روسيا وأوكرانيا: “لم أعمل أبدا لمصلحة الروس”، فلماذا اتهم بالعمالة؟
- Author, جيمس ووترهاوس
- Role, بي بي سي – أوكرانيا
“لا أستحق أبداً أن أكون هنا”… عبارة قلّما يُمسك عن ترديدها السجناء، لكن تيتيانا بوتابينكو تصرّ على أنها بريئة من اتهامات توجهها إليها الدولة الأوكرانية.
في سجن انفرادي، قضت تيتيانا سنة واحدة من حُكم بخمس سنوات، وتيتيانا واحدة من بين 62 آخرين مدانين بالعمالة للروس ويقضون أحكاما في هذا السجن الذي يقع على مقربة من نهر الدنيبر، على مسافة حوالي 300 كيلو متر من منزل تيتيانا الواقع بدوره في منطقة ليمان إحدى مدن مقاطعة دونيتسك، وهي منطقة تحررت من أيدي الروس عام 2022، بعد احتلال استمر لستة أشهر.
وفي غرفة بالسجن، حيث يُسمح للسجناء بالتواصل هاتفيا مع أقاربهم، تحدثنا إلى تيتيانا التي أوضحت أنها ظلت على مدى 15 عاما ناشطة خيرية متطوعة في الحيّ الذي تعيش فيه؛ فكانت بذلك تنسّق مع مسؤولين محليين، وقد استمّرت في هذا النشاط التطوعي حتى بعد وصول الروس واحتلالهم المنطقة، وقد كلفها ذلك غاليا.
ويوجه الادعاء الأوكراني اتهاما إلى تيتيانا بأنها اضطلعت مع المحتلين بدور رسمي، والذي تضمّن توزيع مواد إغاثية.
تقول تيتيانا: “الشتاء انتهى، والناس لم يعد لديهم طعام، وكان لابد أن نتصرف. لم أستطع التخلي عن كبار السن، أنا التي نشأت وعشت حياتي بينهم”.
تبلغ تيتيانا من العمر 54 عاما، وهي واحدة من بين نحو ألفي شخص أدينوا بالعمالة مع الروس، بموجب قانون تمّ سَنُّه على عَجل تحت وطأة الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022.
أرادت كييف بذلك أن تردع الناس عن التعاطف مع الغزاة والتعاون معهم. وفي ضوء ذلك، وفي مدة تتجاوز الأسبوع بقليل، مرّر المشرعون الأوكرانيون تعديلا على القانون الجنائي، ليصبح التعامل مع الغزاة جريمة – وهي خطوة كانوا قد أخفقوا في الاتفاق على إنجازها منذ 2014، عندما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية.
وقبل االغزو الروسي لأوكرانيا، كانت تيتيانا معتادة على التنسيق مع المسؤولين المحليين من أجل توفير المواد الناقصة في الحي الذي تعيش فيه، مثل الوقود.
وبعد مجيء مسؤولين روس جُدد، تقول تيتيانا إن أحد أصدقائها أقنعها بالتواصل مع هؤلاء المسؤولين الجُدد والتنسيق معهم من أجل تأمين أدوية ناقصة بشدة.
تقول تيتيانا: “لم أذهب إليهم طواعية، وقد أوضحت للمحققين أن أناساً عاجزين لم يكن باستطاعتهم الحصول على الأدوية التي يحتاجونها. قام شخص ما بتصويري ونشر الفيديو عبر الإنترنت، وقد استند الادعاء الأوكراني على هذا الفيديو في توجيه الاتهام إليّ بالعمالة مع الروس”.
بعد تحرير منطقة ليمان من أيدي الروس، حصلت محكمة على مستندات عليها توقيع تيتيانا، بما يوحي بأنها كانت تضطلع بدور رسمي في ظل وجود الاحتلال.
وتتساءل تيتيانا: “ما هي جريمتي؟ النضال لمصلحة أهلي؟ لم أعمل أبدا لمصلحة الروس. لقد عشتُ من أجل الناس وها أنا ذي في السجن”.
قانون العمالة الصادر في 2022 تم سَنُّه لمنع الناس من التعامل مع الجيش الروسي الزاحف على أوكرانيا، بحسب أونيسيا سينيوك، الخبيرة القانونية بمركز زمينا لحقوق الإنسان في كييف.
على أن هذا القانون يشمل كل أنواع الأنشطة، بما في ذلك، تلك التي لا تضرّ بالأمن القومي الأوكراني، بحسب أونيسيا.
وتتراوح جرائم العمالة مع الروس من مجرد إنكار عدم مشروعية الغزو الروسي لأوكرانيا -أو دعم هذا الاجتياح سواء في الواقع أو عبر الإنترنت- إلى الاضطلاع بدور سياسي أو عسكري لمصلحة قوات الاحتلال.
وتعتبر العقوبات المفروضة في هذه الجرائم قاسية أيضا، حيث تصل مدة السجن إلى 15 عاما.
وقامت أونيسيا، رفقة فريقها، بفحص أوراق نحو 9 آلاف قضية -بينها قضية تيتيانا، وخلصت إلى القول إنها تخشى أن يكون قانون العمالة مع الروس فضفاضا للغاية.
تقول أونيسيا: “بمقتضى هذا القانون، سيتعرض الأشخاص الذين يقومون الآن بتقديم خدمات حيوية في المناطق المحتلة للمساءلة”.
وتعتقد أونيسيا أن على المشرعين أن يأخذوا في اعتبارهم واقع الحياة على الأرض وطبيعة العمل في ظل الاحتلال لمدة تزيد على العامين.
سافرنا إلى منزل تيتيانا حيث كانت تعيش، لزيارة زوجها الطاعن في السن وطفلها من ذوي الإعاقة، وبينما كنا نقترب من منطقة ليمان، بدت آثار الحرب واضحة.
غابت معالم الحياة المدنية، وتدلّت أسلاك الكهرباء من الأعمدة المنهارة، وغطّى العشب قضبان السكك الحديدية.
حقول عباد الشمس وحدها لم تُمسّ، أما المدينة فقد نالت منها الهجمات الجوية والعمليات القتالية.
وتراجعت القوات الروسية الآن إلى الوراء حوالي 10 كيلومترات. وقيل لنا إنهم عادة ما يبدؤون القصف حوالي الساعة 15:30 بالتوقيت المحلي، ولم يكن يوم زيارتنا استثناءً.
زوج تيتيانا يُدعى فولوديمير أندرييف، يبلغ من العمر 73 عاما، قال لنا إنه “يعيش في حالة صعبة” – المنزل متداعٍ وزوجته سجينة، ولولا مساعدة الجيران لما استطاع أن يعيش هو وابنه.
يقول فولوديمير: “لو أنني كنت ضعيفا، لانفجرت باكيا”.
ويناضل فولوديمير لكي يفهم لماذا زوجته ليست معه.
كان يمكن لتيتيانا أن تحصل على حُكم بالسجن لفترة أقصر لو أنها أقرّت بجُرمها، لكنها رفضت ذلك.
تقول تيتيانا: “لن أقرّ أبداً أنني أعادي بلدي”.
وفي مدينة ليمان أيضا، يعيش دميترو هيراسيمينكو، وهو فنّي كهرباء يعمل منذ نحو عشر سنوات في المنطقة.
وفي أكتوبر/تشرين أول 2022، خرج دميترو بعد انتهاء القصف بالمدافع وقذائف الهاون.
يتذكر دميترو: “عندئذ ظل سكان المنطقة بلا كهرباء لمدة شهرين”.
وقد طلبت سلطات الاحتلال متطوعين للمساعدة في استعادة الكهرباء، فتقدّم دميترو لهذه المهمة، قائلا “الناس يجب أن يعيشوا. وقد قال الروس إنّ عليّ أن أعمل ذلك، فخشيتُ أن يقتلوني إن رفضت”.
بالنسبة لـ دميترو، وكذلك أيضا تيتيانا، لم تدُم الفرحة بالخلاص من الاحتلال وقتا طويلا؛ فما أن استعادت السلطات الأوكرانية السيطرة على مدينة ليمان، حتى استدعت أجهزة الأمن كليهما للمساءلة.
لكن دميترو، على خلاف تيتيانا، أقرّ بالتعاون مع المحتلين في إعادة الكهرباء للمنطقة، فحصل بذلك على حُكم بالسجن ولكن مع وقف التنفيذ، فيما حُرم من العمل الحكومي لمدة 12 عاما.
قابلنا دميترو في إحدى الورش، حيث يعمل الآن كـ ميكانيكي.
وقال لنا: “لا يمكن تصنيفي في نفس مكان العملاء الذين أسهموا في توجيه صواريخ الأعداء نحو أهداف بعينها”.
ومثل تيتيانا، يتساءل دميترو: “ما الذي يمكن أن تشعر به إذا وجدت جيشا أجنبيا يحتل منطقتك؟ إنه الخوف بلا شك”. وهذا الشعور بالخوف له ما يبرره.
وقد وجدت الأمم المتحدة دليلا على استهداف قوات روسية لأوكرانيين وتعذيبهم لأنهم يدعمون بلدهم.
وقالت دانييل بيل، رئيسة بعثة الأمم المتحدة لمراقبة حقوق الإنسان في أوكرانيا: “لدينا حالات لأفراد تعرضوا للاعتقال والتعذيب والإخفاء، لا لشيء إلا لأنهم عبّروا عن دعمهم لأوكرانيا”.
ومنذ اللحظة التي اجتاحت فيها القوات الروسية شبه جزيرة القرم في عام 2014، تغيّر تعريف “موالاة روسيا” في أعين المشرّعين الأوكرانيين -من مجرد مباركة توثيق العلاقات، إلى دعم الاجتياح الروسي الذي يرون فيه عملية “إبادة جماعية”.
في العام نفسه، قامت قوات موالية لروسيا -بتمويل من الكرملين- باحتلال ثُلث دونيتسك ولوهانسك.
وغالباً ما يختار، أو يضطر، كبار السن إلى العيش تحت الاحتلال. وبعض هؤلاء يكون طاعناً في السن بحيث لا يقوى على المغادرة.
وهناك أيضا مَن يحنّون إلى زمن الاتحاد السوفيتي، أو مَن يميلون إلى التعاطف مع روسيا الحديثة.
ولكن، في حال استعادت أوكرانيا كل أراضيها مرة أخرى، هل يصبح قانون العمالة مع الروس مفرطاً في القسوة؟
رداً على ذلك، قال مشرّع أوكراني: “لا توجد مساحة رمادية؛ إما أن تكون معنا أو أن تكون ضدنا”.
أندريي أوسادتشوك، نائب رئيس اللجنة البرلمانية لإنفاذ القانون في أوكرانيا، يعارض بقوة فكرة أنّ قانون العمالة مع الروس هذا يخالف معاهدة جنيف، وإنْ كان يقبل بفكرة أن هذا القانون يحتاج إلى تعديل.
يقول المشرّع الأوكراني: “التبعات شديدة القسوة، لكن هذه ليست جريمة عادية. إننا نتحدث عن حياة وموت”.
ويعتقد أندريي أن القانون الدولي هو الذي بحاجة إلى التعديل من أجل مواكبة ما يقع في أوكرانيا، وليس العكس.
ويؤكد: “هدفنا هو بناء أوكرانيا على أرض محررة، لا أنْ نُسعد أشخاصا في العالم الخارجي”.