أخبار العالم

مواسم “الرّْمَى” بالمغرب .. تقاليد صامدة في وجه العولمة والهجرة القروية



ذبيحة جماعية، أنشطة دينية، تضامن جماعي، سمسرة علنية، اهتمام بالأرض وأنشطة فنية محلية…؛ تبقى هذه من أبرز المظاهر التي يمكن أن نستحضرها ونحن نتحدث عن مواسم “الرّْمَى” السنوية التي مازالت صامدة بعدد من جهات المغرب، خصوصا بالعالم القروي الجنوبي، رغم العولمة والهجرة القروية ورغبات البعض في القطيعة مع تقاليد الأسلاف.

هذه المواسم عادة ما يتم تنظيمها في فصل الصيف كتعبير مطول عن نهاية فترة الخدمة الفلاحية للأرض، ويحضرها المحليون والمهاجرون كذلك، بالنظر إلى كونها بمثابة ملتقيات سنوية تصب أساسا في مصلحة تدارس متطلبات التنمية وربط الأجيال الحالية بأرض أجدادها.

ولا تكون هذه المناسبات ذات صبغة دينية خالصة أو ثقافية خالصة، بل يكون هناك مزجٌ بين الجانبين الديني والثقافي المتجسد في أنماط الاحتفال المتعارف عليها، بما يلائم التدين المحلي وأعراف المنطقة ويخلق فرصة للتلاقي الإنساني مرة واحدة في السنة؛ وعادة ما تمتد ما بين يومين وأسبوع على سبيل المثال، تحضر في بدايتها الذبيحة الجماعية وفي آخرها الفرجة بطعم محلي خالص.

تقاليد صامدة

قال خالد ألعيوض، أستاذ باحث في التراث بجامعة ابن زهر بأكادير، إن “مواسم ‘الرّْمى’ في نهاية المطاف تقاليد قديمة جدا، واسمها مشتق من كلمة الرماة، لأن هذه التقاليد ترتبط بالفترة السعدية أو فترة الجهاد، إذ كانت وقتها فترة للتعبئة وحشد الهمم من أجل مواجهة التحديات المختلفة”.

وبحسب ألعيوض الذي تحدث لهسبريس فإن “هذه المواسم صارت اليوم مناسبة سنوية اعتيادية بعدد من المناطق المغربية، وخصوصا بالعالم القروي، رغم أن هذه المناطق تعرف هجرة كبيرة إلى المدن خلال الآونة الأخيرة، لتكون بذلك حدثا سنويا يتم خلاله ربط الأجيال بالقرية والأسرة والأقارب”، وتابع: “من المهم جدا أن نشير إلى أن الآتين من المدن هم الذين يمولون بشكل خاص هذه الملتقيات المجتمعية؛ والبداية تكون دائما بالذبيحة التي تبقى عنصرا أساسيا جدا، ويساهم في إقامتها كل الأفراد المحليين، كل حسب استطاعته، إذ إن غير القادرين يساهمون بكثافة في مراحل الإعداد والتنظيم”، مشيرا إلى أن “من أبرز مميزات هذه المناسبة أنها تنشط الفعل التضامني والجماعي المسمى تيويزي”.

من هذا المنطلق ذكر الأكاديمي بجامعة ابن زهر بأكادير أن “من النقاط المميزة لهذا التقليد السنوي كون الساكنة المحلية تجتمع على الأطعمة المقدمة وقتها رغم بساطتها، ويكون هناك استحضار للمنتجات المحلية وكل مظاهر الترحيب والاحتفاء بالحاضرين”.

نقطة أخرى أشار إليها ألعيوض تتعلق بطقس “تادلالتْ” أو “السمسرة حول ما تبقى من الطعام على سبيل المثال، أو بعض المعروضات للبيع التي تخص أسرا أو فئات بسيطة يتم التعاون معها عبر منحها النتيجة النهائية لعملية السمرة، في وقت يتم إنهاء هذه المناسبة بطقوس احتفالية”.

المتحدث ذاته عاد ليشير إلى أن “هذه المناسبات تعرف حضورا مستمرا من المهاجرين خارج البلدة والمستقرين فيها”، وزاد: “اليوم نسجل استمرار هذه الطقوس في ظل أوج العولمة، إذ مازالت صامدة بالمناطق الجبلية التي تبقى دائما منعزلاتٍ حاضنة للغة والهوية والثقافة وكل ما يرتبط بالعادات والتقاليد والممارسات الفضلى”.

مناسبة للالتقاء

عبد الواحد العسري، باحث ثقافي وملم بالشؤون الثقافية بالمناطق الجبلية، أكد أن “هذه المناسبات السنوية تظل متميزة أساسا بمساهمتها في إنعاش الفعل التضامني الجماعي بين الساكنة المحلية بالدواوير والمداشر، حيث يكون هناك اهتمام بتدارس الخصاص الذي تعاني منه المنطقة، من بنية تحتية وتزويد بماء صالح للشرب على سبيل المثال”.

العسري ذكر لهسبريس أن “هذه المواسم تبقى مناسبة للالتقاء السنوي بين الأفراد القاطنين بمنطقة معينة، فيما يتم الاستعداد لإقامة هذا النشاط على مدار السنة، ويتم تحديد موعده في يوليوز أو غشت، لارتباطهما بموسم عودة المهاجرين القاطنين بالمدن تحديدا”، مبرزا أن مواسم “الرّْمى” هذه “تبقى بمثابة تقليد متوارث ومستمر لقرون رغم كافة المتغيرات الحياتية والديمغرافية”.

مستحضرا جوانب أخرى تهم هذه المناسبة اعتبر المتحدث أن “هناك ملاحظة كبرى تتعلق بمزاوجة مواسم ‘الرّْمى’ بين الديني والثقافي، بما لا يجعل الديني يطغى على الثقافي أو خارج الحسابات؛ فعلى سبيل المثال تتم خلال الأيام الأولى من المناسبة التي تستمر لأيام محددة إقامة الذبيحة وأداء ما ينبغي من ذكرٍ حكيم وطقوس ذات صبغة دينية خالصة، قبل أن يتم إنهاء فعاليات التظاهرة باحتفالات غنائية وثقافية ترتبط بتقاليد وعادات أهل كل منطقة على حدة”.

كما بيّن الباحث ذاته أن “هذه الخاصية المرتبطة بالجمع بين الجانب الديني والثقافي، في إطار ما يرتبط بطبيعة التدين المحلي المناقض لأي توجهات متعصبة، هي من أبرز مميزات مواسم الرّْمَى التي ساهمت في تشبث المحليين به بعدد من المناطق”، قبل أن يؤكد أن “استحسان السكان بعدد من مناطق المغرب هذه التقاليد التي ورثوها عن أسلافهم هو ما جعلها تضمن استمراريتها إلى حدود اليوم رغم تحديات العولمة والهجرة القروية التي استفحلت بفعل الجفاف”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى