أخبار العالم

مشرق وشيخوخة وأذواق.. لماذا توقف قطار حياة الموسيقى المغربية العصرية؟



لماذا لم تُعمّر الأغنية المغربية العصرية طويلا؟ ولماذا لم يمتد أثرها إلى خلق موسيقيين جدد يستمر معهم نغمها وكتابتها ويتجدد إلا من كلاسيكيات صارت جزءا من التاريخ الموسيقي للمملكة؟

يجد القارئ جواب هذين السؤالين في أحدث إصدارين للناقد المغربي حسن بحراوي “الأغنية المغربية العصرية.. التاريخ والاتجاهات”، و”بصدد الظاهرة الغيوانية”.

كيف تأثر المغرب بالأغنية المشرقية؟

كانت “الأغنية المغربية العصرية” ثمرة “تضافر جملة من العوامل الخارجية؛ الأغنية المشرقية المصرية خاصة، والمؤثرات الداخلية مثل الغناء التقليدي الأندلسي والغرناطي وطرب الملحون، إلى جانب استلهام التراث الشعبي المحلي الرائج مثل العيطة والطقطوقة والبراويل…”، وفق بحراوي.

ورصد الأستاذ الجامعي المغربي المهتم بالفنون الشعبية حلول مرسي بركات، عازف القانون المصري، بالمغرب “بدعوة من المولى عبد العزيز سنة 1906، مع مجموعة موسيقية لإحياء بعض الحفلات في القصور السلطانية”.

وأضاف: “يبدو أن المقام قد طاب له ببلادنا، وأوحى للملك بإنشاء جوق ملكي عصري يتولى إحداث تحول في التقاليد المخزنية العتيقة في باب الموسيقى والتطريب. وهكذا، جرى الدخول المباشر للأدوار والطقاطيق الشرقية إلى الأرض المغربية، إلى جانب فنون الموشحات الشامية (…) وهو ما سيسفر بعد ذلك عن بروز نخبة من شباب العازفين المغاربة الأوائل”.

وتحدث بحراوي عن “الدور الكبير الذي نهض به مرسي بركات في (شرقنة) الموسيقى المغربية”، وهي شرقنة “لا تخرج عن الغناء الكلاسيكي المصري على وجه التحديد، ممثلا في أغاني الشيخ محمد أبو العلا، وسيد درويش، وسلامة حجازي، وعبده الحمولي، ومحمد عبد الوهاب…”؛ وهو ما تضاف إليه “ظاهرة الفرق المسرحية المصرية الجوالة ابتداء من سنة 1923، التي كان طاقمها يتضمن على الدوام جوقا موسيقيا من المألوف أن يفتتح العروض التمثيلية ويختتمها، وربما قدم وصلات موسيقية بين المشاهد (…) ومع أن الأمر كان يتعلق بعروض مسرحية في المقام الأول، فإن المغاربة أبدوا إعجابهم بالمغنين والمطربين أكثر مما أثار انتباههم الممثلون والممثلات. وقد صاف أن معظم هؤلاء الممثلين كانوا في الأصل مغنين وعازفين؛ مثل محمد عز الدين، وحسن بنان، وسامي الشوا”.

بعد ذلك، “جاء الدور على الإذاعة التي أنشأتها سلطات الحماية أواخر العشرينيات (1928)، وصارت بعد وقت قصير وسيلة المغاربة للانفتاح على نماذج الغناء المصري الكلاسيكي، وموسيقى التطريب الشرقي التي أصبحت تملأ البيوت والمقاهي وتشنف أسماع الشباب الذين كانوا قد ضاقوا ذرعا بالغناء التقليدي العتيق، الذي ظل يُعزف مباشرة على أمواج الإذاعة، قبل استحداث التسجيلات المسموعة”.

في هذه الحقبة ذاتها، “كانت مجموعة من التجار اللبنانيين في الدار البيضاء قد فتحت محلات لبيع وكراء الأسطوانات الغنائي؛ وهو الأمر الذي فتح أسماع الناس وأذواقهم تدريجيا على ريبرتوار غنائي شرقي، وخاصة منه المصري والشامي، سرعان ما تحول مع مرور الوقت إلى شيء دائم الحضور في المقاهي والأعراس والاحتفالات كيفما كان نوعها. وتعرف المغاربة، عبر هذه الوسائط، على نجوم الغناء الشرقي التي مارست عليهم تأثيرا فنيا وعاطفيا عارما، استمر لعقود عديدة، مثل محمد عبد الوهاب الذي دشن سلسلة أفلامه الغنائية، منذ سنة 1933 (…) وخلالها أولع المغاربة بأغان ومقطوعات؛ من قبيل ‘الصبا والجمال’ و’جفنه علم الغزل’ و’مضناك جفاه’ (…) وشاهدوا أفلام فريد الأطرش”، ومن المغنيات “أتحفتهم الإذاعة بأصوات الرائدات”؛ مثل أسمهان، لور دكاش، شادية، فايزة أحمد، و”الديفا كوكب الشرق أم كلثوم، التي كانت أول من اشتهر من مغني القرن العشرين”.

كما تيمت مغاربة أغاني محمد عبد المطلب، وكارم محمود، ومحمد قنديل، و”أخيرا برز نجم عبد الحليم حافظ، الذي صارت أغانيه منذ بداية الخمسينيات على كل لسان”.

وأردف حسن بحراوي قائلا: “بهذه الذاكرة الغنائية الخصبة ومتعددة المصادر، أتيح للمغاربة أن ينفتحوا على ألوان الغناء الشرقي الأكثر تنوعا دائما، ويطوروا أذواقهم باتجاه التفاعل مع الأساليب الجديدة في التلحين والأداء (…) وزاد شباب الهواة على ذلك بأن شرعوا يتمرسون على عزف وغناء تلك النماذج الشرقية التي تشبعوا بها عبر مشاهدة الأفلام الغنائية وسماع التسجيلات من الإذاعة والأسطوانات، وانصرفوا تدريجيا عن معهود ارتباطهم اليومي بطرب الآلة الأندلسية، وفن الملحون، وكل ما هو تقليدي وشعبي بحصر المعنى، وبرز من بينهم عازفون ومغنون صاروا يحيون الحفلات ويتلقون التشجيعات، ولمعت في الثلاثينيات أسماء مثل أحمد البيضاوي، وعباس الخياطي، ومحمد السميرس، ومحمد القزوي، وعبد القادر بنصالح. وتبعهم في الأربعينيات جيل جديد أكثر تشبعا بالغناء الشرقي وإتقانا لفنونه؛ مثل عبد الوهاب أكومي، وعبد النبي الجراري، وعبد القادر الراشدي”.

وعاد الكتاب إلى تأسيس “الجوق الملكي للموسيقى العصرية” في ثلاثينيات القرن العشرين، بأمر من السلطان محمد الخامس، الذي “ستسند إدارته للقانونجي المصري مرسي بركات، الذي ستكون له أياد بيضاء على الممارسة الموسيقية بالمغرب، عندما أحاط نفسه بمجموعة من الموسيقيين المغاربة من بينهم أحمد البيضاوي”، الذي سيدير الجوق بعد وفاته في الأربعينيات.

لماذا كسدت الأغنية العصرية بالمغرب؟

نبه الناقد حسن بحراوي إلى أن الأجواق المغربية، التي توالى تأسيسها بعد أربعينيات القرن العشرين، “كانت تمضي بعيدا في تقليد ومحاكاة أوفاق التطريب الشرقية، سواء من حيث أساليب العزف على الآلات مثل الكمان والقانون والعود والإيقاع، أو من حيث الأداء الصوتي، وغلبة المواويل، والغناء الفردي. وطبعا، لم يكن من الوارد والمتوقع أن يعلن هؤلاء الهواة المبتدئون عن شيء من الأصالة والتميز، طالما ظلوا في دائرة التقليد لأسلوب التخت المصري الذي كان هو نفسه يعاني من الرتابة والاجترار فلا يخرج عن البرنامج المرسوم؛ بشرف أو سماعين موشحات، ليالي، قصيدة دور أو طقطوقة”.

وأضاف الناقد المغربي: “تقدم لنا الألحان والأغاني الأولى لأحمد البيضاوي وعبد الوهاب أكومي وعباس الخياطي والمعطي البيضاوي خير مثال على مدى التأثر البالغ الذي كان يفعل فعله في نخبة الفنانين المغاربة الشباب منذ منتصف القرن الماضي؛ ذلك التأثر البالغ الذي بلغ ذروته باستعمال كلمات بالعامية المصرية، وإغراق في استنساخ القوالب اللحنية ذات المقامات والنغمات المستوردة”.. وبالتالي “ستبقى أجواقنا الناشئة على هذه الوتيرة لا تبرحها إلى أواخر الخمسينيات، حيث ستبدأ بعض المحاولات المحتشمة، للبحث عن طريق جديد يحررها من التأثر المبالغ فيه بالغناء الشرقي المصري، وتبرز الرغبة المشبوبة في اجتراح غناء مغربي له كلماته وأسلوبه وهويته الموسيقية المستقلة”، مع “الفوج الأول من أصحاب الألحان الأصيلة، كمحمد فويتح، وعبد القادر الراشدي، وإبراهيم العلمي، ومحمد بنعبد السلام”.

لكن، كان ينبغي “انتظار مزيد من الوقت ليتم لهم التحرر الكامل والنهائي من تأثير الأغنية المشرقية”؛ لأنها “ظلت عبر السنوات والعقود، ونجحت في التغلغل في لاوعي الفنانين المغاربة الذي ظلوا على الدوام يعتبرونها نموذجا ومثالا يقتدون به، وينسجون على منواله، وينعمون من جراء ذلك بكل التنويه المنتظر والتقدير المستحق”. كما أن “التقاليد التطريبية الوافدة كانت قد تمكنت من وجدان المستمع المغربي نفسه إلى حد لا يوصف؛ بل إنها صارت بالنسبة إليه مقياسا لنجاح أو فشل أي أغنية كيفما كان نوعها، وطريقة حاسمة للحكم على كل إبداع موسيقي ينتجه الفنانون المغاربة”.

ومع مرور السنوات، سارت الأغنية المغربية العصرية في اتجاهات متقاربة، ولو كانت متباينة المصادر، وميز فيها بحراوي بين أنماط غنائية، هي: “الاستلهام المشرقي” الذي من نماذجه البيضاوي والجراري وعامر، و”الاستلهام الشعبي” ومن أمثلته العلمي وبنعبد السلام وفويتح، و”الاستلهام الأندلسي” مع عباس الخياطي وأكومي على سبيل المثال، ثم “الاستلهام المتوازن” مع الراشدي والسقاط وعبد الوهاب الدكالي.

ثم أردف الكاتب: “تجاوزت الأغنية العصرية مع الأجيال الجديدة إشكالية الاستلهام المباشر، ومالت إلى الاستفادة من جهود الرواد بطريقة مواربة؛ ولكن بارزة المعالم كما تبلورت نتائجها في ألحان كل من أحمد العلوي وعبد القادر وهبي وحسن القدميري وآخرين”.

وجوابا عن سبب مرور لحظة “الموسيقى العصرية المغربية”، ذكر بحراوي أنه منذ “أواسط الستينيات من القرن الماضي، كان قد طفح الكيل بألوان الطرب والموسيقى الرائجة في المغرب؛ فالفنون التقليدية من آلة أندلسية، وملحون، وعيطة، وبراويل شعبية… كانت قد أغرقت في الاجترار ومراوحة المكان من جراء الجمود وانعدام التجديد؛ الشيء الذي صرف عنها اهتمام عموم المستمعين الشباب خاصة. وبدوره، ظل الغناء العصري الوطني يعاني من التأثير الكاسح للموسيقى الشرقية؛ وبالتالي عاجزا عن تقديم بديل محلي مقنع بكلماته وألحانه، مما قلص من تواصله مع الأجيال الجديدة”.

وفسر حسن بحراوي “أسباب توقف قطار الأغنية العصرية المغربية تقريبا” بعناصر؛ من بينها رحيل الرواد الأوائل بسبب الشيخوخة أو المرض، وتوقف آخرين عن الإنتاج بسبب قلة التحفيز وتغير وسائل التلقي التي صارت إلى تعقيد غير مقدور عليه من فيديوهات مصورة وإنترنت، إضافة إلى قلة اهتمام الإعلام السمعي البصري الوطني الذي صار يفضل عليها شقيقاتها المصرية والخليجية.

ومن آراء الباحثين التي فسر بها الناقد هذا المصير مواصلة “الجميع الإشارة بأصبع الاتهام إلى (الغزو المشرقي) في صورته الأكثر ضحالة، بوصفه السبب الرئيسي في تقهقر الغناء المغربي الذي لم يعد بوسعه مواجهة الموجات المتتالية وذات الإغراء الكبير في الإبداع والتقنيات”. كما نبه المصدر إلى تفسيرات بينت أن هذا أمر بدهي في النهاية “بحكم حداثة عمر الأغنية العصرية المغربية الذي لم يتجاوز نصف قرن مما طبعها بالهشاشة وجعلها مرشحة على الدوام للتراجع ومراوحة المكان”.

ومن بين ما استحضره الأكاديمي والناقد آراء تقول بأن من أسباب التقهقر الذي أصاب الأغنية المغربية العصرية “الغياب شبه التام للمواكبة النقدية التي تحتاج إليها كل حركة فنية لتواصل الإنتاج والتطور”، و”غياب الوعي بتغير الذوق لدى الأجيال المتعاقبة وعدم الاهتمام بتجديد أساليب التلحين والأداء لكي تواكب تلك المتغيرات وتلبي حاجاتها المستجدة لدى المتلقي”.

فماذا كانت النتيجة؟ أجاب حسن بحراوي: “الباب قد فُتح أمام أنماط غنائية (…) متسرعة الإيقاع، وخفيفة المحتوى؛ بحيث صار عمرها قصيرا قد لا يتجاوز الموسم الواحد، وذلك بالرغم من ملايين المستمعين الافتراضيين الذين جلبهم الاعتماد الذكي على شبكات التواصل الاجتماعي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى