الانتخابات التونسية: أي مستقبل ينتظر حركة النهضة؟
- Author, سمية نصر
- Role, بي بي سي عربي
كان اعتقال العجمي الوريمي الأمين العام لحزب حركة النهضة التونسي في يوليو/تموز الماضي الأحدث في سلسلة الاعتقالات التي طالت قيادات النهضة على مدى العامين الماضيين، اللذين شهدا أيضا ملاحقة العديد من تلك القيادات قضائيا باتهامات مختلفة، وكذلك إغلاق مقرات الحركة وحظر اجتماعاتها.
ورغم أنها ليست المرة الأولى التي تجد الحركة نفسها في صدام مع السلطات التونسية، إلا أن وضعها مختلف هذه المرة، إذ يحدث ذلك بعد أن تحولت الحركة إلى حزب يمارس العمل السياسي بشكل قانوني وأصبح مكونا رئيسيا في منظومة الحكم على مدى عشر سنوات.
وقد تساءل العديد من المراقبين عما إذا كانت تلك التطورات ستؤدي إلى سحب الاعتراف القانوني من النهضة أو حظرها، وما إذا كان ذلك سيعني نهايتها.
البداية
ترجع أصول الحركة إلى أواخر الستينيات، حيث شعر عدد من الطلبة والمثقفين بعدم وجود مشروع ناجح للحكم.
من بين هؤلاء المثقفين راشد الغنوشي الذي أتم دراسته العليا في الفلسفة والتاريخ بفرنسا، وطالب الحقوق عبد الفتاح مورو وأحميدة النيفر أستاذ الفكر الإسلامي، والذين أسسوا حركة دعوية بالأساس.
في مقابلة أجراها معه المفكر والمستشرق الفرنسي فرانسوا بورغا في الثمانينيات، قال النيفر إن من انضموا إلى الحركة الإسلامية آنذاك “في تلك الفترة، بدأت لقاءات بين عدد من المثقفين، كنتُ أنا والغنوشي من بينهم، وسرعان ما أثيرت مسألة الدين لأننا لم نجد أي سبيل آخر للمضي قدما. فلا أفكار القومية العربية أو القومية التونسية تمكنت من تقديم إجابة، بل ولا أفكار الغرب نفسه نجحت في ذلك، رغم أنها لطالما بدت لنا وكأنها تمتلك الحلول الحاسمة”.
وفي عام 1972، تأسست “الجماعة الإسلامية” على يد 40 شخصية اجتمعت في ضاحية مرناق بتونس العاصمة، من بينهم الغنوشي ومورو والنيفر وصالح بن عبد الله والمنصف بن سالم. واختير الغنوشي زعيما للجماعة والنيفر نائبا له.
اقتصر نشاط الجماعة في البداية على الجانب الفكري والدعوي في المساجد والانخراط في جمعيات المحافظة على القرآن الكريم. وبدأ نشاطها الطلابي، وكان فكرها أقرب إلى فكر الإخوان المسلمين في مصر.وعقدت الجماعة مؤتمرها التأسيسي الأول عام 1979.
مع بداية الثمانينات، تغير اسم الجماعة ليصبح “حركة الاتجاه الإسلامي”، وأصبحت أول حركة إسلامية في تونس تجمع بين الدعوة والعمل السياسي. أبدت الحركة استعدادا للانخراط في التعددية السياسية وأكدت أنها تتبنى الديمقراطية ولا ترى تعارضها بينها وبين الإسلام.
وقوبل طلب الحركة الحصول على ترخيص رسمي بالرفض، وشن نظام الحبيب بورقيبة حملة اعتقالات على أعضائها أجبرت الحركة على العمل السري.
مواجهات مع السلطة
خلال ثمانينيات القرن الماضي، صدرت أحكام بالسجن في حق الغنوشي ومورو وأعضاء آخرين بالحركة. وأفرج عن الغنوشي الذي كان يقضي حكما بالسجن مدى الحياة بعد انقلاب عام 1987 الذي قاده الرئيس الجديد زين العابدين بن علي.
بعد هدوء لم يدم طويلا، عادت المواجهات بين الحركة (التي تغير اسمها إلى حركة النهضة) والنظام الحاكم، ولا سيما في أعقاب مشاركتها في الانتخابات التشريعية في أبريل/نيسان عام 1989 تحت غطاء قائمة مستقلة. وفي العام نفسه غادر الغنوشي البلاد إلى الجزائر ثم السودان ثم حصل على اللجوء السياسي في المملكة المتحدة عام 1993. وقبل ذلك بعام، كان قد صدر ضده حكم غيابي بالسجن مدى الحياة بتهمة التآمر على رئيس الدولة، كما تعرض قياديون آخرون بالحركة لحملة اعتقالات وملاحقات أمنية.
مشاركة علنية في الحياة السياسية
في أعقاب “ثورة الياسمين” التي أفضت إلى سقوط نظام زين العابدين بن علي في بداية عام 2011، حصلت النهضة على الاعتراف القانوني كحزب سياسي وتحولت إلى واحدة من أبرز القوى السياسية في البلاد وجزء من منظومة الحكم فيها على مدى عشر سنوات.
شكلت الحركة حكومة بعد فوزها بأغلبية مقاعد في المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان المؤقت) مع حزبين علمانيين، ولكنها أجبرت على التنحي بعد اغتيال القياديين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي عام 2013، وسلمت الحكم لحكومة تكنوقراط في عام 2014. وشاركت النهضة في إطار سياسة التوافق بين الغنوشي والرئيس الباجي قائد السبسي في كل الحكومات التي تشكلت منذ 2015 وحتى عام 2019.
وفي أعقاب وفاة السبسي عام 2019، دعم حزب حركة النهضة قيس سعيّد في الدور الثاني لانتخابات الرئاسة بعد انسحاب مرشحها عبد الفتاح مورو من الدور الأول. وانتخب البرلمان التونسي رئيس حزب حركة النهضة راشد الغنوشي رئيسا له.
وواجه الغنوشي معارضة شديدة من أحزاب سياسية أخرى، وشهدت العلاقة بينه وبين سعيّد فتورا ثم تبادلا للاتهامات. كما سعت كتل برلمانية إلى عزله من البرلمان في عامي 2020 و2021، إذ اتهمته بالإخفاق في تسيير البرلمان والدخول في صراع على الصلاحيات مع سعيّد.
وفي 25 يوليو/تموز عام 2021، أعلن سعيّد إنهاء مهام رئيس الحكومة آنذاك هشام المشيش وتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، وهو ما اعتبره الغنوشي انقلابا على الثورة والدستور. وأصبح يطلَق على الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس سعيّد منذ ذلك التاريخ اسم “مسار 25 جويلية”.
وفي عام 2022، بدأت التحقيقات مع الغنوشي بتهم عديدة منها غسيل الأموال والاعتداء على أمن الدولة الخارجية. واعتقل الغنوشي في أبريل/نيسان عام 2023، وجرت ملاحقته هو وعناصر قيادية أخرى بالنهضة في قضية “الجهاز السري” التي اتهم فيها الحزب بتكوين جناح عسكري اخترق أجهزة الدولة وتورط في اغتيالات سياسية، بحسب معارضين للحركة، وهو ما نفاه الغنوشي. وجرى التحقيق معه ومع نائبه علي العريض فيما عرف بقضية “تسفير التونسيين إلى بؤر التوتر”، كما يحاكم وزير العدل السابق والقيادي بالنهضة نور الدين البحيري بتهمة “محاولة تبديل هيئة الدولة”.
وحكم على الغنوشي بالسجن 15 شهرا العام الماضي بتهمة “تمجيد الإرهاب”، ثم بالسجن ثلاث سنوات بتهمة تلقي تمويل أجنبي.
النهضة بين الانتقال الديمقراطي والتدهور الاقتصادي
تعتبر أطراف سياسية في تونس السنوات العشر التي تلت الانتفاضة الشعبية وتنحي بن علي عن الحكم “عشرية انتقال ديمقراطي”، في حين أن خصوم حركة النهضة ومؤيدي الرئيس سعيّد يصفونها بـ”العشرية السوداء” ويرون أن الإجراءات التي اتخذها سعيّد كانت ضرورية لتصحيح المسار السياسي، ولا سيما بعد ما شهدته البلاد من ترد للأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
يرجع الدكتور عادل اللطيفي المؤرخ والناشط السياسي التونسي ذلك التدهور إلى التركيز على “مسائل الحكم وتناسي حقوق وانتظارات المواطنين”. ويضيف أن الغنوشي “دفع الوضعية إلى حد التعفن وإبرام تحالفات مشبوهة سياسيا فقط كي يبقى هو في الحكم ويصبح زعيما، وحوّل رئاسة البرلمان إلى سلطة حكم تنافس رئيس الدولة”.
لكنه يرفض تسمية “العشرية السوداء” لأنها في رأيه أصبحت “مجرد مبرر لإعطاء شرعية ووجاهة لمنحى التسلط الذي تشهده تونس منذ 25 يوليو/تموز 2021”.
ويضيف أن الزاوية الثانية لتقييم تلك العشرية إيجابية على المستوى المجتمعي، “بما أن هناك العديد من المسائل التي تم الفصل فيها على المستوى المجتمعي .. مثل تيقن التونسيين أن الشريعة الإسلامية لا مكان لاستخدامها في الدستور”.
أما جلال الورغي الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية والعضو السابق بمجلس شورى حركة النهضة فيقول إن حقبة ما بعد الثورة “لم تكن وردية بالكامل ولم تخلُ من الأخطاء”، ولكنها “كانت حقبة تاريخية شهدنا فيها انتخابات حرة ونزيهة أفرزت لأول مرة برلمانا تعدديا وحكومة ائتلافية من قوى يسار وإسلاميين ويسار وسط، ودستور توافقي .. وحريات محترمة”.
لكنه يضيف أن “هذا لم يمنع عدم النجاح على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما تؤاخَذ عليه كل الطبقة السياسية ومنها النهضة”، ويلفت أن الحزب لم يكن يحكم البلاد منفردا وإنما كان “جزءا من الحكم لا غير”.
مراجعات فكرية أم قرارات براغماتية؟
سعت حركة النهضة بالنأي بنفسها عن أي حركات إسلامية توصف بالسلفية أو التشدد، وقدمت نفسها على أنها حركة سياسية مؤمنة بالديمقراطية وملتزمة بتحديث تونس، وطرحت النشاط الدعوي جانبا لصالح التخصص في مجال العمل السياسي والالتزام بمبادئ الدستور الجديد.
ويختلف المراقبون حول ما إذا كان هذا التحول الأيديولوجي مجرد تكتيك مؤقت أم استراتيجية.
يقول الورغي إن النهضة سعت إلى تطوير نفسها وتقديم نفسها في صورة مقبولة للمجتمع، “وتجلت مظاهر التطور والتحديث في أنها كانت تحكم ضمن توافقات” مع أحزاب علمانية، ولم تسع إلى الانفراد بالحكم. “مظهر آخر من ديمقراطيتها وحداثتها أنها التزمت وانسجمت مع القوانين والدستور.. ولعله شرف للنهضة أن تكون أحد المساهمين الرئيسيين فيما يسمى التناسق داخل المؤسسات الدستورية عندما سمحت للمرأة بالحصول على نصف المقاعد في المجالس الدستورية ومنها البرلمان”.
أما الدكتور اللطيفي فيرى أن النهضة تمثل حركات الإسلام السياسي التي “لا تعتقد في وجود الدولة الوطنية، وتعتقد أن الشريعة بديلة عن قانون الدولة. لكن النهضة كانت واعية بأن المجتمع التونسي له خصوصياته. الوعي لم يأت من مراجعات فكرية للإسلام السياسي، بل أخذ بعين الاعتبار واقع التونسيين. مثلا، لا يمكن الآن إقناع التونسيين بتعدد الزوجات أو التراجع عن حق المرأة في الإجهاض”.
ويضيف اللطيفي أنه “في مرحلة حكم النهضة، كانت هناك مشاريع قوانين تبين أنها لم تقطع مع الإسلام السياسي، مثل مشروع قانون المساجد الذي شهد حملة معارضة كبيرة وتم التراجع عنه…رغم أن الحركة تحدثت عن الديمقراطية، لكن لا ننسى أنه كان لها في الشارع ذراع ميليشيا تسمى رابطة حماية الثورة، وفي 2012 و2013، كانت هذه الميليشيا مسلطة على كل الأحزاب المعارضة والجمعيات والصحفيين”.
تراجع شعبي وانقسام داخلي
يرى مراقبون أن تراجع أداء النهضة في الانتخابات مؤشر على تراجع شعبيتها: ففي انتخابات عام 2011 حصلت على 89 مقعدا، وقد تقلص العدد إلى 69 مقعدا في انتخابات 2014، ثم إلى 52 مقعدا في انتخابات 2019.
كما عانت النهضة من انقسامات داخلية وحالة من عدم رضا العناصر الشابة داخل الحركة عن قادتها، ووقع حوالي 130 عضوا من أعضاء الحركة الشباب بيانا في يوليو/تموز 2021 بعنوان “تصحيح المسار” دعوا فيه القيادة إلى تحمل المسؤولية الكامل عن “التقصير في تحقيق مطالب الشعب التونسي”، وطالبوا بحل المكتب التنفيذي للحزب، ودعوا الغنوشي إلى “تغليب المصلحة الوطنية”.
يقول الدكتور اللطيفي إنه “قد بدا واضحا، خاصة بعد انفراد قيس سعيّد بالحكم أن النهضة فقدت كل قدرة لها على تحريك الشارع، وهو دليل على تراجع الامتداد المجتمعي لهذه الحركة. هناك نقمة سياسية على حزب اسمه حركة النهضة، ولكن المستوى المجتمعي هناك نوع من المحافظة المتصاعدة وقيس سعيّد بدوره يستفيد من هذه المحافظة ويريد أن يظهر بدوره كأنه حامي الدين الإسلامي وضامن له. كلاهما يلعب على حبل الانتماء الديني”.
أما الورغي فيرى أن النهضة كقوة سياسية واجتماعية “لا تزال لديها شعبية، خاصة وأن العشرية التي وصمت بأنها سوداء وكانت النهضة طرفا رئيسيا فيها كانت أفضل عشرية ديمقراطية سياسية منذ الاستقلال عاشتها البلاد بشهادة الجميع، سواء في الداخل أو الخارج، وبالتالي لا أحد يستطيع أن يقول غير ذلك”.
بداية النهاية؟
تقول النهضة والقوى السياسية المعارضة لمسار 25 جويليه إن اعتقال قادة الحركة وإغلاق مقراتها يهدف إلى التضييق على القوى المعارضة للرئيس سعيّد، ولا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في السادس من أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
يرى الدكتور اللطيفي أن ذلك يأتي في إطار رغبة منظومة الحكم الحالية في “القضاء على أي حياة سياسية تعددية.. المسألة لا تتعلق فقط بحركة النهضة، ولكن بكل الطيف السياسي. فقائمة الموقفين تشمل نقابيين وصحفيين وسياسيين”.
لكن مؤيدي الإجراءات يرون أنها تندرج ضمن المحاسبة القانونية، وأن الموقوفين يحاولون لعب الضحية للتنصل من المحاسبة.
ويقول هؤلاء إن الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في الخريف ستكرس لمشهد سياسي جديد في تونس يخلو من حركة النهضة. فماذا سيعني ذلك للحركة؟
يقول الدكتور اللطيفي إنه إذا ثبت تورط النهضة في قضية الجهاز السري والاغتيالات، فإنه سيتم حظرها، “لكن هذا لن يمنع الإسلاميين من أن يكونوا موجودين بصيغة أو بأخرى”، على حد تعبيره.
أما الورغي فيرى أن “القمع والاستئصال والاستبعاد من المشهد السياسي والتضييق ورمي كثير من القيادات في السجن” لا يعني نهاية حركة النهضة.
ويضيف: “صحيح خفت صوتها وحضورها ولكن هذا حدث لجميع القوى السياسية التي خفت صوتها وحضورها..وبمجرد أن يفتح المجال من جديد، في تقديري سيتم اختبار ذلك وستبقى تيارا قويا لا بديل عنه في الساحة السياسية”.