الرواية العربية لا تزال تكتب التاريخ وتؤسس الذاكرة
“ما زالت الرواية العربية تكتب تاريخها وتؤسس ذاكرتها”، وفق الأكاديمي عبد الفتاح الحجمري، الذي يرى أن فهم تمثلات الأدب الروائي المكتوب باللغة العربية للحداثة وماهية حداثته يحتاج ذاكرة أدبية ممتدة في الزمن، لم تكتمل بعد.
الناقد الحجمري، في أحدث مقالاته على جريدة هسبريس الإلكترونية، ينقل معالم نقاش مقتضب خاضه حول الأدب العربي الحديث، وسؤال المرجعية، وتمثّل الكتابة ومعنى حداثتها، وعلاقة الإبداع بقيم المجتمع.
هذا نص المقال:
أقلتَ… سؤال الحداثة من سؤال الهوية؟
باغتني صاحبي، وهو قارئ نبيه للرواية ومتابعٌ متّقدُ الفكر لكل ما يتصلُ بنظرياتِ نقدها:
ما رأيك في تمثلات الحداثة في الرواية العربية؟
لم أكن أنتظر منه هذا السؤال المباشر، الذي قد يصلحُ موضوعا لأطروحة جامعية أعرف سلفا أنه لن يضيف شيئا لكل الأدبيات التي خلفتها لنا أبحاث نظرية في غاية الغنى مشرقا ومغربا؛ أعتبر الموضوع مستهلكا.
قلتُ له:
من الصعب تحديد الفرضية المتعلقة بالاختيار العام لقصد الحداثة، ومرجعيته الدالة على التحديث؛ أقصد أن حداثة الكتابة في الرواية والشعر ومختلف أشكال الإبداع هي دوما ذات علاقة بتحديث قيم المجتمع.
قال مقاطعا:
لا يسعف هذا القصد دائما في تمثل صفة الحداثة وتخصيص موضوعها عبر تصوّر للنص والكتابة؛ أسألكَ مرة أخرى: هل الحداثة حداثة في التصور أم حداثة في النص؟
قلت له موضحا وجهة نظري:
قد لا تكون التعريفات الوصفية للحداثة مُسعفة في هذا المجال؛ لأننا إذا أردنا أن نحدّد موضوع الحداثة فلن نتمكّن من ذلك.. ليس معنى هذا أن الحداثة لا تمتلك موضوعا؛ بل لأن سؤال الكتابة عليه أن يظل متحرّرا من سلطة الموضوع المفترض للحداثة.. فإذا كان تمثّل الحداثة يصحّ بالاحتكام إلى صياغة التصوّر، فإن تمثلَها على مستوى الإنجاز لا يتجاوز حدود التجريب.
بادرتُ صاحبي بهذا السؤال:
قل لي: هل هناك قوانين معيارية تمكّنني من وصف هذه الرواية بكونها حداثية والأخرى غير حداثية؟ هل رواية الأبله والمنسية وياسمين أكثر حداثة مـن المرأة والوردة؟ وهل لعبة النسيان أكثر حداثة من الفريق؟ وهل اللص والكلاب أكثر حداثة من عمارة يعقوبيان؟ هل سيليستينا أكثر حداثة مـن الجنازة؟ وهل القوس والفراشة أكثر حداثة من لا أحد ينام في الإسكندرية؟ وهل بدر زمانه أكثر حداثة من ثلاثية غرناطة؟ ثم كيف يمكن لرواية أن تكون حداثية والعهد بكتابتها قريب والتراكم محدود؟
قال معلّقا:
أجيبكَ انطلاقا مما أنهيت به كلامك؛ أعتقد -ولا أدري هل توافقني الرأي- أن التجريب ليس إلا خيارا في الكتابة من بين خيارات أخرى للمراهنة على سؤال الحداثة في الكتابة؛ لأن مقتضى الحداثة ينزع بشكل متواصل نحو الاهتمام بتحوّلات تحديثية للتجربة وللمجتمع.. بعبارة أخرى، إن حداثة الرواية قد تكون أحيانا محكومة بتمثل نظري يفوق تحققها النصي، إلى درجة يمكن القول معها إن التجريب ليس إلا حداثة نصية لم تستطع بلورة وعي استطيقي، واكتفى -بالتالي- بتنويع مكوّنات النص بنية وشكلا.
قلتُ:
ـ نعم، لا شك في أن التجريب في كتابة الرواية والأدب الحديث يتمثل في ابتكار بنيات نصية وحكائية منحت النص الأدبي (رواية وشعرا ومسرحا) تهجينا باروديا في استحضاره للتاريخ مثلا، مثلما مكَّن بعض الأدباء والروائيين من العودة إلى التراث والبحث عن كتابة قادرة على انتقاد قيم المجتمع، وأحيانا الإغراق في حكاية تستحضر رمزية الحلم والهذيان والفانطاستيك. طيب! ألا يمكن القول إن الرواية لا تحقق حداثتها إلا عبر أوهام الحداثة؟
قالَ مبتسما:
وهل يكفي اعتماد اللعب السردي واصطناع أشكال متعددة من الأبنية النصية والحكائية لرسم أفق الحداثة؟ هل كتبنا الرواية الكلاسيكية لنسمح لأنفسنا بالقول إنه لدينا رواية حداثية؟
يا صاحبي – وأنت سيّد العارفين – مفهوم الحداثة والتصورات الناتجة عنه تصدرُ في كثير من مقوّماتها عن العديد من الالتباسات ليس من الممكن الإحاطة بها في حديثنا هذا؛ لأن الاختلاف سيظل قائما حول ما الذي يعطي لهذا النص حداثته بالقياس إلى نص آخر، ليس لحداثة الإبداع حدود أو قوانين مُسبقة، وليس لديها، كذلك، مبادئ ومقاصد قابلة للنمذجة؛ والأديب عليه أن يمارس لَعِبَهُ المفضل بعيدا عن صخب النقاد والمنظرين…
قلت معلقا:
هذا طرحٌ مفيد لبحث أحوال الوعي بقضايا الحداثة في حقلنا الثقافي العربي. لدينا كتابة روائية، لا أحد يشكّ في ذلك؛ لكن هل لدينا كتابة روائية حداثية، وما هي الاعتبارات النظرية الملازمة لها والراصدة لأفق تطوّرها؟ هذا ما نحتاج إقامة الدليل عليه بصرف النظر عن كون الحداثة مرتبطة – هنا – باختيار تقني أم باختبار فكري.. لذلك، أجد في تحليلات زيجمونت باومان، عالم الاجتماع البولندي، خاصة في كتابه “الحداثة السائلة”، أطروحة مناسبة لفهم تمثلات الحداثة ومآلاتها من الشكل الصلب إلى الشكل السائل، والذي يتميز في تصوّره بالانتساب إلى زمن اللايقين واهتزاز القيم بل تلاشيها.. هذا في مقابل الحداثة الصلبة التي اقترنت منذ نهاية العصر الوسيط بعصر الأنوار في القرن الثامن عشر وتنامت مع إرساء الرأسمالية الثقيلة، ليكون بروز الحداثة السائلة مرافقا لتحولات طرق حياة الإنسان في الزمن الراهن وما رافق التقدم من معاناة وخوف وقلق وإنتاج متواصل للبطالة البشرية والاضطرابات الاجتماعية الملازمة لها ولسيادة ثقافة السوق والاستهلاك السريع.
قاطعني صاحبي:
هل تقصد أن سؤال الحداثة هو مِن سؤال الهوية؟ فأنت لم تأت بجديد؛ لأن عبد الله العروي انتبه، في كتابه “الإيديولوجية العربية المعاصرة”، إلى هذا الأمر حين تساءل: ما هو الشيء الروائي في مجتمعاتنا؟ وهو سؤال لم يفقد مصداقيته بعد، عبره بالإمكان وَصْل الحداثة بالهوية، وبالأشكال التي تسمح لنا بالتفكير في حداثة الرواية العربية…
قاطعته بدوري، وكنت أرغب في إنهاء حوارنا لالتزام مسبق آن أوانه:
تأكدْ، يا صديقي، أنه لفهم تلك الأشكال يحتاج أدبنا الروائي إلى “تاريخ” متحقَّق و”ذاكرة أدبية” ممتدة في الزمن، وليس بالإمكان – راهنا – تحديد الشروط العامة لذلك الفهم؛ فالرواية العربية ما زالت تَكتبُ تاريخها وتؤسس ذاكرتها.
تصافحنا.
وضربنا موعدا للقاء الأسبوع المقبل…