المفكر جورج قرم (1940-2024) .. تفاعل الاقتصاد والسياسة في عالم متغيّر

1
رحل عن عالمنا، يوم الأربعاء 14 غشت 2024، جورج قرم، المفكر اللبناني البارز في السياسة والاقتصاد، عن عمر يناهز أربعة وثمانين عاما.
كان قرم خبيرا مرموقا في المجالين الاقتصادي والمالي، ومتخصصا في قضايا الشرق الأوسط ودول حوض البحر الأبيض المتوسط، قدم استشاراته للعديد من المؤسسات الدولية والشركات المالية والمصرفية، كما كان عضوا فاعلا في العديد من مراكز البحث والدراسة.
وعلى الرغم من مسؤولياته خبيرا ماليا ووزيرا وأستاذا جامعيا، لم يثنه ذلك عن الالتزام بقضايا الفكر والكتابة، حيث استمر في التفاعل مع القضايا السياسية والثقافية الراهنة بعمق وإسهام ملحوظ.
في إطار سلسلة المحاضرات العلمية التي نظمتها أكاديمية المملكة المغربية بالرباط، تحضيرا لدورتها الرابعة والثلاثين “من الحداثة إلى الحداثات”، ألقى المفكر جورج قرم محاضرة قيمة بعنوان:” كيف الخروج من إشكالية الأصالة والحداثة؟”، أبرز من خلالها أن التمزق الذي يعصفُ بالعالم العربي كان في جزء كبير منه بسبب المبالغة في التركيز على محاولة فكّ معادلة التوفيق بين الحداثة والأصالة، معتبرا أن الإيمان بقدرة هذا التوازن على إخراج الأمة من أزمتها الراهنة يعدّ تبسيطا مخلا بحقيقة الواقع.
فهل يتوجب على مجتمعات الشرق العربي وشمال إفريقيا تركيز أفق تفكيرها على محاولة توفير التوازن بين الحداثة والأصالة، أم أن هذا المسعى يشكل مضيعة للوقت ولن يقود إلى نتائج ملموسة وذات أثر على المجتمع والفرد؟ وهل يرتبط تقدم العرب وتحررهم من التخلف بشكل حتمي بفصل الدين عن الدولة كما يطالب “الحداثيون”، أم أن هناك بدائل أخرى يمكن أن تساهم في هذا التقدم؟ هذه بعض الأسئلة التي عمّق جورج قرم فيها النظر وقلّب روافدها.
كانت المحاضرة لحظة متميزة، ومناسبة غنية بالمعرفة والفائدة العميقة.
2
يتناول جورج قرم، في كتابه “المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين”، مسألة العنف التوتاليتاري الحديث، متتبعا جذوره وراصدا الحروب الدينية التي صاحبت الإصلاح الديني في أوروبا، مُعارضا بذلك الرأي السائد في الثقافة الفرنسية والأمريكية في ثمانينيات القرن العشرين وما بعدها، الذي يرجعُ هذا العنف إلى الثورة الفرنسية وما تلاها من أحداث معلومة ومعروفة. ينتقد جورج قرم السرديات التي تحتفي بعودة الديني وتعتبرها نتيجة طبيعية لـ”انهيار الإيديولوجيات العلمانية، المتمثل في اختفاء الماركسية”. ويُبدي رأيا مخالفا لذلك، إذ يعتبر أن “عودة الديني” ليست إلا “ظاهرة سياسية كبرى تحمل الاسم فقط من الدين”، إذ لا ترتبط بأي تطور ملحوظ في العقيدة الدينية من حيث اللاهوت أو السياسة، أو في أي شكل من أشكال التعبيرات الإيمانية.
كيف استحوذت الظاهرة الدينية على اهتمامات العالم؟
شكل هذا السؤال عنوان الفصل الأول والأهمّ – في تقديري – لكتاب “المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين”؛ ذلك أن الظاهرة الدينية شهدت اهتماما متزايدا في مختلف أنحاء العالم على مدار العقود الأخيرة، نتيجة لعوامل رئيسية عديدة أهمها:
التحولات الجيوسياسية: فقد تزايدت الأزمات والصراعات الدولية والإقليمية التي تحمل طابعا دينيا أو تستخدم الدين باعتباره وسيلة لتأكيد الهويات الوطنية والقومية. أثارت هذه الصراعات اهتماما عالميا واسعا، وساهمت في تعزيز كل حوار حول الدين في السياسة والاقتصاد.
الأيديولوجيات المتصارعة: مع تراجع تأثير الإيديولوجيات العلمانية التقليدية، بدأت بعض الحركات الدينية في الظهور بوصفها قوى مؤثرة على الساحتين السياسية والاجتماعية؛ فقد أدى انهيار الأنظمة الشيوعية في نهاية القرن العشرين إلى بروز الحركات الدينية باعتبارها محركات رئيسية للتغيير الاجتماعي والسياسي في العديد من الدول.
العولمة والتعددية الثقافية: فقد أدت العولمة إلى تزايد التفاعل بين الثقافات والأديان، مما زاد من الاهتمام بالدين بوصفه عنصرا رئيسيا يسهم في فهم التعددية الثقافية والتعايش بين المجتمعات المختلفة. وفي هذا السياق، أصبح الدين جزءا لا يتجزأ من الحوار العالمي حول الهوية والثقافة.
تحديات الهوية: في عصر الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، بات الدين يشكل عاملا مهما في البحث عن الهوية والانتماء. الكثير من الأفراد والمجتمعات يلجؤون إلى الدين باعتباره وسيلة لتأكيد هويتهم ومواجهة التحديات مهما كان صنفها أو وضعها.
بهذا التصوّر ارتهنت تحليلات جورج قرم على امتداد هذا البحث بتوضيح العديد من التصورات والمفاهيم ذات الصلة بالهوية والثقافة والحضارة في علاقتها بمدركات الدين والتاريخ والفلسفة وتنظيم الحاضرة، على الأقل من زاوية بروز إيديولوجيا المحافظة الجديدة وظاهرة عودة الديني منذ شرع جورج قرم في التحضير لأطروحته حول تأثير التعددية الدينية في النظم السياسية في الحوض المتوسطي. وصدرت، فيما بعد سنة 1977، عن دار النهار ببيروت تحت عنوان “تعدد الأديان وأنظمة الحكم”، على أن اختيار هذا الموضوع أملاه على جورج قرم مصير لبنان الذي جرّ عليه انفتاحه المبكر على الحداثة الأوروبية منذ نهاية القرن السابع عشر عذابات اجتماعية وسياسية وثقافية.
3
ما من شكّ في أن كتاب “المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين” يعدّ من أهمّ الأعمال التي تناولت موضوع الدين وتأثيره على المجتمعات في العصر الحديث، لعمق أطروحته في تناوله لقضايا دور الدين في تشكيل الهوية المجتمعية، والصراعات الدينية، والإسلاموفوبيا، والأديان غير المسيحية في أوروبا وسواها؛ على أن أهمّ ما لفت نظري دعوة جورج قرم لتأسيس ” ميثاق علماني” مستعيرا بذلك تعبيرا ل jean Baubérot في كتابه Vers un nouveau pacte laïque يسهم في وضع حدّ لخليط الحُمَم الهوياتية المتفجر ولانهيار الأخلاقية الدولية على حدّ تعبيره. ومن ثم، لا يتوانى جورج قرم عن القول بأن القوى التي تدعي اليوم الوصاية على “المجتمع الدولي” تعمل دائما ضد هذا الانفتاح، رغم ما تنطوي عليه من خطابات زائفة. فهي، عمليا ونظريا، تدفع بكل ما يسهم في إرساء “إمبراطورية الفوضى” كنمط للحكم العالمي، عبر تفكيك الدول وإشعال الحروب الأهلية وانتهاك السيادات السياسية وإحداث الانفصالات وتصعيد المذهبيات والعرقيات واللجوء إلى الدين واستغلاله.
بهذا، يتناول كتاب جورج قرم القضايا الملحة لعالمنا المعاصر بطرق منهجية متكاملة، مستندا إلى بحث علمي عميق يكشف عن أبعادها المعقدة.
كتاب جدير بالقراءة. لنتأمل؛وإلى حديث آخر.