليلات لظهور النساء كأشياء ساكنة/ سلبية تكون موضوعاً للنظر في الإعلانات وكمواضيع عارية في الفن الأوروبي. ثم وظفت المُنظّرة السينمائية النسوية لورا مولفي مفاهيم “النظرة” في نقد التمثلات التقليدية للمرأة في السينما، والتي نتج منها مفهوم ومصطلح “النظرة الذكورية”.
ترى مولفي في مقال “المتعة البصرية والسينما السردية” (1975)، أن انعدام المساواة بين الجنسين أي عدم تساوي السلطة الاجتماعية والسياسية بين الرجال والنساء، هو قوة اجتماعية مسيطرة في التمثلات السينمائية للنساء والرجال. “النظرة الذكورية” أي المتعة الجمالية للمشاهد الذكر هي “مركّب اجتماعي” مستمد من أيديولوجيات وخطابات النظام الأبوي، برأيها.
خطابٌ عفا عنه الزمن؟
في فيلم لانثيموس، تبدو رحلة بيلا باكستر من الطفولة إلى النضج والتي يرصدها الفيلم بخطٍ زمني واضح، طريقها لـ”الخروج من القصور إلى الرشد العقلي”، وهي الكلمات نفسها التي أجاب بها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط على سؤال “ما هو التنوير؟”.
يظهر عقل الطفل المزروع في جسد امرأة بالغة وتعطّشه إلى اكتشاف العالم (والعالم في الفيلم لا يتجاوز عدد من المدن الأوروبية الكبرى إلى جانب التعريج على مدينة الاسكندرية التي يصوّرها كبؤرة فوضوية للأشخاص البؤساء) والخلاص من القيود المتعددة التي تكبّل بيلا، كاستعارة لكونيّة خطاب الحداثة الذي يؤكد على تفرّد كل إنسان واستقلالية عقله.
مثّل هذا الخطاب قطيعة مع تاريخ ممتد من الفلسفة الإغريقية جمع دائماً بين العقل والجسد، أو الجسد والروح، ما جعل النساء تحديداً لقرون طويلة يرزحن تحت عبء اعتبارهن كائنات “ناقصة” لكون بنيتهنّ الجسدية مختلفة عن الرجال، ما عنى حتى ذلك الوقت أنهن يتمتعنّ بخصائص عقلية أدنى.
كان الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت صاحب الفضل في تلك القطيعة، حين قسّمت نظريته وحدة العقل والجسد، فأصبحنا أمام فكرةٍ تشكّل حجر أساس سيخدم خطاب تحرّر المرأة في ما بعد وهي ببساطة أن “العقل لا جنس له” وأن دماغ الرجل مساوٍ لدماغ المرأة ويعملان بالطريقة نفسها.
كما يشير الفيلم إلى أحد المذاهب المنبثقة من فلسفة التنوير وهو المذهب التجريبي. وقد أشارت بيلا إلى ذلك حين استخدمت مصطلح “إمبيريقي” (تجريبي) في حديثها مع دانكن ويديربرن (مارك رافالو) الذي ثار مندهشاً من معرفتها بكلمات مشابهة في وقتٍ ينقص دماغ الطفل الذي تمتلكه معارف أكثر بديهية. يرى التيار التجريبي أن المعرفة الإنسانية تُستمد من التجربة الحسّية فقط، وليس من العقل وحده.
إذاً يبدو فيلم لانثيموس يتحرّك ضمن هذه الرقعة من الأفكار التي وإن كانت ثورية في زمنها، إلا أنها تبدو اليوم، بعد تراكم نضال النساء خلال خمسة قرون تلت، وكأنها أفكار تجاوزها الزمن.
من هنا جاءت انتقادات عدّة للفيلم اعتبرت خطابه النسوي “بدائي” ولا يضيف أي جديد في هذا المجال، لا سيما أن أفكار الحداثة نفسها نالها مع الزمن انتقادات كبرى، أبرزها أن أفكار مثل العقلانية والتنوير تمركزت بشكل كبير حول الرجل الأوروبي ولم تنهِ التمييز ضد النساء أو ضد الفئات المستضعفة عموماً.
العمل في الجنس “طريقاً إلى التحرر”
عندما تصل بيلا إلى باريس مع عشيقها المهووس بها دانكن ويديربرن والذي أدى مارك رافالو دوره ببراعة، تكتشف أن بإمكانها الحصول على المال مقابل ممارسة الجنس الذي لا تعرفه عنه أكثر من كونه “قفزاً غاضباً” كما تسمّيه وأنه يجعلها سعيدة. تختار العمل في بيت باريسي للدعارة بعدما أنفقت أموال دانكن كلها على ما اعتقدت أنه سيذهب لمساعدة “الناس الفقراء” في الاسكندرية.
هذا الحدث وصفه عدد من النقاد بأنه جوهر الأزمة في فيلم لانثيموس الذي اتجه، مثل الكثير من الرجال التقليديين، إلى إضفاء رومانسية على عمل النساء في الجنس متجاهلاً المأساة خلف ذلك.
هناك جدل تاريخي في الحركة النسوية الغربية حول مفهوم ممارسة النساء الجنس مقابل المال. انقسمت النسويات طويلاً إلى معسكرين حول هذه المسألة: معسكر يرى أن عمل المرأة في الجنس نادراً ما يكون آتياً من قرار حرّ وأنه في معظم الأحيان ناتج عن عبودية قديمة، موروثة من النظام الأبوي تتضمن عدم تكافؤ عميق بين الزبون الذي يسعى إلى المتعة من وقت لآخر وبين الشخص الذي يتعين عليه، لأسباب الضرورة، أن يقوم بعلاقات جنسية متسلسلة غير متوافقة مع رغبته الخاصة. بالنسبة لهذا المعسكر، “تجارة الجسد” هي نفيٌ للذات. وحتى عندما يتم اختيار هذه التجارة بحرّية، فإن “حرية الخضوع” أو “السماح للذات بأن تكون مُستعبَدة”، هو أمر ينطوي على تناقض.
في المقابل، يتم انتقاد هذا الموقف عادةً بكونه لا يشذّ عن الأبوية، وعن النظر إلى العاملات في الجنس كضحايا بالضرورة. ويتهم المعسكر المقابل النسويات اللواتي يناضلن ضد العمل في الجنس بكونهن يشبهن النساء اللواتي يطالبن من أخريات نزع الحجاب “لتحريرهن” أو عدم استخدام الماكياج على سبيل المثال، لنفس السبب. كلها أساليب تنطوي على نزع أهلية المرأة من التصرّف بجسدها بحرّية مطلقة، وإملاء عليها ما يجب أن تقوم به، وهو ما يفضي في النهاية إلى عودة السيطرة الأبوية على هذا الجسد، حتى ولو كان بحجج نسوية أو صادرة عن نسويات.
تتبنى صاحبات هذا الرأي موقفاً ليبرالياً يرى أن لكل امرأة حرية مطلقة في التصرف في جسدها، وعملها في الجنس ليس إلا تعبيراً عن حريتها الشخصية. وأنه لا يحق لا للدولة ولا للمجتمع التدخّل في النشاط الجنسي لأي امرأة طالما أنه يحصل بالتراضي. كما أنه بالنسبة لهن، من الضروري الفصل بين العقل والجسد، حيث أن العقل يستخدم الجسد في العمل كأداة.
فلماذا نجرّم من يستخدم أعضاءه الجنسية لكسب المال ولا نجرّم لاعب كرة القدم مثلاً الذي يحقق أموالاً طائلة من جسده؟ أو عامل البناء؟ برأي هذا المعسكر، ليس هناك سبب آخر سوى الموروث الكبير، الديني والثقافي، المرتبط تاريخياً بالأعضاء الجنسية (عند النساء خصوصاً). فكل شخص يقدّم قوة عمله في سبيل العيش، هو يبيع جزءاً أو آخر من جسده. لكن العار لا يلحق إلا بالعاملات في الجنس دوناً عن كل الآخرين.
ضمن هذا السياق، تقول بيلا التي بدأت قراءاتها للتو عن الاشتراكية “نحن وسائل إنتاجنا الخاصة”، في إشارةٍ إلى أن عملها في الجنس هو فعل تحرّري يقلب علاقات القوّة.
غير أن الماركسية نفسها التي استعارت بيلا كلماتها منها، ترى في العمل في الجنس أحد وجوه استغلال الرأسمالية للنساء وأن هذا المجال الذي ألحق الظلم بعدد لا يحصى من النساء عبر التاريخ هو ابن للملكية الخاصة تماماً مثل الزواج الذي يعد الوجه الآخر للعملة نفسها، برأي فريديرك إنجلز في كتابه أصل “العائلة والملكية الخاصة والدولة”.
دفاعاً عن لانثيموس
هذه الانتقادات لا تدين العمل بقدر ما تدعو إلى النظر إليه من زوايا مختلفة. وربما يمكن القول إنها غفلت أحياناً الحقبة التي تقع فيها أحداث الفيلم والرواية قبله وهي العصر الفيكتوري مع نزعة مستقبلية.
ويجدر القول إن نقد معالجة لانثيموس لجنسانية المرأة بهذا الشكل، يبدو أيضاً نقداً أورومركزياً، أي أنه يغفل أن جمهور المشاهدين يطال أيضاً مجتمعات لا تزال تعتبر جنسانية المرأة وتعاملها مع متعتها من دون اعتذارية وبصورةٍ متجاوزة للشعور بالعار، أموراً من المحرّمات.
وعلى الرغم من المقاربة التي نحت أحياناً إلى “النظرة الذكورية”، إلا أنه من الصعب التقليل من أهمية الجنس كعنصر رئيسي في أي رحلة تحرّر إنسانية، خصوصاً حين نفكّر في مجاز أننا نشاهد في هذا الفيلم فعلياً امرأة ميتة. وكأن اكتشاف الرغبة واللذة الجنسيتين هو ما أعاد في الواقع إحياء تلك الجثة، ما يذكّر بقول الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي إن “الإيروتيكية هي الاعتراف بالحياة حتى الموت”.
في النهاية وبالعودة لوجهة نظر الكاتبة إيون غامبل التي ترى أن “كائنات مسكينة” ليس فيلماً نسوياً، هي تؤكد في الوقت نفسه أن “النسوية نفسها ليست صفة يمكننا أن نطلقها على الوسائط التي تعكس فقط قيمنا الأخلاقية. فأنا أفضّل مشاهدة سردية فوضوية معقّدة تجعلنا نفكّر في عالمنا، على أن يتم إطعامنا بالملعقة حكاية نسوية مثالية”.