ذكرى فض رابعة: “معاناتي لم تنته بخروجي من السجن، لكن فقط تغير شكلها”
ربما لا يتذكر كثير من الشباب المصريين الذين هم في بداية العشرينيات من العمر أحداث فض اعتصام رابعة العدوية، التي يمر عليها الآن 11 عاما.
لكن من هم أكبر سناً يتذكرون بالطبع أحداث ذلك اليوم، الذي انتهى بمقتل مئات المتظاهرين المؤيدين للرئيس الراحل محمد مرسي، في يوم الرابع عشر من أغسطس/آب عام 2013، وإلقاء القبض على مئات آخرين.
ففي ذلك اليوم، فضت قوات الأمن المصرية اعتصاما بمحيط مسجد رابعة العدوية، نظمه أنصار الرئيس السابق محمد مرسي، بعد أن عزله الجيش في أعقاب مظاهرات شعبية واسعة اندلعت ضد حكمه في يوليو/تموز من العام نفسه.
وقد أسفرت عملية فض الاعتصام عن مقتل أكثر من 600 من المعتصمين في مقابل مقتل ثمانية من رجال الأمن، حسب رواية الحكومة المصرية، لكن تقديرات أخرى لجماعة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت تحدثت عما يزيد على ألف قتيل بين صفوف المعتصمين. بينما قدرت منظمة هيومان رايتس ووتش أعداد الضحايا من المدنيين بين 800 إلى 1000 شخص.
وقد أعقب ذلك حالة من الجدل والانقسام بين صفوف المصريين ما بين مؤيد لعملية فض الاعتصام ومعارض لها، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى حدوث انقسامات حتى بين أفراد الأسرة الواحدة.
وإذا وضعنا ذلك الانقسام بين المصريين جانبا – والذي ربما يكون موجودا ولكن بدرجة أقل حتى اليوم – فإن هناك حقائق ومعاناة ترتبت على ذلك اليوم، أثرت على المعتقلين وأسرهم، ولا تزال مستمرة حتى اليوم.
بي بي سي تواصلت مع اثنين من الذين اعتقلوا يوم فض اعتصام رابعة، وقضوا سنوات في السجن، لكنهما لا يزالان يعانيان من تداعيات ذلك على حياتهم العائلية.
يقول محمود (وهو اسم مستعار): “اعتقلت يوم فض الاعتصام واتهمت في القضية الرئيسية التي تعرف باسم قضية فض اعتصام رابعة… وأمضيت نحو عامين في السجن حيث كان يجدد حبسي دون أن أحاكم،… وبعد ذلك تمت إحالتي إلى القاضي للتحقيق عام 2015، واستمرت القضية لسنوات ما بين مرافعات وتحقيقات وخلافه، وصدر الحكم علي في عام 2018”.
ويتابع: “صدر الحكم ضدي بالسجن لمدة خمس سنوات، فضلا عن ستة أشهر إضافية، عقوبة على ما اتهموني به من أضرار لحقت بالممتلكات العامة، وسرقة بالإكراه، وتهم أخرى كثيرة ملفقة”، على حد وصفه.
“خرجت فعليا في مارس/آذار عام 2019، بعد أن أمضيت شهراً إضافياً آخر ما بين الأمن الوطني وأقسام الشرطة”.
وأصدرت محكمة جنايات القاهرة أحكاما بالإعدام على عشرات الأشخاص في القضية عام 2018، والسجن على آخرين لمدد متفاوتة وصلت للسجن المؤبد، ثم أصدرت محكمة النقض حكمها النهائي في القضية عام 2021، حيث أيدت معظم الأحكام لكنها خفضت عدد المحكوم عليهم بالإعدام.
وكانت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ومنظمات حقوقية أخرى، أبرزها منظمة العفو الدولية، انتقدت هذه الأحكام في بعض التقارير التي أصدرتها.
وتقول الحكومة المصرية إن مثل هذه التقارير لا تعبر عن الحقيقة، وتتهم تلك المنظمات بأنها تستند إلى معلومات مغلوطة، وبأن لها أهدافاً سياسية.
وقد تجاوز عدد المتهمين في القضية 600 شخص. وتقول الحكومة إنها لا تعلق على أحكام القضاء، وتثق في استقلاليته.
مفاجأة غير سارة
لكن محمود بعد خروجه من السجن، لم يجد ما يسره…
لقد تضمن الحكم على محمود – وآخرين كثيرين غيره – الخضوع للمراقبة الشرطية لمدة خمس سنوات إضافية، إلى جانب العزل من وظيفته الحكومية، والحجز على ممتلكاته، لكنه يقول إنه لحسن حظه لم يكن يملك شيئا ذا قيمة من الأساس.
ويضيف: “خرجت من السجن لأجد بيتي فارغا من كل شيء.. لقد أخذت زوجتي أطفالي الثلاثة وأثاث البيت، وغادرت إلى بيت أبيها طالبة الطلاق”.
“لم أجد في منزلي مروحة للسقف أو حتى سجادة أنام عليها”.
ويقول محمود إن حياته الزوجية والوظيفية كانت مستقرة تماما قبل سجنه، ولكن بعد سنوات من السجن دبت الخلافات مع زوجته بسبب سجنه ومصاريف المحامين والضغوط الاقتصادية التي ترتبت على ذلك، وأصبحت زوجته تتأخر عن زيارته في السجن وتطورت الأمور إلى أن طلبت منه الطلاق.
“بعد ما خرجت من السجن، ذهبت إليها في بيت أبيها طالبا التصالح وعودتها، للحفاظ على بيتي وحياتي الزوجية وأولادي، الذين حرمت منهم لأكثر من خمس سنوات، لكنها وأهلها رفضوا ذلك، ومضت في طلب الطلاق عن طريق المحكمة”.
ويتابع: “لقد حكمت لها المحكمة بالطلاق… وأصبحت محروماً من أولادي مرة أخرى، لأنها قانوناً من حقها حضانة الأولاد لصغر سنهم”.
ورغم زواج أم أولاده من رجل آخر بعد طلاقها منه، فقد احتفظت بالأطفال، لأن قانون الأحوال الشخصية المصري ينقل حضانة الأولاد القصر من أمهم في حال زواجها إلى جدتهم لأمهم، الأمر الذي أبقاهم فعليا لدى أمهم.
ويضيف محمود: “يأتي أبنائي لزيارتي بين الحين والآخر، وبالأساس يأتون للحصول على نفقاتهم، وما يساعد على ذلك أيضا هو قرب المسافة بين منزلي ومنزل أمهم وجدتهم”.
ويتابع: “لقد حلمت وأنا في السجن باللحظة التي أخرج فيها، لأعوض أبنائي عن حرماننا من بعضنا البعض، خاصة وأنهم صغار السن. لقد كان أكبرهم يبلغ من العمر تسع سنوات حين سجنت، بل وولد أصغرهم بعد اعتقالي بشهور”.
“الآن أنا محروم منهم أيضا، وإن بدرجة أقل”.
صعوبات العمل
أمضى محمود سنوات المراقبة الشرطية، ومن حسن حظه أن بيته قريب من قسم الشرطة، وكذلك كان الضباط وأمناء الشرطة (مساعدو الضباط) يسمحون له بالمبيت في منزله، شريطة أن يثبت حضوره لديهم على فترات متباينة وأن يبقى تحت طلبهم في أي وقت.
لكن مشكلة أخرى تواجه محمود، وهي ملاحقة جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة سابقا) له.
ويقول: “انتهت سنوات المراقبة الشرطية، لكن طالما هناك ملف لك في الأمن الوطني، فإن ذلك يعني أنك مِلكا لهم، يطلبونك وقتما يشاؤون، وذلك طيلة حياتك”.
ما بين الحين والآخر، يستدعي جهاز الأمن الوطني محمود، مرة عبر الهاتف ومرة بالحضور إليه، واعتقاله. ربما يبقى محتجزا لديهم لمدة يوم أو اثنين وربما ثلاثة أيام.
وتقول الشرطة المصرية عموما إنها تتعامل بالقانون مع جميع المواطنين، وليس هناك محتجزين سياسيين، ولكن هناك أشخاصا يواجهون تحقيقات أو تهماً محددة.
قبل السجن، كان محمود يعمل عملاً فنيا بإحدى الشركات الحكومية التي تعطي راتبا جيدا، فضلا عن قيامه بعمل حرفي إضافي متعلق بتشطيب الشقق السكنية والمباني.
وبعد خروجه من السجن وعزله من وظيفته، اضطر للتوسع في عمله الحرفي، وتطوير مهاراته، لأنه أصبح مصدر دخله الوحيد.
ويقول: “لقد توسعت في عملي الحرفي، وساعدني في ذلك أصدقائي ومعارفي والأشخاص الذين يثقون بي، لكن ما يضايقني هو احتجازي ما بين الحين والآخر من قبل الأمن الوطني”.
“لك أن تتخيل حين أتفق على مقاولة عمل مع شخص ما وأتسلم منه مبلغا من المال مقدما، ثم يفاجأ في اليوم التالي بأني غير موجود، وهاتفي مغلق، ولا يعرف كيف يتواصل معي.. وليس ذلك ذنبي، وإنما بسبب الأمن الوطني”.
ويضيف: “معاناتي لم تنته بخروجي من السجن، لكن فقط تغير شكلها”.
“صعوبة الزواج”
بعد أن استسلم محمود للأمر الواقع بانفصال زوجته عنه بأمر القضاء، كان من الطبيعي أن يسعى لإعادة تكوين أسرة من جديد، وواجه ما لم يكن يتمناه.
أصبحت ظروفه، مثل فقدان وظيفته وكونه عرضة للملاحقة الأمنية في أية لحظة، تمثل عائقا أمام زواجه، ورُفض عرضه للزواج أكثر من مرة من قبل من تقدم لخطبتهن.
لم يتم إبلاغه بذلك بشكل صريح، إلا في المرة الأخيرة، فقرر بعدها ألا يخبر من يتقدم لخطبتها بأمر اعتقاله في فض رابعة وظروفه تلك، إلا بعد أن يحدث قبول مبدئي بينهما، لكي لا يصبح ذلك الأمر عقبة أولية ومانعة.
وبالفعل، نجحت فكرته وبعد أن حدث القبول المبدئي أخبر خطيبته وأهلها بأنه كان من معتقلي رابعة، وبتداعيات ذلك على حياته، ثم ترك لهم الخيار، فوافقوا على الزواج.
لكن سوء الحظ يطارد محمود من جديد، فبعد أشهر من الخطبة حدثت دعوة للاحتجاج ضد نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي، من جانب رجل الأعمال والفنان المقيم بالخارج محمد علي، وعلى الرغم أن تلك الدعوة لم تلق استجابة بسبب القبضة الأمنية، إلا أن الأمن الوطني اعتقل عشرات الأشخاص تحسبا لتلك الاحتجاجات، وكان محمود من بينهم.
كان ذلك في أواخر عام 2021، واعتقل محمود لمدة تجاوزت شهراً ونصف الشهر، نقل فيها من سجن إلى آخر، حتى عرض على المحكمة وأمرت بإخلاء سبيله مع آخرين.
وقالت الشرطة المصرية في ذلك الوقت إنها أوقفت بعض الأشخاص المشتبه بهم لأسباب قانونية تتعلق بمخالفة قانون التظاهر، أو مخالفة بعض القوانين الأخرى.
حينذاك، فقد محمود الأمل في الزواج وأيقن أن خطيبته وأهلها لن يتموا الزيجة بعد اعتقاله في هذه المرة.
يقول: “حينما ذهبت إليهم لأستطلع الأمر، فوجئت بأنهم ماضون في تجهيزات الزواج، فقلت لهم (مازحا): علينا أن نتم الزواج بسرعة قبل أن يعتقلوني للمرة الثالثة”.
“مراقبة من حديد”
كان حسن (وهو اسم مستعار أيضا)، وهو رفيق محمود في السجن، وكان يعمل معلماً للغة العربية بإحدى المدارس الحكومية قبل أحداث رابعة، وجرى له ما جرى لرفيقه تماما.
لكن الأمر اختلف في بعض الأشياء.
يقول حسن: “كانت سنوات المراقبة الشرطية أصعب علي من السجن. لقد طبقوا علي وعلى رفاقي في دائرة قسم الشرطة الذي اتبعه مراقبة من حديد. فقد كنت أبيت في القسم كل ليلة من الساعة السادسة مساء وحتى السادسة صباحا، طيلة خمس سنوات”.
“تخيل أنه علي أن أعيش نصف يوم أعمل خلاله لكي أنفق على أسرتي، وألبي متطلباتها، وأبيت نصفه الآخر معتقلا في قسم الشرطة”.
وبسبب هذه المراقبة الصارمة، أحجم كثيرون من أصدقاء حسن ومعارفه عن التواصل معه خشية الملاحقة الأمنية.
ويقول حسن: “بعد خروجي من السجن، لم يأت أشخاص كثيرون لتهنئتي على خروجي أو الاطمئنان على أحوالي، كما كان يجري عادة في مثل هذه الظروف”.
ويتابع: “لقد أحجم كثيرون عن الاختلاط بي، بمن فيهم أعز أصدقائي، لكني على أية حال ألتمس لهم العذر فهم خائفون”.
لقد صبرت زوجة حسن ودعمته خلال فترة سجنه وسنوات المراقبة، لكن ذلك لا يعني أن الأمر خلا تماما من الخلافات بسبب ضيق ذات اليد.
سعى حسن للعودة لوظيفته الحكومية، ورفع دعوى قضائية في سبيل ذلك، لكنها رُفضت، تماما كما حدث مع رفيقه محمود.
واعتمد حسن على إعطاء دروس خصوصية في اللغة العربية وتحفيظ الأطفال القرآن، لكي يتكسب لقمة عيشه، لكن ذلك للأسف لا يكفي، كما يقول.
ويحاول حسن التقدم لوظائف في القطاع الخاص، لكن لا يتم قبوله بسبب كبر سنه. لقد دخل السجن وهو شاب عمره بضع وثلاثون عاما، بينما الآن يقترب عمره من الخمسين عاما.
وحتى حين قُبل ذات مرة للعمل في إحدى شركات القطاع الخاص، سألوه عن سبب فصله من وظيفته الأصلية، فأخبرهم بقصة اعتقاله أثناء فض اعتصام رابعة، فاعتذروا له وتراجعوا عن قبوله.
ويضيف حسن: “أسعى الآن للسفر إلى الخارج، لكن ذلك يتطلب مالاً كثيراً، وكذلك الأمر بالنسبة لأي مشروع صغير. أنا لا أملك أي شيء من المال”.
ويتابع قائلا: “أعرف عشرات الأشخاص من رفقاء السجن في ظروف مثل ظروفي بل وأصعب، لكن أملي في الله أن تتحسن الظروف”.
وبالعودة إلى محمود، فقد تزوج الآن بالفعل، ولديه طفلة تبلغ من العمر ثلاثة شهور، ويستطيع بالكاد أن ينفق على أسرته الجديدة الصغيرة وأطفاله من زوجته الأولى.
ويقول محمود: “لكن ما يؤرقني هو عدم انتظام عملي بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها مصر، فضلا عن المكالمة غير المرغوبة، التي قد تأتيني في أية لحظة من الأمن الوطني”.
وفي عام 2021، أطلق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعوة لحوار وطني شامل مع أطياف من المعارضة، باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي تصنفها الحكومة المصرية جماعة إرهابية. كما أمر بتشكيل لجنة للعفو الرئاسي نجحت في إطلاق سراح المئات من النشطاء ممن وجهت لهم تهم بنشر أخبار كاذبة، أو الانتماء لجماعة محظورة.