آخر خبر

البراعة بالكذب | صحيفة مكة


يعد “قول الحقيقة” بذرة الحق، حيث إن بوح النفس البشرية بجميع لغاتها وتعاملاتها وأقوالها وأفعالها، أساس العدالة والأمانة والمنطق والوضوح، ونقيض هذه الصفة هو “الكذب” الذي يجعلنا نواجه تساؤلات محيرة ليست أخلاقية وإنسانية حين يمارسها الكاذب ببراعة وإتقان، لذلك قيل: “الكذب لا يخفي الحقيقة، إنما يؤجل انكشافها”.

في الحياة اليومية مشاهد متعددة من أصناف الكاذبين؛ فالشخص الكاذب مليئ بالسيناريوهات الخيالية وبتحريف الكلمات وتلفيق الحيل الذكية أو الساذجة؛ بهدف تمرير أكاذيبه وإخفاء الحقيقة.

وفي نفس الصدد فإن الحال كذلك في العلاقات العامة بيننا؛ فحين نكظم مشاعرنا غيرة أو ازدراء بقدر ما يصدمنا انتهاك حرمة الحقيقة والوضوح، ولكن التمعن قليلا في طبيعة البشر وألوان خطاباتهم يجعلنا ندرك مدى بشاعة الكذب وأماراته التي لا تنتهي، والانبهار بقدرة الكاذب الإبداعية.

وفي السياق ذاته، فقد أشارت الدراسات النفسية إلى السبب الرئيس لممارسة الكذب المستمر وإتقانه، بأنه مرض ونزعة مستمرة قهرية لقول الأكاذيب التي لا تتناسب مع أي فائدة اجتماعية، وعند التعمق بطبيعة الإنسان بشكل أكبر سنكشف الكثير من الأمور المعقدة والأكثر عمقا بتفاصيل غير مفهومة، لهذا قد تكون ممارسة الكذب من أجل الرغبات الشخصية والمصلحة العامة أو الخاصة. وبذلك فحين نتحدث إلى شخص يتميز بالصدق والوضوح بالتأكيد ينتابنا شعور الارتياح، وهذا فطري لا إرادة لنا به، وعندما يتحدث الكاذب لا يشكل الارتياح طمأنينة روحية. فقد يشعر المرء بشعور مريب، وهذا سلاحنا الداخلي للتفريق بين الكاذب والصادق.

لذلك فإن مثل هذه المراوغات اللفظية تشير إلى أنها تركيبة جسدية مركبة مضطربة تصنعها الكلمات والأفعال والأعذار والهزليات في حقيقة الأمر، فالكاذب الذي لا يعرف الندامة يتحرر من واجب الحقيقة من خلال تحوله إلى حِرباء؛ فهو مستعد إلى أن يتلبس جميع الأدوار، ولسوف تقدم هندسة النقاش والحذلقة في عرض المرافعات حجابا لغويا يختفي وراءه دوافع هذه الأعمال، لكن الآذان المرهفة ستدرك ما بين سطور مثل هذه المظاهر البسيطة التي تشتم فيها روائح الكذب.

فما أن يفتضح أمر أحد الكاذبين حتى يفقد رصيد مصداقيته، وثقة الآخرين به، وتصبح جميع أحاديثه مع مرور الزمن متهمة بالكذب والبهتان حتى عندما ينطق بالحق والصدق.

وفي حقيقة الأمر فإن الأكذوبة تفترض سلوكا متكاملا ومتحولا؛ لأن الكذب يشرك العاطفة والعقل معا، ويجعل الطاقات الذهنية في شتات، وقد يكون الكاذب مثل الممثل هزليا محترفًا قد يتقمص شخصية أخرى لا تقول سوى الحقيقة، وبالتأكيد فإن الشخص يكذب وهو مدرك للسبب: إنه يعرف الحقيقة لكنه يقرر طمسها، بل حتى قد يقول نقيضها، وإنه يكذب عن سابق عزم وتصميم!.

ورغم ذلك هناك الكثير من المواقف التي لا يمكن فيها تحديد الكذب بوضوح، فتقديم الوقائع بمظهر خادع ومموه، حيث يحول غموض المقاصد والنوايا لدى الشخص الكذوب دون افتضاح أكاذيبه.

فهل يكذب الكاذب عامدا متعمدا على الدوام؟ وما مدى إدراكه لما يأتيه من الإفك؟ إنَّ صرامة المبادئ الأخلاقية لا تتناسب البتة مع فحص دقيق لدوافع الكذب، فيما أن الكاذب بعض الأحيان ومن دون أن يكون ذلك سببا لاعتباره مضطربا عقليا قد يتوصل عبر عملية من الإقناع الذاتي إلى تصديق أكاذيبه الخاصة.

ثم إن هؤلاء الذين يخاطبهم الكاذبون في سياق الحياة المريح، ليسوا على قناعة بكذب محدثيهم؛ فإدراك الكذبة يتوقف على تعريف كل فرد وشعوره.

ولعلنا لا نستطيع اتخاذ نية انتهاك الحقيقة؛ بوصفها معيارا مطلقا، فالبعض يحسن التعامل مع معيار الحقيقة فيما يختبر البعض الآخر مشاعر حادّة من تأنيب الضمير، فحين يكذب البشر، فهم متساوون في قدرتهم على انتهاك القانون الديني والأخلاقي، والقدرة على الكذب بنفس المستويات العقلية، فالبعض يبرر الأكاذيب ويصنفها بين كذبة بيضاء وكذبة سوداء، ويعتقد بأنه أحل له الكذب بهذه الطريقة.

الصفات التي تظهر على الكاذب تجعلنا نكتشف المدى الرحيب لعلامات الكذب ولغاته، وتقدم لنا الحياة صفات متعددة من الكذب منها العام والخاص والروحي والمادي، حيث إن من أهم صفات الكذب الجسدية الظاهرة هي ارتعاش الأنامل، وحجم حدقة العين، ونبرة الصوت المترددة، والهروب من المواجهة، وعدم القدرة على الثبات المستمر، وقد يكون هناك مبالغة في إظهار المشاعر العاطفية، فالجسد يصدع بالحق حينما تحجبه الروح؛ فالجسد مسرح لتلك الحرب الدائرة بين الحقيقة والكذب.

وقد نلاحظ مدى الضرر اللاحق بسبب معاندة الحق، وتظهر الاضطرابات الجسدية الدفينة الحادة التي تبين كيف أن الكذب لا يمكنه أن يظل حبيس الروح الخبيثة بل سوف يشع الاضطراب إلى الخارج، فقد يهتز الجسد الكاذب من كثرة حمولته من الكلام الخادع، ويكشف الصراع ما بين المكر والحقيقة.

إن مواجهة قوة الكذب تقتضي تحليل كفاءته للشخص الكاذب، وقياسها بتلك الحقيقة الغامضة، والتحليل من حيث التكلم بهما، واستقلالهما الذاتي والهدف وراء صنع هذه الأكاذيب يمكن للفرد أن ينخدع بها، وأن يصدق بها أكاذيبه، أو أن يقع بها في شراك كبريائه وغطرسته التي تقودنا إلى المضي بحثا حول الكذب بعيدا جدا إلى ما وراء حدود العمل المقصود به.

وهكذا فإن الإلحاح والإلحاف وكثرة الأعذار والتحدث باستمرار بتبريرات غير مطلوبة هي علامات لغوية مشبوهة تكشف عن أمر مريب يناقض ما يعرضه عليك الكاذب من مزاعم وادعاءات.

وعليه فإن الإصرار على تكرار السلوك نفسه بالكذب المستمر يشير إلى صدمة سابقة كان المرء قد تعرض لها، ولم يتوصل بعد إلى استيعابها وتجاوزها، أما من وجهة نظر لغوية، فهي تشير إلى نشاز معيشي في الوقت الحاضر بل صراع معاصر بين ما يقال وبين ما يقصد به.

لذلك فقد يكذب الطفل أنه كسر الإبريق خوفا من معاقبة والديه، وقد ينكر الخائن لوطنه أنه مفسد بأعماله، وقد كذب الفيلسوف جان جاك روسو، الذي ألف بحثا عظيما في التربية، وقدم نفسه على أنه الأب الحنون، بالرغم من تخليه عن أطفاله الخمسة، وكلاهما حينما يواجهان بالأدلة قد ينكر ويبحث عن التبريرات غير المنطقية؛ ليثبت فيه أكاذيبه وتناقضاته النفسية، ورغم هذا لا تنبني الحقيقة دائما على وقائع قابلة لإثبات صحتها، بل إن نظرته الكذوبة إلى كذبته قد تتغير إلى أن يصبح شخصا غير صالح، ويجب تغيير المفاهيم الخاصة به أو البحث عن أصل الرغبات من أجل مصلحة الكذب والدخول إلى متاهات الكاذب والخوض معه بهذه الألاعيب.

وفي شأن متصل، نجد أن الأمر لا يتعلق بمضمون الكذب بقدر ما يتعلق بممارسته، حيث إن اختلاق الوقائع والزعم بحقيقتها بكل “إيمان مطلق” يرتكز في مخيلة ذات النكهة الطفولية، وهكذا فإن المتعة في الكذب من دون قصد الإضرار تشير إلى طابعه المعقد، وإلى انسلاله الماكر داخل سلوكيات متعددة، فإذا كان الهدف الوحيد من الكذب هو تزييف الحقيقة لغاية في نفس يعقوب فسوف تحسم الأخلاق أمره بكل سهولة، أما إذا كان من الممكن ارتكاب الكذب دون هدف محدد وبخلو الغاية والغرض، فسوف يتملص حينها من قبضة المنطق الأخلاقي.

لذلك فإن الطفل الأول يكذب من أجل أن يخفي حماقاته، ويتجنب العقاب من والديه، إنّه يتبع غريزة مصلحته المباشرة، ويشبك نفسه داخل ادعاءاته الخيالية، وهذا الطفل نفسه في المستقبل سيكذب من دون مصلحة؛ لأنه يمضي بعيدًا إلى ما وراء الخير والشر؛ لأنه يخلص الحقيقة من حمولتها الغيبية والأخلاقية، وهكذا يجتمع الطفلان معا ليكذبا بكل براءة وبطهارةٍ في الأعماق.

وعليه فإن ارتكاب الكذب على هذا النحو يفترض نسيان دلالته الأخلاقية، كما يفترض بالطبع جهله بقاعدة السلوك العامة، حيث إن الأمر لا يتعلق بأنماط شخصية الكاذبين، وإنما يتعلق بمضمون الكذب وغاياته وأنشطته وأساليبه على مهل وتخطيط، لقد كان الفيلسوف كانط يدافع باسم مبدأ لا يجوز المساس به، وهو يؤكد استحالة تبرير الكذب مهما كانت الظروف أو النوايا أو النتائج.

إن استقلال الإرادة يفترض واجبًا مطلقا بقول الصدق، ويجب على أن أمتنع عن الكذب ليس خوفًا من العار الذي قد يجلبه علي، ولكن يجب عليّ أن أمتنع عن الكذب حتى إن لم يلحقن بسببه أي شوائب من الخزي، فإذا ما وجدت نفسي في خطر عظيم، ولم أستطع الخروج منه إلا بأن أكذب، فإن الكذب رغم ذلك يبقى على الدوام خطأ دينيا وأخلاقيا.

وفي السياق ذاته، فإن ضبابية الأسباب التي تقف وراء سلوكياتنا تقودنا إلى البحث حول واجب إظهار الحقيقة ليس لدى الغير فحسب بل لدى أنفسنا أيضا، فكيف لا يكذب المرء على نفسه؟ وكيف ندرك الدوافع التي تجعلنا ننكر الحقيقة أو نطمسها؟. إن هاجس البحث يدور حول هذه المشكلة، وهو لا يهدف إلى الإجابة عليها أو علاجها بقدر ما يهدف إلى إظهار الحيلة وملكة الإبداع التي يتمتع بها الكاذبون، لهذا سوف نجد أن الكذب الذي يرتكبه المرء بحق نفسه هو الأسوأ، وإن الاستثمار في استخدام اللغة في الكلام الصادق والواضح قد يأتي على درجات متفاوتة من الروعة، إنه أساس الخطابات العامة والخاصة الملموسة وغير الملموسة المادية والروحية، ويجب أن نكون صادقين مع أنفسنا، وألا نخوض مع الكاذبين في طرقات اللعب بالأقنعة والأدوار.

إن إدراكنا للكذب يرغمنا على الشعور بالوحدةِ بصورة مزدوجة، فنحن إذ نعاين كذب الآخرين نكتشف الميل الذي لا ينضب لدى البشر إلى رواية القصص، وإلى الكذب حول الأسباب الباعثة على التصرف على نحو ما، وإلى رفع الشعارات السامية عاليا.

لكننا ندرك على وجه الخصوص بأننا فيما يتعلق بموقفنا الخاص محاصرون إلى حد كبير بآفة مماثلة، إننا نرغب في فرض الحقيقة، وفي جعل الآخرين يوجهونها، ويعترفون بما يمارسونها.

ومع ذلك كيف يمكننا أن نفعل ذلك طالما أن هذه المظاهر الخادعة تحيلنا إلى أوهامنا الخاصة، وإلى الشك في أكاذيبنا الخاصة؟ فحتى الرّغبة في الحقيقة قد تخفي دوافع غامضة!.

إن التأثيرات التي ترافق عمليات الإحالة إلى الحقيقة، فمن يضحي بنفسه من أجل الحقيقة؟ وما الترضيات التي يوفرها التزامه الذاتي بقول الحقيقة؟، ولماذا يعلن على الملأ حبه للحقيقة؟ وشفافيته، وصدقه، ونقاء جبلته على العكس من ضبابية الغلط، والخطأ، والكذب، ونفاقه المضحك. لكن هذه الأفكار جميعها تذبل وتذوي سواء تلك المنحدرات الأخلاقية أم تلك التخيلات عن الحقيقة التي تقارن بكثير من الصفات الإيجابية.

إن الحماسة التي تثيرها المطالبة بالحقيقة ليست بمستغربة على أحد، على أن يكون المطالب بها بكل نية صادقة هو أحد الكاذبين، فالكاذب الذي أصبح فجأة ملتزما بالوصول إلى الحقيقة، فعبارة «أنا أكذب» لا يمكن الموافقة عليها؛ لأنها تحمل نقيضها: فإذا كنت أكذب حينما قلت إنني أكذب، فهذا يعني أنني أقول الحقيقة إذا ما سلمنا بأن كذبة من الأكاذيب تظهر في كامل قوتها حينما تقدّم نفسها تحت رعاية الحقيقة والصواب، لذلك فـ”الصدق” عاقبته خير، وهو أرفع القيم الأخلاقية وأكثرها فاعلية وترجمة على أرض الواقع، وهو جوهرة تاج القيم الأخلاقية والإنسانية.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى