“نلتقي شهر غشت” لغابرييل غارسيا ماركيز .. رواية عن الأسرار التي ترويها النجوم

صدرت رواية غابرييل غارسيا ماركيز “نلتقي شهر غشت” “Nous nous verrons en Août” منتصف شهر مارس من هذا العام، أي بعد مرور عشر سنوات على وفاته، وقد نُشرت مقاطع منها في الصحافة، وقرأ ماركيز أجزاء منها أثناء قراءات عمومية.
شرع ماركيز في كتابة هذه الرواية القصيرة مع بداية إصابته بمرض الألزايمر، وكانت رغبته آنذاك تأليف خمس قصص مستقلة عن آنا ماغدالينا باخ، تتمحور جميعها حول فكرة واحدة وهي “حب المسنين”، باعتباره موضوعًا غنيًا بالعمق العاطفي.
يُعَدُّ غابرييل غارسيا ماركيز، رائد الواقعية السحرية، واحدا من أبرز الروائيين الذين تناولوا موضوع الحب والعشق في رواياته؛ فما يميز أدبه الروائي وأسلوبه هو براعته في نسج خيوط الحب بين الواقع والسحر، مُقدِّما لنا قصص حب فريدة من نوعها، لا تخلو من المشاعر الدافئة والعاطفة الجياشة.
بهذا الاعتبار، تتعدّد أوجهُ الحب في رواياته من أبرزها الحبّ الدائم والذي لا يلين بمرور الوقت، ففي رواية “الحبّ في زمن الكوليرا”، نتعرف على قصة حبّ فلورينتينو أريثا لفيرمينا داثا، يستمرّ ويدوم لعقود مديدة، رغم كلّ العقبات والتحديات مما يضفي عليه بُعدا رومانسيا فريدا؛ وهناك أيضا الحبّ المُتّقد، كما في رواية “مئة عام من العزلة”، حيث يصوّر ماركيز ببراعة الحبّ الأول لخوسيه أركاديو بوينديا لابنة عمه بيترا كوتيرينو، بوصفه حبًّا يُمزّقه الصراع بين العائلة والشرف، والأمر ذاته -مثلا- في روايته “ذاكرة غانياتي الحزينات” التي تدور أحداثها حول علاقة بين صحفي مُسِنّ وفتاة شابة، يستكشف من خلالها ماركيز طبيعة الحب والرغبة في مرحلة الشيخوخة؛ على أن العشق في روايات ماركيز ليس مجرد مشاعر رومانسية بسيطة، بل إنه إعادة تمثل لتجارب إنسانية معقدة مأساوية حينا، ومليئة بالأمل أحيانا أخرى.
2
في خاتمة رواية “نلتقي شهر غشت”، يصف ابنا غابرييل غارسيا ماركيز، رودريغو وغونزالو، هذه الرواية بأنها “آخر جهوده لمواصلة الإبداع رغم كل الصعاب”. فقد واصل ماركيز كتابتها رغم معاناته من المرض وتدهور ذاكرته بشكل متزايد ومضطرد. وعندما توفي عام 2014، احتُفظ بالعديد من مسودات أعماله وأجزاء من فصول هذه الرواية في أرشيفه بمركز هاري رانسوم في جامعة تكساس بأوستن، وكانت موزعة على حوالي 769 صفحة، وبما لا يقل عن خمس نسخ. ظل ماركيز يعدل في النص لسنوات، يملي على مساعده جملا جديدة، يغير في أوصاف الشخصيات، ويدقق في التركيب العام لمفاصل الحكاية، قبل أن يصدر رأيه النهائي بأن النص غير صالح للنشر ويجب إتلاف الرواية؛ وهذا ما أفصح عنه غونزالو غارسيا بارشا، الابن الأصغر لماركيز، حين قال: “لقد أخبرني بشكل مباشر بأنه يجب إتلاف الرواية”. ورغم ذلك، قرر ابنا غارسيا ماركيز تحدي رغبة والدهما بنشر الرواية واختيار النسخة الأمثل والأقرب إلى الأصل النهائي من بين كل النسخ التي اطلعا عليها.
كتب ابنا غابرييل غارسيا ماركيز في خاتمة الرواية ما يلي: “عند قراءتنا للمخطوط مجددا بعد نحو عشر سنوات من وفاة والدنا، اكتشفنا أن النص يفيض بالعديد من المزايا التي تجذب القارئ للاستمتاع بأبرز ما في أعماله. فقدرة والدي على الإبداع، ولغته الشعرية، وسرديته الآسرة، ومعرفته العميقة بمكنونات النفس البشرية، وتعلقه بتجاربه الحياتية، خاصة في الحب الذي ربما يكون المحور الأساس والمحرك الأول لكل أعماله، كلها كانت حاضرة بوضوح في هذا النص”.
هل كان ابنا ماركيز محقين في قرارهما بنشر الرواية رغم رغبة والدهما في عدم القيام بذلك؟ كيف ينبغي للمؤسسات الأدبية والناشرين التعامل مع الإصدارات التي تُنشر بعد وفاة كاتبها، خاصة عندما تتعارض مع قناعاتهم أثناء حياتهم؟
3
كانت نِيَّةُ غارسيا ماركيز من كتابة حكاية “نلتقي شهر غشت” أن تكون مكوّنة من خمس حكايات مترابطة تجمع بينها شخصية رئيسية واحدة، وتدور أحداثها حول غرام المسنين. لكن إعادة كتابته ونشر مقاطع منها في بعض المنابر الإعلامية مكنه من توسيع أفق الحكاية لتتخذ شكل رواية قصيرة.
تنسج أحداث هذه الرواية خيوطها حول شخصية آنا ماغدالينا باخ، التي درجت على السفر إلى جزيرة كاريبية في شهر غشت من كل عام لزيارة قبر والدتها. كانت تلك الرحلة، المفعمة بمشاعر الحزن، تمنحها فسحة من التحرر لبضعة أيام من زوجها وأفراد عائلتها. خلال الرحلة، تسلك آنا ماغدالينا الدروب نفسها، تستقل سيارة الأجرة نفسها، وتتوقف عند بائع الزهور نفسه؛ وفي المقبرة تضع باقة من الزهور على قبر والدتها. آنا ماغدالينا، البالغة من العمر ستة وأربعين عامًا، وأم لطفلين، وزوجة لقائد أوركسترا، تعيش حياة بسيطة وهادئة في المجمل.
بعد زيارتها للمقبرة في ذلك العام، أتاحت آنا ماغدالينا لنفسها حرية الانغماس في إغواءِ غريبٍ، قضت معه ليلة حالمة تُوِّجَت بورقة نقدية من فئة عشرين دولارًا تركها لها بين صفحات الرواية التي كانت تطالعها، قبل أن يختفي مع تباشير الصباح الأولى. تُرى، هل ستترك هذه الخيانة الأولى أثرها على حياة آنا ماغدالينا عند اكتشافها لفكرة الحرية في الحب دون تأنيب للضمير؟ أم أن الأمر يتعلّق باكتشاف أنوثة طمستها رتابة الحياة اليومية القاهرة؟
ها هنا يرسم سارد الرواية صورة لامرأة متخمة بالرغبات المثيرة، تستلهم زمنًا ضائعًا بين عزلة تعصف بالروح وتفصلها عن العالم حيث يبدو الزمن ثقيلا والأيام مترعة بالملل، وبين رغبة ملحة وشوق يكتنف الإنسان ويدفعه نحو ما يشتهي ويفتقد في الآن ذاته.
تتجلى شخصية آنا ماغدالينا في رواية “نلتقي شهر غشت” بسماتها المتميزة من قوة وجمال وغموض وتعقيد عاطفي. تبدو في الرواية امرأة ناضجة متمردة، تتألق بجاذبية غامضة تأسر القارئ.
أمضت آنا ماغدالينا سبعة وعشرين عامًا من حياتها زوجة يبادلها زوجها الحب في عائلة من الموسيقيين؛ فقد كان والدها مدرسًا للبيانو ومديرًا للمعهد الموسيقي لمدة أربعين عامًا، وخلفه في إدارته زوجها الذي كان قائدًا للأوركسترا. أما ابنها، الذي يبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا، فقد كان عازفًا في الأوركسترا السيمفونية الوطنية، بينما ابنتها، التي تبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، كانت بارعة في تعلم العزف، كما أنها ارتبطت بعلاقة غرامية مع عازف لموسيقى الجاز.
اعتادت آنا ماغدالينا أن تقصد الجزيرة صيف كل عام لتضع باقة ورد على قبر والدتها، وتقضي الليلة هناك قبل أن تعود صباح اليوم التالي إلى بيتها. إلا أنه في إحدى الليالي، انجذبت إلى شخص في ملهى الفندق، وانتهى لقاؤهما العابر بمرافقته إلى غرفتها كما أسلفتُ؛ وتوالت النزوات في السنوات اللاحقة بعدد حكايات الرواية. وعندما قررت آنا ماغدالينا الإقلاع عن مغامراتها في إحدى رحلاتها جمعت ما تبقّى من رفات والدتها في كيس لتعود به إلى بيتها، إيذانًا بوضع حدّ للنزوات العابرة. قبل ذلك، علمت من حارس المقبرة أن رجلًا غريبًا يزور قبر والدتها ويضع بدوره باقة ورد عليه، لتكتشف أنه كان عاشقًا لأمها عندما كانت تأتي إلى الجزيرة، وهي التي أوصت بدفنها هناك بعد وفاتها.
تختتم الرواية بنبرة حزينة مشوبة بالأمل والتأمل. تدرك آنا ماغدالينا أن تغيير الماضي مستحيل، غير أن التعلق ببدايات جديدة أمر ممكن، فتتخذ قرارها بالعودة إلى القرية في العام الموالي برغبة صادقة في التصالح مع ذكرياتها.
4
تتضمن الرواية خاتمة وقعها ابنا غابرييل غارسيا ماركيز رودريغو وغونزالو وأرفقها الناشر بنص يُبيّن بعض مسارات تشكل النصّ وتخلّقه كما دققه ماركيز وراجعه حتى انتهى به الأمر بوضع خمس صياغات بقيت كلها محفوظة، وهذا ما يوضحه ناشره كرستوبال بيرا في بيانه بتأكيده على أن العلاقة بين المؤلف والناشر هي عهد قائم على الثقة والاحترام، وهذا ما مكنه من تقديم رأي” نقدي بأقصى قدر ممكن…” (ص 66-67)، لقد كانت مهمته في هذه الطبعة تشبهُ مهمةَ مُرمّم في مواجهة لَوْحة فنان عظيم.
انطلاقًا من الوثيقة الرقمية المحفوظة لدى مونيكا ألونسو، ومقارنتها بالنسخة الخامسة التي يعتبرها أكثر اكتمالًا، قام بمراجعة جل ملاحظات ماركيز المكتوبة بخط اليد أو التي نُقلت إلى مونيكا ألونسو، راجع كل كلمة وجملة معدلة أو محذوفة، كل خيار مُدوّن على الهوامش، قبل اتخاذ قرار بدمجها في هذه النسخة النهائية؛ ليضيف معلقا: “لا يتلخص عمل الناشر في تغيير الكتاب، بل في تعزيز قوته بما هو موجود بالفعل على الصفحة، وهذا هو جوهر مهمتي التحريرية. وهذا يتضمن، من بين أمور أخرى، التحقق وتصحيح البيانات، مثل أسماء الموسيقيين أو المؤلفين المذكورين، وضمان التناسق بشأن عُمْر الشخصية الرئيسية”.
وتبقى الخاتمة الذي وضعها ابنا غارسيا ماركيز رودريغو وغونزالو مفيدة من أجل فهم النصّ وتقبّله خاصة حين يعلنان أن “فقدان الذاكرة الذي أصاب والدنا في سنواته الأخيرة، لم يكن أمرا يمكن تقبّلهُ بسهولة، فقد كان وقعا قاسيا علينا جميعًا. ولكن الأثر السلبي الذي تركه هذا الفقدان على قدرته في الكتابة بصرامته المعتادة كان مصدرًا لإحباط لا يُحتمل بالنسبة إليه. فقد قال لنا ذات يوم: إن الذاكرة هي في الوقت نفسه مادتي الأولية وأداتي في العمل… بدونها، لا يبقى شيء”.
5
تظل رواية “نلتقي شهر غشت” ثمرة جهد غارسيا ماركيز الأخير لمواصلة الإبداع رغم كل الصعاب. من هنا، كان إصراره على كتابة هذه الرواية بمثابة سباق بين براعة الأديب وتضاؤُلِ قدراته العقلية قبيْلَ وفاته.
فهل كان رودريغو وغونزالو صادقين في موقفهما بإصدار الرواية؟
لنتأمل…
وإلى حديث آخر.