تركيا.. خطوات “بطيئة وحذرة” للسيطرة على التضخم
واحدة من أبرز التغيرات التي حدثت ما يتعلق بالتخلي عن السياسات التيسيرية التي اتبعتها حكومة رجب طيب أردوغان في وقت سابق، والسير على نفس خط غالبية الاقتصادات حول العالم فيما يتعلق برفع معدلات الفائدة للسيطرة على التضخم.
وفي هذا السياق، ضاعف المركزي التركي أسعار الفائدة في الشهرين الماضيين، لكن عديداً من الخبراء والاقتصاديين ومحللي الأسواق الناشئة يعتقدون بأن الطريق لا تزال طويلة من أجل الوصول إلى الأهداف الرئيسية والعودة بمعدلات التضخم إلى مستوياتها الطبيعية، وبما يتطلب مزيداً من الإجراءات الشاملة في هذا السياق.
وتعهدت رئيسة البنك المركزي التركي الجديد بمواصلة اتخاذ خطوات “تدريجية وحاسمة” لإبطاء نمو الأسعار، حتى مع اعترافها بأن التضخم قد يرتفع إلى ما يقرب من 60 بالمئة بحلول نهاية العام الجاري، وذكرت في أحدث تصريحاتها خلال مؤتمر صحافي نهاية الأسبوع الماضي (هو الأول منذ تعيينها في يونيو الماضي) أن:
– التضخم سوف يصل إلى 58 بالمئة بحلول ديسمبر المقبل (وذلك مقارنة مع توقع سابق يزيد قليلاً على 22 بالمئة).
– تراجع الليرة هذا العام، والارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية والارتفاعات الكبيرة في الحد الأدنى للأجور “أمور من شأنها أن تغذي ارتفاع نمو الأسعار”.
– إجراءات التحفيز الهائلة هذا العام، قبل انتخابات مايو، أدت إلى اختلالات كبيرة في الاقتصاد التركي ، بما في ذلك واردات عالية جداً من السلع الاستهلاكية التي أدت إلى عجز قياسي في الحساب الجاري في الأشهر الخمسة الأولى من 2023.
ونقل تقرير لصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، عن اقتصاديين مستقلين، قولهم إنه “على صانعي السياسة بذل المزيد من الجهد لمحاربة التضخم، الذي سجل 38.2 بالمئة في يونيو، بعد أن بلغ ذروته في أكتوبر الماضي عند أكثر من 85 بالمئة”.
يقول الاقتصاديون إن الزيادات الكبيرة في ضرائب البترول وضرائب القيمة المضافة على السلع والخدمات ، والتي تم إجراؤها أخيراً كجزء من تشديد السياسة المالية “من المرجح أن تزيد من الضغوط التضخمية”.
– رفعت تركيا ضريبة الاستهلاك الخاصة على البنزين وزيت الديزل في إطار جهود الحكومة لمواجهة التحديات الاقتصادية. وارتفع معدل الضريبة على البنزين من 2.52 ليرة تركية (0.1 دولار) للتر الواحد إلى 7.52 ليرة، بينما ارتفعت الضريبة على زيت الديزل من 2.05 ليرة إلى 7.05 ليرة.
– كما تم رفع ضريبة القيمة المضافة نقطتين مئويتين في فئتين كما زادت الضريبة المفروضة على القروض المصرفية الشخصية، بحسب ما نشرته الصحيفة الرسمية.
من جانبه، يقول الخبير في الشؤون التركية، طه عودة أوغلو، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن هناك تطورات لافتة في الملف الاقتصادي في تركيا، منذ وصول الفريق الاقتصادي الجديد للرئيس، وقد لاحظنا في الفترة الأخيرة عديداً من المتغيرات فيما يخص السياسات المالية والنقدية.
ويضيف: “الإدارة الاقتصادية الجديدة قامت ببعض الخطوات خلال الفترة الماضية منذ وصولها لإدارة دفة الملف الاقتصادي، لا سيما في سياق العمل على خفض معدلات التضخم، من خلال رفع معدلات الفائدة والابتعاد عن السياسة التي انتهجها الرئيس التركي خلال العامين الماضيين”.
ضغط سياسي
لكن أوغلو يعتقد بأنه “حتى اللحظة نستطيع أن نقول إن إدارة الاقتصاد حالياً تسير في الطريق الصحيح، إلا أن ثمة أمراً لافتاً يتعلق بالحركة البطيئة في هذا الاتجاه، وبما يشير إلى أن الضغط السياسي لم يتم التخلص منه من قبل الحكومة”.
وأوضح أن الإدارة الاقتصادية الجديدة تحاول قدر الإمكان معالجة الأزمة على طريقتها الخاصة وأيضاً أن تكون الخطوات تدريجية وبطيئة، وهو ما أشار إليه شيمشك، الذي ذكر أن “الأمور سوف تستغرق بعض الوقت من أجل الحل”.
وكانت رئيسة المركزي التركي قد أشارت إلى أن البنك سيكون “مستقلاً تمامًا” عن ضغوط الحكومة وأن قراراته “ستكون مدفوعة بالعلم تمامًا”، موضحة في الوقت نفسه أن المركزي سيتبع نهجاً “شاملًا” للسياسة النقدية. وهذا يعني أنه بالإضافة إلى زيادات أسعار الفائدة ، سيسعى البنك المركزي إلى تهدئة الطلب المحموم من خلال اتخاذ خطوات لإبطاء الإقراض المصرفي.
وخفض البنك المركزي، الأسبوع الماضي، الحد الشهري لنمو القروض التجارية كجزء من إستراتيجيته “التشديد الانتقائي للائتمان”.
ويضيف الكاتب والباحث من اسطنبول، قائلاً: “من الواضح أن هنالك حالة من الضغط السياسي والشعبي داخل تركيا.. الفريق الجديد يحاول أن يتحرك بحذر جداً، وهو ما قد يكون له تأثير على السياسة النقدية الجديدة التي رسمها.. نحن نعلم جميعاً بأن نجاح عملية التشديد النقدي لخفض التضخم ليس بالأمر السهل، فكما تابعنا في دول مختلفة مثل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال، يستغرق الأمر وقتاً طويلاً (لكبح جماح التضخم) فما بالنا بالوضع الاقتصادي في تركيا؟”.
وينظر إلى الزيادة الحادة في توقعات التضخم للبنك المركزي على أنها إشارة إيجابية للمستثمرين الذين كانوا قلقين قبل المؤتمر الصحافي يوم الخميس الماضي من أن البنك المركزي سيتبع مساره السابق المتمثل في التقليل إلى حد كبير من معدل نمو الأسعار.
ويتابع أوغلو: “أعتقد بأن هناك بعض الخطوات التي يُمكن أن نتابعها في المرحلة المقبلة من جانب الفريق التركي الذي يدير الاقتصاد، والتي ستكون مختلفة عن الفريق السابق ويمكن أن تؤتي بثمار إيجابية إذا استمرت على هذا المنوال”.
تحديات
ويشير في السياق نفسه إلى التصريحات الأخيرة الصادرة عن رئيسة المركزي التركي والتي تحدثت خلالها عن معدلات التضخم ورفع الفائدة، مشدداً على أن “تركيا اقتصاد ناشئ، ويُمكن أن تنجح السياسات المتبعة (التشديد النقدي) بشكل نسبي في الاقتصادات الكبرى على سبيل المثال، لكن لا يُمكن تجاهل الآثار السلبية على الاستثمار والاستهلاك.. لكن بشكل عام، تركيا خلال المرحلة المقبلة بحاجة إلى بعض السياسات النقدية والمالية المتشددة من أجل فتح شهية الأسواق وتحفيزها وليس تحجيمها.. الفريق الاقتصادي سوف يتجه لمواصلة رفع الفائدة حتى عودة الوضع إلى ما كان عليه قبل أربع أو خمس سنوات”.
ورفع البنك المركزي التركي، الأسبوع الماضي، سعر الفائدة الرئيسي 250 نقطة أساس إلى 17.5 بالمئة، بعد أن رفعها في الشهر الماضي بمقدار 650 نقطة أساس، مواصلا الابتعاد عن سياسة خفض الفائدة للرئيس رجب طيب أردوغان، كما تعهد بمزيد من التشديد النقدي.
من جانبه، أفاد محلل الأسواق الناشئة في BlueBay Asset Management ، تيم آش، بأن “الرسالة هي بوضوح أنهم (المركزي التركي) لا يريدون إحداث صدمة في النظام ويريدون التعلم والمعايرة أثناء تقدمهم”، لكنه حذر، في التصريحات التي نقلتها عنه صحيفة الفاينانشال تايمز البريطانية، من أن السوق لا تعتقد بأن وزير المالية ورئيسة المركزي لديهما تفويض لفعل كل ما يلزم لمكافحة التضخم، على الأقل ليس عندما يتعلق الأمر بمعدلات السياسة، وأن أردوغان لا يزال هو المسؤول عن تحديد الأسعار”.
ارتدادات سلبية
ويشير الباحث المتخصص في الشؤون التركية، كرم سعيد، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن المجموعة الاقتصادية بقيادة وزير المالية محمد شيمشك، ورئيسة البنك المركزي حفيظة غاية أركان، تسعى إلى العودة للسياسات النقدية المعمول بها في أسواق المال العالمية، وهذه العودة قد لا تكون سريعة، بينما تكون مُكلفة في الوقت نفسه، بالنظر إلى محاولة ضبط الاقتصاد التركي على عقارب ساعة الاقتصاد العالمي والقواعد التقليدية المعمول بها”.
ويضيف: “وبالتالي من الطبيعي أن تحدث ارتدادات سلبية في هذا السياق، وهو ما أكده وزير المالية ورئيسة البنك المركزي، عندما أشارا إلى أن تلك الارتدادات ستكون مؤقتة لحين ضبط عملية ملامح الاقتصاد التركي خلال المرحلة المقبلة، في سياق محاولة معالجة الاختلالات الكبيرة التي يواجهها الاقتصاد ومع ارتفاع معدلات التضخم”.
وينوه الباحث المتخصص في الشؤون التركية بأن “الرئيس أردوغان بدأ يتخلى عن وصايته فيما يتعلق بإدارة السياسة النقدية في تركيا، وهذه كانت واحدة من أهم مطالب وزير المالية محمد شيمشك قبل تعيينه، ورئيسة البنك المركزي حفيظة غاية أركان قبل استقدامها لرئاسة المركزي.. كانت هناك مجموعة من الشروط أهمها ضمان رفع الوصاية من مؤسسة الرئاسة فيما يتعلق بالمؤسسة النقدية وإدارة المركزي “.
وأعلن مجلس التنسيق الاقتصادي التركي، إن هدف الاقتصاد الكلي في المرحلة المقبلة، هو خفض معدل التضخم لمرتبة الآحاد من جديد في البلاد.
ومنذ نوفمبر من العام الماضي يتراجع معدل التضخم في تركيا بشكل متواصل بعد أن لامس أعلى مستوى في 24 عاما تجاوز 85 بالمئة في أكتوبر من العام الماضي.
وبحسب البيانات الرسمية، فإن معدل التضخم السنوي في تركيا انخفض في يونيو الماضي للشهر الثامن على التوالي إلى نحو 38.2 بالمئة في يونيو، مقابل حوالي 39.6 بالمئة في الشهر السابق.