مؤشرات لتراجع الجودة وانحراف المقاصد بالدرس الفلسفي في المغرب
تفكيرٌ في مسؤولية المثقّف بالمنطقة، والمعرفة، ووضع الدرس الفلسفي بالثانوية والجامعة المغربيّين، والاهتمام بالفلسفة في المملكة، وتأمّلُ أستاذ في مسارهِ معلّما ومُعينا على اكتساب “عادات التفلسف”، يقدّمه المفكر والأكاديمي المغربي محمد نور الدين أفاية، في ختام الكتاب الجماعي “الفلسفة والتفكير بالفعل في كتابات محمد نور الدين أفاية”، الصادر سنة 2024 الراهنة، في ما يقرب 400 صفحة.
مفارقاتُ الساحة الفكرية
من المفارقات “عندنا”، وفق أفاية، أن “المشتغل بالفكر والثقافة يجد نفسه مطالبا بالانخراط في خمس جبهات على الأقل؛ أولها مساءَلة هويته الشخصية بوصفه منتجا للمعنى، وتقدير نوع وظيفته وموقعه الاجتماعي، وثانيها مساءلة التراث وثقل تاريخيته ورمزيته، سواء تعلق الأمر بالتراث العربي الإسلامي بعامة، أو بالتراث الخاص بالبلد الذي ينتمي إليه، وثالثها تصفية حسابه مع المقولات التي رسخها الفكر الاستشراقي والكولونيالي، خصوصا في بلدان عربية تعرضت نخبها ومجتمعاتها لاختراقات ثقافية عميقة، ورابعها المشاركة في سيرورة التحديث الفكري والسياسي في بلده، سواء بالتدريس والتأليف أو بالالتزام العملي”.
أما خامس الجبهات فـ”مواكبة تاريخ الأفكار والمعارف التي تستجد على الساحة الفكرية والمعرفية العالمية”؛ بل قد يجد المعني نفسه “مضطرا إلى القيام بمهام الترجمة، أحيانا”. وهذه جبهات “تستدعي مقاربتها أو المشاركة فيها، فكريا أو عمليا، مهما كان مجال اختصاص هذا المفكر أو ذاك، ومدى انخراطه في هذه الجبهة أو تلك، ومدى تمكنه من معطياتها ومعارفها؛ ولذلك يُطوَّق المفكر عندنا بمهام كبيرة يندر إيجاد حالات مشابهة لها في ساحات فكرية في العالم”، وفق المصدر ذاته.
وكتب محمد نور الدين أفاية متحدثا عن جيله: “أنتمي إلى جيل من الباحثين الذين تأثروا، بمستويات ذاتية متفاوتة، بسياق سياسي وفكري ونفسي ولَّد لديهم شغفا خاصا بالمعرفة، وزرع فيهم نزوعا مستداما إلى التحصيل والإنصات للجديد، والتحفز نحو التجاوز والتغيير. ولعل الظمأ الذي حرك هذه النخبة كان وراء ما يمكن نعته بمنجز فكري ونقدي له ما له وعليه ما عليه. ويعلم الجميع أن هذا العمل نتاج إصرار ظاهر على تخطي عوائق البحث والكتابة التي يواجهها كل من اختار هذا السبيل لإثبات الذات، وإنتاج المعنى، والمشاركة في الحقل الفكري”.
“هذا الجيل، نظرا للمسؤوليات المتعددة للمشتغل بالفكر، وجد نفسه منخرطا في عمليات التدريس، والتأطير، والبحث، والنشر، سواء تعلق الأمر بنشر مقالات ودراسات أو كتب أو المغامرة في إصدار مجلات من منطلق جعل المعرفة في متناول العموم، أو على الأقل في متناول الطلبة، والباحثين عن المناهج والأفكار التي تستجد في الإنتاج النظري والنقدي”، يورد أفاية.
سقراط ملهِما للجامعة
“إذا كان سقراط عُرف بكونه جوّاب شوارع حاملا معه أسئلته فإنني قررت أن أكون في دروسي جوّاب موضوعات ومجالات وقضايا وأسئلة، ومواجهة ظواهر من الحياة بالاستفهام والنزوع إلى كشف المسكوت عنه، بالإضافة إلى النصوص التي تمنح الدرس حيوية وإثارة وتحفيزا على التفكير”، هكذا تحدّث أفاية عما ألهم وأطّر درسه.
وشهد الكاتب على مرحلة كانت فيها جامعةُ الرباط منارة بارزَة الأسماء الفلسفية، قائلا شيئا آخر: “لم أقتصر على تعلُّم دروس الفلسفة في شعبة الرباط فقط، لأن بعض أساتذتها كانوا أسماء كبيرة تجمع أكثر من صفة وأكثر من كفاءة، علما أن أساتذة آخرين لم يكونوا يحوزون هذه المقومات، لكننا تعاملنا مع شخصيات فكرية بمقدار ما التزمت بمهام التدريس كانت تحمل هموما مشتركة تلتقي حول الإيمان بالأهمية العظمى للتعليم والمعرفة لتحقيق التقدم والتغيير، والاجتهاد في البحث وبناء المشاريع الفكرية الكفيلة بتحفيز الطلبة والباحثين على المثابرة وتجاوز الخصاص المعرفي الذي كنا نعاني منه. لم يكن كلّ الأساتذة من هذه الطينة، لأن منهم من كنّا نقاطع دروسهم، ونعوض ذلك بارتياد فضاء خزانة الكلية التي كانت توفر ما نحتاجه، عموما، من كتب ومراجع، لتقوية معارفنا وتحضير عروضنا وبحوثنا”.
وبعد شهادته على زمن الطلب، شهد المؤلف على محرّك زمن التّدريس: “لا أخفيكم أن اختياري المبدئي للتدريس، وممارستي له بكل ما كان يحفزني من حماس مهني وتواصلي وإنساني، سمح لي بأن أعرف أسمى لحظات المتعة والابتهاج. عشت في الأقسام، في فترة التدريس في الثانوي، أجمل وأمتع حالات الانتشاء بإنجاز ما كنت مطالبا بإنجازه وأكثر. وازدادت هذه المشاعر قوة حين انتقلت إلى التدريس بشعبة الفلسفة. لم أقتصر، يوما، على الموضوعات المقررة، ولا اكتفيت بشرح نصوص الفلاسفة، ولا أن أحصر فعل التفلسف في محاورة أفكارهم (…) هكذا كان الطلبة يقتربون من الفلسفة من مداخلِ التاريخ، والفن، والسياسة، والأدب، والرياضة، والعواطف، وتأويل أحداث الزمن الحاضر؛ وكل ما يسعف في إضاءة المفهوم والقضايا المعروضة في الدرس”.
وتابع الأستاذ ذاته: “رفضت دائما أن أكون مجرد شارح، أو عارض لأفكار الفلاسفة، وإن كنت أقترح على الطلبة، منذ بداية السنة، لوائح كتب ومراجع عليهم الاطلاع عليها، وقراءتها. وقاومت، بشكل شبه بدَهي، الانجرار، بدون حساب، لنزعات تخصصية حصرية غزَت في لحظة ما شعب الفلسفة؛ واعتبرتُ، دائما، أن طالب الفلسفة عليه أن يكتسب عادات التفلسف من خلال تعلم مختلف أنماط الأسئلة، وأن يعرف كيف يصوغها في هيئة إشكالية، ويبني لفكرته ما يلزم من شروط الاستدلال، وأن يصوغ خطابا تتوفر فيه درجة محترمة من الانسجام والإقناع؛ وحينها يمكن له ارتياد ما يختاره من اهتمامات فكرية، أو من تخصص”.
ثم استدرك أفاية قائلا: “أما أن يرتمي في ما يشبه التخصص بدون أدوات فذلك ما نجمت عنه، وتنجم، ظواهر تقوقع، وتمذهُب، وتشنج شهدت هذه الشعبة وغيرها مظاهر ساهمت، بقسط وافر، في تهديد الدرس الفلسفي، وإفراغه من روحه، ومن مضامينه، ومن الممكنات التي يتيحها للطالب والباحث من أن يجعل من الفلسفة مدخلا للفهم، وللفاعلية النقدية، ولتطوير الانتباه، والمشاركة في تحسين شروط العيش”.
وأضاء المفكر ذاته جانبا آخر من تجربته في التلفزيون ومؤسّسات عمومية كان خبيرا بها أو مسؤولا فيها، موردا: “لم أقتصر على التدريس في حياتي العامة؛ بل انخرطت في الممارسة النقدية، واقتحمت عالم السمعي البصري لتقريب كتب واجتهادات المثقفين والمفكرين المغاربة وغيرهم، إلى أكبر قدر ممكن من الناس، وانتميت إلى مؤسسات وطنية للضبط تعلمت فيها ما لم أكن أتخيل معرفته، لو أنني بقيت مقتصرا على أقسامي ومدرجاتي. ورغم أشكال المقاومة كافة التي تواجهك بها إكراهات المؤسسة اشتغلت من داخلها بما اعتبرته دائما شرط وجود للمساهمة، مهما كان تواضعها، في استنبات قيم المجتمع الديمقراطي، واحترام القانون، وتطوير ثقافة المصلحة العامة، وتنوير الرأي العام، والدفاع عن الحرية، بهدف الارتقاء بالإنسان في هذا المجتمع المفارق”.
حصار الفلسفة
تحدث محمد نور الدين أفاية عما عاشه المغرب من “حالات تنازع مستدامة على الفلسفة، وعلى شرعية إدماج دروسها في المنظومة التعليمية وفي المشهد الثقافي العام”، مضيفا أن هذا “صراع أبرز، منذ أواسط ستينيات القرن الماضي، مظاهر الصراع بين القوى التي دعت إلى الانتماء إلى العصر، بما فيها مقتضياته السياسية والفكرية والتعليمية، وقوى لم يكن في مصلحتها نشر مقومات الفهم والوعي في أوساط الناشئة والشباب”.
ثم تابع الأكاديمي ذاته: “تأجج هذا التنازع بممارسة كافة أشكال المحاصرة على الفلسفة ابتداء من أواسط السبعينيات، وتُوّج في الثمانينيات مع فتح شعب الدراسات الإسلامية في كليات الآداب القديمة وتعميمها على الكليات الجديدة، مع منع فتح شعبة الفلسفة ورفض تعميمها”، قبل أن يستدرك قائلا: “صحيح أن أصحاب القرار اهتدوا، بشكل متأخر أواسط التسعينيات، إلى الخطأ الكبير الذي ارتكبوه وبدؤوا يشجعون، باحتشام، فتح مسالك للفلسفة، أو علم الاجتماع في هذه الكلية أو تلك. كما تم تعميم تدريس الفلسفة في السنوات الثلاث من المرحلة الثانوية؛ وهو، في الواقع، إجراء مغربي غير مسبوق في العالم”.
“لكن رغم كل أشكال التضييق التي تعرضت لها الفلسفة برهن الباحثون والمشتغلون المغاربة بمجالها عن اقتدار لافت في ترويض مفاهيمها بهدف مواجهة إشكاليات تاريخية، ومعرفية، وسياسية، وأنتجوا مُصنفات تخطّت حدود المغرب لتصبح مراجع مطلوبة فيما يُنتج باللغة العربية”، يورد الكاتب.
وكتب أفاية: “لقد دشّن محمد عزيز الحبابي هذا الحضور، واتخذ مسارات مغايرة مع عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الكبير الخطيبي، وغيرهم، والجيل المخضرم من الفلاسفة المغاربة الذي تتلمذوا على يد هؤلاء، والذين يحتلون موقعا مرجعيا في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، ومنهم عبد السلام بنعبد العالي، ومحمد سبيلا، وسالم يفوت، وآخرون، إلى الجيل الحالي المكون من الأسماء التي مازالت تجتهد للإعلاء من قيم العمل، والمبادرة، والمعرفة، والعقل، والجمال. بل إن المشتغلين بالفلسفة أثروا المشهد الثقافي المغربي، وكيَّفوا العديد من قضاياه السياسية، والتاريخية، والمعرفية بتدخلاتهم، وكتاباتهم، ومؤلفاتهم”.
“لكن، يلاحظ المفكر المغربي انحرافات وتشوُّهات تُمارس على الدرس الفلسفي، في ثانوياتنا، وتراخيا في شعب الفلسفة في الكُليات، مع كذب على الذات، وانتشار لمظاهر الغش، والمجاملة، والريع بكل أشكاله، وانسحاب الأساتذة الممَيّزين، وسيطرة الاهتمامات المتنوعة على حساب التكوينات الأساسية في الفلسفة والاحتكاك بنصوصها المرجعية، وتعزيز ذلك بكل الاهتمامات الأخرى المعروفة والجديدة التي على الطالب الاطلاع عليها، واكتشاف آفاقها، واكتساب أفكارها”، يستدرك المفكر المغربي، وواصل: “من المعلوم أن وضعية مادة الفلسفة تتأثر باختلالات المنظومة التعليمية في مجملها، فلا يمكن تخيُّل إنجاح درس في الفلسفة في إطار نقص بنيوي في تعلُّم اللغات، ومقاومة قراءة النصوص، واستبعاد المضامين والممارسات الثقافية في المناهج والبرامج وفي الحياة المدرسية في منظومة التعليم”.
ثم أردف الأكاديمي: “لا شك أن الأمر يتخطى الدرس المخصوص للفلسفة، وإنما يتعلق بتراكم الاختلالات، وبالتخبط الظاهر في ترجمة مقتضيات ‘رؤية 2030’ التي وضعها المجلس الأعلى للتربية والتكوين، وبالصعوبات الكبرى التي تعرفها المدرسة العمومية على صعيد بنياتها التحتية، ورأسمالها البشري، وإدارتها التربوية، والتوسع المتصاعد للجشع الذي أصاب بعض أصحاب المال الذين جعلوا من المدرسة حقل استثمار مربح. وهو ما ينتج عنه وسينتج فوارق صارخة تهدد أنسجة المجتمع بالمزيد من التفكك، وتؤثر، سلبيا، في درجات الوعي وأنماط السلوك والعلاقات الاجتماعية”.
وإن كان مازال أفرادٌ، أو مازالت “بؤر قليلة”، يستمرون في “الالتزام بمقومات الدرس الفلسفي، والبحث في تاريخ الأفكار الفلسفية في المغرب”، إلا أن “مؤشرات عديدة، مقلقة للغاية، وبشهادة أغلبية الأساتذة والمهتمين النزهاء، تؤكد تراجعا كبيرا لجودة الدرس الفلسفي، في الثانوي كما في الجامعي، وانحرافا مثيرا عن أساسياته ومقاصده؛ ما يهدد هذه المادة بالتسطيح، والتشويه، والانحراف عن أهدافها البيداغوجية والمعرفية التي تميزها عن غيرها من المواد”، وفق الكاتب ذاته.
وختم أفاية نصّه قائلا إنه “في كل الأحوال لم يعد الأمر يتعلق بالمواقف من المشروعية الفكرية للفلسفة، ونوعية توازن القوى بين القائلين بموتها أو بفائدتها الدائمة، أو بالوضع المادي والبيداغوجي والمعرفي للدرس الفلسفي في بلادنا، بقدر ما يتعين استحضار أن أهمية الفكر الفلسفي تتجلى، بالأساس، في نقد المُسبَقات، والأوهام، والإيديولوجيات؛ وبمقدار ما هو اجتهاد، بل وكفاح يتسلح بالعقل، فإن له أعداء (…) يتمثلون في تعبيرات البلاهة والتعصب والانغلاق؛ كما أن لهذا الاجتهاد أو الكفاح حلفاء يجدهم في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية وفي العلوم الدقيقة، كما في مجالات الإبداع الفني والأدبي والثقافي”.
ثم أجمل نور الدين أفاية قائلا: “الظاهر أن هذا الاجتهاد غدا أكثر من مُلح في زمن سطوة البلاهة ومختلف مظاهر التشدد والسطحية والغش التي أصبحت تسود عندنا، وتلك التي تُفرّخها مواقع التواصل الجديدة”.