الهجرة غير الشرعية: مهاجرون يتمسكون بالوصول إلى إيطاليا انطلاقا من تونس
- Author, بسام بونني
- Role, مراسل بي بي سي لشؤون شمال أفريقيا
- Reporting from صفاقس
لم تمض أكثر من نصف ساعة على وصولنا إلى خافرة تونسيّة استقرّت قبالة سواحل المهديّة حتّى انطلقت صفّارات الإنذار لتكسر الصمت المطبق على البحر.
“هذا أوّل القوارب،” يقول أحد عناصر الحرس البحري التونسي. جرت العمليّة بكلّ سلاسة. لكن ما إن نُقل المهاجرون، وجميعهم من دول إفريقيا جنوب الصحراء، على متن الخافرة، حتّى بدأوا في الاحتجاج.
“دعونا نتّجه إلى إيطاليا،” يصرخ أحد المهاجرين. ويردّد وراءه آخرون هُتافات مُستهجنة لإيقافهم في عرض البحر، على بعد أميال قليلة عن جزيرة لامبيدوزا الإيطالية.
بعد دقائق قليلة، دوّت صفّارات الإنذار مجدّدا. القارب الثاني كان يقلّ ليبيين وسوريين ويمنيين وسودانيين، قارب يُلخّص لوحده مآسي بلدان مزّقتها الحروب والصراعات.
انطلق أصحاب القارب في محاولتهم الوصول إلى السواحل الإيطالية قبل اثنتي عشرة ساعة، قبل أن يضيعوا في البحر. بدوا منهكين تماما.
ويقول حسام الدين الجبابلي، المتحدث باسم الحرس الوطني التونسي، الذي تتبعه قوّات خفر السواحل، لبي بي سي، إنّ سلطات بلاده أحبطت، في الفترة الفاصلة بين شهري يناير/كانون ثاني ويونيو/حزيران من العام الجاري، محاولة اجتياز أكثر من ٣٤ ألف مهاجر، للحدود البحريّة، من بينهم ٤ آلاف تونسي، وهو ما يعادل تقريبا العدد ذاته المسجّل طيلة العام المنقضي.
ووصل طرّاد إلى الخافرة لنقل المهاجرين المحتجزين إلى أقرب ميناء تونسي. فالعدد على متن السفينة فاق السبعين.
اتهامات بالقمع
وذكر الجبابلي أنّ مهاجرين تونسيين تمكّنوا، الشهر الماضي، من السيطرة على خافرة، بعد تهديد قائدها، قبل أن تتدخّل قوّة أمنيّة لاستعادة زمام الأمور. وصباحا، هدّد أحد المهاجرين التونسيين برمي ابنته، التي كانت ترافقه في رحلته المحفوفة بالمخاطر، في البحر.
“هناك من يُهدّد برمي نفسه من الخافرة، أيضا، أو يسكب البنزين، مهدّدا بإضرام النار في نفسه،” حسب الجبابلي.
وتُتّهم السلطات التونسية بقمع المهاجرين، بصرف النظر عن جنسياتهم. ويشير المدير التنفيذي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، علاء الطالبي، لبي بي سي أنّ خطاب الرئيس، قيس سعيد، في فبراير/شباط الماضي، الذي زعم فيه أنّ هناك خطّة لتغيير هويّة الشعب التونسي من خلال الهجرة كان بمثابة رسالة مفادها أنّ المهاجر هو العدوّ الأوّل.
ويضيف الطالبي أنّ العديد من التونسيين تبنّوا هذا الخطاب، مع ربطهم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تمرّ بها البلاد بتفاقم الهجرة.
واتهم الطالبي السلطات التونسية بحراسة حدود الاتحاد الأوروبي، مشددا على أنّ ملفّ الهجرة لا يزال يُدار بتشريعات قديمة لا تأخذ بعين الاعتبار البعدين الإنساني والحقوقي.
لكنّ الجبابلي يُدافع عن “حقّ تونس في حماية حدودها وسيادتها،” مقرّا، في الوقت ذاته، أنّ بلاده “تدفع إلى درجة كبيرة ثمن موقعها الاستراتيجي، بصفتها بوّابة أوروبّا”.
“لن نستسلم”
ولا يُخفي معظم المهاجرين الذين تحدّثنا إليهم أنّهم قدموا إلى تونس بهدف الوصول إلى إيطاليا، مع تأكيدهم نيّة الإبحار، مجدّدا، رغم أخطار الرحلة وإمكانيّة إحباطها. ويروي أحمد شيخ آبا، وهو شابّ عشريني من غينيا، أنّه لا يجد طريقا آخر غير الهجرة. “ليس لي أيّ عمل في تونس ولا مسكن ولا حتّى وثائق.” بصوت عال فرضته عليه محرّكات الخافرة يتحدّث شيخ آبا، بكلّ أسى، عمّا يعانيه في تونس. “سرقوا هاتفي وأغراضي. لا أجد حتّى الأكل، عدا ما يقدّمه لنا سكّان صفاقس”.
وشهدت المدينة الساحلية التونسية، الشهر الماضي، توتّرا كبيرا، عقب مقتل تونسي على أيدي مهاجر. و لا يزال المئات يتجمعون وسط المدينة، وأذهانهم مُعلّقة بالبحر، كسبيل للخروج من محنتهم، كما يظنّون.
لكنّ كثيرين، انتهوا غرقى، في قلب البحر الأبيض المتوسّط. وقال المدير الجهوي للصحة بصفاقس، حاتم الشريف، لبي بي سي، إنّ ما لا يقلّ عن ٧٠٠ مهاجر من دول إفريقيا جنوب الصحراء دُفنوا بمقابر المدينة، منذ بداية العام الجاري. لكن، ما من شيء يبدو وقد نال من عزيمة المهاجرين في تحقيق ما يرونه حلما.
على الطريق بين المهدية وصفاقس، التقيت أبوبكر كونتي، رفقة أصدقاء له. عادوا للتوّ من محاولة اجتياز الحدود البحرية. “مشينا أكثر من ٤٠ كيلومترا، وعلى الأرجح، فإنّنا سنقضيّ الليلة، هنا، في مزارع الزيتون هذه،” يقول لي أبوبكر، وقد نال منه الإعياء. “هذه محاولتي الأولى في تونس وقد كانت لي ٣ محاولات سابقة في ليبيا. سأعيد الكرّة،” يُصرّح الشابّ الذي قدم من ساحل العاج، عبر مالي والجزائر.
سألتُ عادل عبد الله، وهو سوداني، إن كان خائفا من خوض تجربة الإبحار، فكانت الإجابة صريحة: “غادرت البلاد، بعد الحرب. ما تركته ورائي يُحصّنني من الشعور بالخوف.”
تقنيات جديدة
ويُرجع مصدر أمنيّ تفاقم ظاهرة الهجرة إلى تطوير مهرّبين قوارب حديديّة، ذات كلفة تصنيع رخيصة وتتّسع لعدد أكبر من المهاجرين. في ميناء الصيد باللوزة، في ضاحية صفاقس الشمالية، شاهدتُ أعدادا كبيرة من هذه القوارب وقد احتجزتها السلطات التونسيّة.
قال لي أحد الصيّادين إنّ هذه القوارب تُصنّع في معامل عشوائيّة، معظمها منازل مهجورة ويُضيف أنّها تُستخدَم أكثر من مرّة. وباتت هذه القوارب تُمثّل صُداعا حقيقيّا للصيّادين.
“حين تمرّ بجانبنا أو تغرق فإنّها تقطع الشباك،” يتذمّر الجيلاني كامل، أحد صيّادي اللوزة. “بتنا نخشى العمل.”
ويسهل التقاط القوارب على شاشات الرادار لقوّات خفر السواحل التونسية. لكنّ الخطر يكمن في عدم تحمّلها أوزانا زائدة. وقد شاهدتُ قوارب أوقفتها السلطات التونسية، في عرض البحر، وهي شبه مغمورة بالمياه.
بيد أنّ الكثير من المهرّبين المتمركزين على الشريط الساحلي الرابط بين صفاقس والمهدية باتوا يقتاتون من هذه الصناعة.
وداهمت قوّات أمنيّة مشتركة، الأسبوع الماضي، عددا من تلك المعامل العشوائيّة، مدعومة بغطاء جويّ.
وأوضح المتحدث باسم الحرس الوطني، حسام الدين الجبابلي، أنّ “ردّ الفعل عادة ما يكون عنيفا، فنحن إزاء صناعة تدرّ على أصحابها مئات الآلاف من الدنانير.”
ويتعامل القضاء التونسي مع معظم المهرّبين ووسطاء الهجرة غير النظامية على أنّهم تجار بشر، بعد أن كانت تُوجّه لهم تهم تكوين وفاق إجرامي.
ترتيبات إقليميّة
ووصل آلاف المهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس، خلال النصف الأوّل من العام الجاري، قادمين أساسا من الجزائر. ووقّعت تونس، الشهر الماضي، مذكّرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي تقضي بحصولها على مزيد من الدعم المالي، مقابل تشديد الرقابة على الهجرة.
ويرى المدير التنفيذي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، علاء الطالبي، أنّه كان من الأجدى أن تتواصل السلطات التونسية مع جاريها الليبي والجزائري، لوقف تدفّق المهاجرين، قبل البحث عن أيّ تفاهمات مع بروكسل. “لكنّ تونس تتجنّب توجيه أيّ نقد، خاصّة للجزائر.”
وروى لي أبوبكر كونتي كيف وصل إلى تونس. “بعد ليبيا، غادرت إلى الجزائر. هناك، كان من الصعب عليّ التأقلم. لا أستطيع شراء تذكرة للتنقّل. كان عليّ أن أستعين بجزائري، حتّى لو لزم الأمر أن أدفع ضعف ثمن التذكرة.” اجتاز كونتي الحدود الجزائرية التونسية بكلّ سهولة، مثله مثل آلاف المهاجرين الآخرين.
وتشهد تونس بدورها تصاعدا لمشاعر العداء للمهاجرين. على متن الخافرة تتعالى الأصوات: “يضربوننا! يطردوننا من بيتونا ووظائفنا. ماذا نفعل؟”
ودُفع بمئات المهاجرين الذين كانوا متجمعين بصفاقس إلى مناطق صحراوية خطرة، على الحدود مع ليبيا والجزائر. ولقي عشرون شخصا على الأقلّ حتفهم، جوعا وعطشا. وندّد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بالطرد الجماعي للمهاجرين. لكنّ الرئيس التونسي، قيس سعيد، قال إنّ بلاده تتعامل معهم “بشكل إنساني.”
نهاية الحلم وإن إلى حين
على خافرة السواحل التونسية عشرات المهاجرين، بينهم رضع وأطفال وحوامل. الإحباط يتملّك الجميع، إذ كانوا قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى لامبيدوزا. دفع صابر حاجي ٦.٥٠٠ دينار (نحو ٢.١٠٠ دولار) لقاء الرحلة، مقابل ١،٢٠٠ دينار (نحو ٤٠٠ دولار) دفعها أحمد شيخ آبا. يقول حاجي، وهو أصيل حاسي فريد، وسط تونس، وهي إحدى أفقر المناطق في البلاد، إنّها محاولته الرابعة. “أنا ميّت لا محالة،” يضيف الشابّ التونسي.
“نحن لا نريد البقاء في تونس. نريد الذهاب إلى أوروبا لاسترجاع ما نهبوه من أوطاننا،” يصرخ أحد المهاجرين من ساحل العاج.
في آخر الأميال، قبل العودة إلى ميناء صفاقس، ثياب وأحذية تطفو على سطح الماء. هي على الأرجح لهاجرين قضوا في مغامرتهم. تذكّرت حينها الجيلاني كامل، الصيّاد، حين أسرّ لي بأنّه بات يخشى الذهاب بعيدا عن ميناء اللوزة. “رأيت الكثير من الجثث. لا أريد أن أحلّ محلّ المهاجرين.”
تستقبل قوّة أمنية المهاجرين في الميناء. على متن خافرتين سبقتنا إلى صفاقس، عشرات المهاجرين الآخرين. هنا، ينتهي حلمهم ببلوغ الضفّة الشمالية للمتوسط. لكن، كما ذكر لي أبوبكر كونتي، “سأبحث عن عمل لأجمع المال وأحقّق حلمي.” في انتظار ذلك، وكما يقول الجيلاني كامل، أصبحت السواحل التونسية “بمثابة المقبرة.”