ألف حكاية وحكاية” .. العلوي يجول في عوالم الثراء والابتهاج المعرفي
قال الدكتور مصطفى غلمان إن من يقرأ مغزى انتقالات الكاتب والمؤرخ عبد الله العلوي عبر جغرافيا ومناحي المتن التأليفي في كتاب “ألف حكاية وحكاية”، سيجد أن الصياغة العامة جاءت لتكسر قواعد البناء المتداعي للفكرة الأساس.
وأضاف الأكاديمي ذاته ضمن مقال توصلت به هسبريس معنون بـ”حكايات مراكش بلغة التاريخ والمرويات” أن طبيعة مقاربة الكاتب العلوي، ومدى تمكنه من استحضار عدة سخية، تتشكل من طفرات، يمكن اختزالها في تمكنه من الإحاطة بمزيج من الثقافات يمتزج فيها التاريخي بالأدبي، والعلمي بالفلسفي، واللغوي بالبلاغي.
وشدد على أن حكايات مراكش تنبري إلى توصيف المرتقى وتأصيل ما نذر في أوثاق المنكتب والشفاهي وإعادة تصحيح مواقعه وبياناته وحضوره في الماهيات والأحوال المتعاقبة.
حكايات مراكش بلغة التاريخ والمرويات
كتاب “مراكش: ألف حكاية وحكاية” للمؤرخ عبد الله العلوي:
“قد يعيد التاريخ نفسه مرات عدة، لكن سعره يتضاعف مع كل مرة” ـ مارك توين.
في البدء:
الكتابة عن مدينة مراكش ليست حديث عبور أو انتقال مَا بَيْنَ ضِفَّتَي تاريخ حضارة سدرت عروشا متعاقبة، وحيرت شواهد مبثوثة في سُرادِقات الكون ومرائي الحيوات. فهي قابضة على كل تلك الأبعاد والمفارقات، مُتكمِّشة على فرائدها ونواميسها.
والحاذقون المتأملون في هذه الصنعة المبهرة، يجدون الاقتران بمراكش، شَطَارة واستنارة لا يدركها غير الممسوس بقوة روحها، المتنعم ببركات وصالها ووصلها. ومنهم، وهم قلة صافية، من لا يبلغ المراقي، يفيض بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، ويعود أكثر انتماء للماء وأبدل في الحجة وأنقى في الإصغاء للتاريخ والمناط حد الإسكار والتورية.
من هؤلاء الأخيرين، المؤنس الراوي الحصيف، صاحب الموسوعية الأستاذ مولاي عبد الله العلوي، الذي استوثق أمانة الكتابة باستحضار مراكش، حضارة وإنسانا وطبائع وسلوكيات وموروثات، وآثارا ومعمارا وعلوما وفضائل.. إلخ.
وحول هذا العطاء الراسخ، يتَمَطَّى الباحث العلوي على قياسات علمية وتاريخية صلبة، تتكئ على نجود القراءة والاستطلاع المتفرد، وتطوير أنساق الأسئلة ومراسيها، أبدالها وأحوالها، في المراتب والاقتدار.
مصائد تاريخية:
في هذه المُكْنَة النَّشطة المتحركة، يقع كتاب “مراكش: ألف حكاية وحكاية” لكاتبنا الباحث والمؤرخ الأستاذ عبد الله العلوي، والصادر عام 2021عن المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش، وقد صدَّرَته مقدمة للأكاديمي الأستاذ حسن أوريد، أجاد من خلالها في وضع تأسيسات سوسيولوجية لطبيعة الكتاب وأفكاره وارتهاناته.
وقد وضع أوريد لهذه التأسيسات، أبنية وعلامات استنبط أغلبها من متون التاريخ وأوعيته الثقافية التأصيلية وتبعاتها الأخرى من قطوف الشعر والآداب وفنون السرد وعبقرية الاختيار.
ومن ضمن تلكم التلمسات المبينة، اكتناهه لمطلب “التراث الشعبي”، وافتئاته لمطعمة الساحة الشهيرة بكل تفاصيل تفاصيلها، الشفاهية والاجتماعية والإنسانية، واستحضاره بنظرة الهائم السائح، جوانب مغمورة ثاوية، من جنونها وألوان مَضَائها، وتحولاتها في السيرورات والمتاحف الزمنية والتاريخية، حتى لكأن أوريد ليُصيخ بالوجدان والقلب، مناقب الأهواء ومفاخرها القصية التي لا تنفذ دون ذكر عاصمة القول ومدلولها في “الألف حكاية وحكاية”، مستعرة بين قطوف وروايات وأسمار ورؤى وأعمال مبثوثة هنا وهناك، تحت رقابة المعلوم بالضرورة من غير افتقار إلى نظر واستدلال، ومن غير قبول للتشكيك، أو استرابة أو تناقض مخل.
ولأن البداية بالضرورة، تكون بعتبة المعنى، باعتباره كائنا مصيريا، لا يمكن تجاوزه أو اعتباره “نتيجة سطحية أو لَمَعَان”، أو أن ما يخترقنا في العمق، ما يوجد قبلنا، وما يسندنا في الزمان والمكان، فإن الباحث العلوي، يقبض على جمر تينك النظرية بنواجد الإمتاع وسمو المقصد، وليس “التسلية” و”التكشف على الهوامش” و”الاستطراد المشوب بعماء الفهم”..؟، ومن وحي ذلك، كتب الأستاذ أوريد قائلا: “يقوم مولاي عبد الله العلوي بنفض الغبار عن هذه التحفة الثقافية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، فكان هذا العمل قطر، وعساه أن يعقبه غيث، غما في جهد موصول به، أو قد تستحث الحمية ذوي الهمم. ولن يقدر على ذلك إلا من درج في رحاب مراكش، وتشبع بروحها وشغفته حبا، وهو حال مولاي عبد الله، لم يصرفه انخراطه في القضايا العامة، ولا دراساته الحقوقية، ولا اشتغاله بالمحاماة أن يفي بدين واجب في حقها”.
سرديات جامع الفنا:
معظم الباحثين عن أسرار فتنة ساحة جامع الفنا وشخوصها وفضاءاتها، تجاسروا باستكناه أهم قيمها الثقافية الشعبية، المنقادة خلف ميراث كبير من المأثورات المشكلة لجماع الملاحم والسِّيَر الشَّعبيّة والرّقصات والأغاني والأمثال والألغاز والحكايات الشعبيّة، وما يشملها أيضًا من المعتقدات والعادات والتقاليد، بالإضافة إلى مختلف الفنون والحِرف اليدويّة التقليديّة.. إلخ.
كل ذلك لا يتأتى دون الوقوف على معالم الفرجة والترفيه الذي لا ينشغل فقط بالاستمتاع بمشاهدة عروض مروضي الأفاعي ورواة الأحاجي والقصص، والموسيقيين، بل يقوم من ضمن ما يقوم على المصطلح السردي الدقيق، الذي يستأثر التفاصيل والخلفيات وفهم العلاقات وتأثيراتها، مع ما يشكل ذلك من اندماج إنساني ووجداني في المجتمع وطريقة العيش.
لا يستعصي على الكاتب العلوي، التوصيف المحكم والدامغ، لوشائج الهوية كما يمنحها هو، من قوة استعصاء الشدائد، في شخصية الإنسان المراكشي (البهجة)، أو مدى استبصاره لآمال رؤيته للمستقبل، وبحثه المتواصل عن فعالية أو هدف وجوده ودوره في المجتمع. ويرى العلوي، أن سيرورة هذه القيمة، في بنية العيش لدى المواطن التاريخي، هي بوصلة لتأمين ارتقائه وتحوله، من مجرد كائن مستهلك، إلى عقل منتج وإيجابي.
وتتحول هذه الثنائية المستبصرة لمعالم انتقال المراكشي، من حال إلى حال، ومن منظومة عيش إلى أخرى، وفق هذا التشاكل الزمني والتعاقب المستنفر للجهد والإمكانيات، إلى مقصلة متذاكية، تخفي من وراء نذوبها فائضا غير يسير من القلق والشك، ما يجعله قابلا للمكاشفة وخفة الدم وملء شقوق الذات، وإفراغ النفس مما جفل وانتصب؟
ومن يقرأ مغزى انتقالات الكاتب، عبر جغرافيا ومناحي المتن التأليفي، سيجد أن الصياغة العامة، جاءت لتكسر قواعد البناء المتداعي للفكرة الأساس، حتى إنه يمكن قراءة التقديمات المعكوسة، على منطقية المنهج المتداول، بقياسات غيرية، مؤسسة على رؤية الكاتب وتقييمه الإشكالي للموضوع، وكيفية تفاعل أسئلته مع باقي المحاور والمسلكيات المتداولة.
ويصح أن نمنح هنا، وقتا لصياغة هذه الرؤية، وفقا لطبيعة مقاربة الكاتب العلوي، ومدى تمكنه من استحضار عدة سخية، تتشكل من طفرات، يمكن اختزالها، في تمكنه من الإحاطة بمزيج من الثقافات، تشي بجهوزية غير طبيعية، يمتزج فيها التاريخي بالأدبي، والعلمي بالفلسفي، واللغوي بالبلاغي، وهلم جرا.
ويمكن التمثيل هنا، بما استأثرت بها معظم شخصيات الكتاب، ابتداء من “طوطو غماري” و”بلال وبلال” و”ألقاب وأسماء الحلايقية”، و”الطباء والصيادلة” و”أبناء الشيوخ والأولياء” و”الحكون والحكواتية”، مرورا بلفيف “التواشا”، المتضمن لشخصيات “الشريف/القوانين”، و”السي حميد” و”رحال: و”عزيز” و”العسكري” و”مبارك” و”عيوش” والقاري” وأبو فارس”، (استأثرت)، بقوة الخيال ونفاذه الجمالي، وطريقة توظيفه وصفائه وامتداده وتفرده.
الهوية ومكاشفة المعنى:
لا تفيض حاجة المعنى، عن التمحيص والدود عن الماوراء، في فهم أقصى لما يحاك من خلف الأحداث والوقائع. بل إن القارئ في أتون الأقوال والأفعال المبثوثة بإتقان وقوة مخيال، في كتاب موسوعي زاخر بالمعادن والصروف والمدلهمات والتواريخ والتراث، لينداح إلى تعليل استئثار قابلية ذائقته للنظر والعبر، حيث تتأتى “المعاني أرسالا وتنثال الألفاظ انتثالا”، كما يقول الجاحظ، دون أن يصيبك ضنك الفقر المفهومي، أو العياء الاستيعابي، أو الضعف المملوء بغشاوة الرؤية والتقصير.
وهي صفات، والله، منذورة لمن يقع في ميزان المكابدة وإجالة الفكر وإلهام اللحظة التاريخية.
كما أنها علامة فارقة، تعين القارئ اللبيب على تتبع آثار الكاتب، في الدرس التاريخي والمعرفي، في مجالات يصعب الإحاطة بها والاتصال بمكنوناتها، من دون امتلاك أدوات النباهة والتشرب بميزان الحكمة، والإيثار في ميسم البدل والعطاء اللامتناهي.
إن حكايات مراكش، من محكيات زمانها وشخوصها وأحداثها، جزء من حيوات مادية ولامادية مفتقدة، لكنها في المقابل، لم تكن هنا مجرد تقرير لطبائع الاشياء، والنظر بإزائها من فتحة الكيفيات والكميات، واستثارة المناحي العامة التي لا تخرج عن قاعدة البديهيات، بل إن “الحكايات” وفقا لمنظور الكاتب، وتأسيساته المنهجية، تنبري إلى توصيف المرتقى، وتأصيل ما نذر في أوثاق المنكتب والشفاهي، وإعادة تصحيح مواقعه وبياناته، وحضوره في الماهيات والأحوال المتعاقبة.
لقد استوعب الكاتب والمؤرخ عبد الله العلوي، في مثنه الذاخر بعوالم الثراء والابتهاج المعرفي، دروس التحول التاريخي وممكناته الدلالية، بانتقالها من هاجس التجميع والتوثيق، إلى التأصيل والاستشراف، والاستنتاج المبدع، مؤسسا على مبدئية الوعي بمناط “الهوية والانتماء” والمدينة الفضلى”، التي لا يتورع العلوي، من أن يجعلها دوما عنقود منارته ومتلد حريته وسواره الذي يحجبه عن التحجج بما لا ينفع ولا يقتدى به.
الصورة وإعادة التشكيل:
خص الكاتب العلوي جزءا غير يسير من كتابه “مراكش: ألف حكاية وحكاية”، لتاريخ الصورة وتأويلاتها التاريخية والسياسية، واستعمالاتها الفنية والثقافية والأيديولوجية، دونما المرور من مواطن استعمالاتها الأخرى، غير بعيد عن الإضاءة والمجال وتوقيت التقاط الصورة، علاوة على الإيحاءات والسياقات الاجتماعية والثقافية والإنسانية التي التقطت فيها.
وخلال مساحة وفيرة بين دفتي الكتاب (ما بين الصفحة 144 و17)، استطلع العلوي، آفاق الأحاديث عن أبعاد وممكنات الصورة وتأثيراتها على الجماهير والمتلقين، مستدرجا تاريخ انبلاجها وحضورها، قبل الاستعمار وبعده، ثم انتشارها على أوسع نطاق والتقاء ذلك مع بروز السينما وبرامج التوثيق التلفزي، ثم الرسم والفوتوغرافيا. ويرتقي العلوي، بعد هذه الدمغة، دروب البيان في صرح “الصورة السياسية”، ومنشوراتها الوطنية والثورية، غير بعيد عن استغوار روح الحكي في المخيال الشعبي، وانطباعيته في مدلول السياسة، كواجهة لاستدعاء منظومة “المقاومة والحركة الوطنية” ورمزيتها وخلفيتها الدينية والأسطورية.
وعلى اعتبار، أن مفهوم الصورة زمانئذ، يحاول تأطير هذه العلاقة المتشابكة بين فعل الصورة والوجدان الوطني، فقد وظف الكاتب مفهوم “علاقة الصورة” بـ”المقاومة”، مدققا ومستخلصا مدلولات “صور المقاومين” و”أنماط شاعتها ونشرها” كوسيلة اقتدارية متاخمة لوشيجة الالتحام الشعبي ووحدته التي ترتفع عن كل المحن والأهوال، وتجسد آية من آيات “الاقتداء والإيثار والتشبث بالحرية والانعتاق من العبودية والاضطهاد”.
وما توجيه دلالات نشر وإبراز شخصيات المقاومة في الصور التاريخية الشهيرة في علامات وتقاطعات “محمد بن بريك وحمان الفطواكي” وغيرهما، لدليل على نجابة ونضارة “فعل الصورة” وامتدادها في الزمان والتاريخ والإنسان المتيقظ.
ويوتر العلوي في المنحى ذاته، تحقيق قوة الدفع بمتانة العلاقة بين تاريخ الصورة في المغرب المعاصر، ومؤسساتها التصنيفية والذاتية والسوسيولوجية، حيث أدرج مبحثا هاما حول “تطور الصورة”، وارتفاعها عبر تطورات جديدة وآفاق مترامية، وظهورها المتلاطم في شبكات العنكبوت مواقع التواصل الاجتماعي، كواحدة من أخطر الأدوات وأعتاها وأشرسها. مستحضرا مجالات استعمالاتها وآثارها وانتظاراتها، في مجالات العدالة والقضاء والإعلام والاجتماع والأخلاق والمعارف.
ولأنني أعلم جيدا مدى ولع الكاتب العلوي بالفنون البصرية ومفازاتها، وعلومها وثخومها، فإنني تلقيت اختتامه الكتاب ومبحث الصورة خاصة، بموضوعين استشكاليين هامين، هما “صالات السينما المفقودة” و”القاعات السينمائية في الحي الأوروبي”، بغير قليل من الفضول، وبكثير جدا من الشغف والقلق الفلسفي. حيث تكمن المعرفة، بما هي حيية في طبع ما نقرأ، وليس بطبيعة ما نبحث عنه. فالكاتب مزيج من روح السينما والتاريخ، وهو إذ يستعيد هذه الثنائية الواعية بحضارة المقروء، تستحضر بالقطع، العلاقة الوجودية التي تجوس خلال اندغامه الطفولي والاستيعادي، بمأثورات السينما الهندية، التي أضحى كاتبنا الملهم، أحد أهم معالمها المغربية والعربية، بل والدولية، حيث يتكئ مخزونه العقلي والذهني، على مساحة واسعة من تراثها ووعائها التاريخي المليء بالحكم والآثار والتجارب الإنسانية الزاخرة. وهو ما يؤكد بالبديهية، أن التراكم يستجيب لتدفق الإنتاج، ويفرض تحولا معرفيا وجوهريا متسارعا. وهو الشيء الذي ينطبع لا محالة في كل كتابات الكاتب والمؤرخ عبد الله العلوي، غير بعيد عن الفعل الثقافي العضوي، الذي يمتاح من المجتمع وينحاز إليه.