إشارة بنك المغرب للرشوة غير مفاجِئة .. والجهود الأحادية غير كافية

مُستعرضا أداء الاقتصاد الوطني خلال سنة كاملة والإشكاليات المحيطة به أكد بنك المغرب، ضمن تقريره السنوي لسنة 2023 المرفوع إلى الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 25 لعيد العرش، أن “الرشوة لا تزال مستفحلة وتظل أحد أول العراقيل التي تثار من قبل المقاولات، وقد تؤدي إن لم يتم الحد منها إلى تباطؤ وتيرة تنفيذ الإصلاحات والأوراش الكبرى”.
البنك المركزي المغربي أكد كذلك أنه “بات لزاما اليوم السهر على توفير ظروف نجاح الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الرشوة واستكمال الإصلاحات التشريعية التي تم إطلاقها في هذا المجال وتحيين فعاليتها، مع تشجيع التعاون والتآزر بين مختلف الفاعلين حسب مقاربة شمولية وقطاعية”.
بخصوص هذا الموضوع، أوضح محمد البشير الراشدي، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، أن “إثارة بنك المغرب لموضوع الرشوة وعلاقتها بالاقتصاد الوطني لم يكن مفاجئا؛ لأنها ليست المرة الأولى التي يشير فيها البنك إلى آثار الرشوة على التنمية الاقتصادية للبلاد”، مؤكدا أن “الرشوة من العناصر المؤثرة على الاقتصاد والتي تمنع كل دولة من فرصة تطوير اقتصادها”.
واعتبر الراشدي، في الحوار التالي مع هسبريس، أن “الهيئة تقترح استراتيجية من الجيل الجديد من أجل تجاوز هذا الوضع وجعل الفساد يأخذ منحى تنازليا ومستداما؛ فجهودها لوحدها لا يمكن أن تعطينا نتائج في هذا الصدد كما نريد”، مشددا في الآن ذاته على “ضرورة نهج أسلوب الالتقائية والعمل المؤسساتي المتكامل في إطار مكافحة الفساد بشكل عام”.
نص الحوار:
أشار التقرير السنوي لبنك المغرب لسنة 2023، المرفوع إلى الملك محمد السادس مؤخرا، بصراحة إلى آفة الرشوة وعلاقتها بالاقتصاد الوطني. كهيئة مكلفة بالنزاهة، كيف تابعتم هذا الأمر؟
من المؤكد أن هذه ليست المرة الأولى التي يشير فيها بنك المغرب، ضمن تقاريره السنوية، إلى آثار الفساد والرشوة تحديدا على الاقتصاد الوطني والأداء التنموي؛ فللمرة الثالثة تواليا، يؤكد البنك المركزي المغربي أن الخروج من الأثر السلبي لهذا الوضع على التنمية يتطلب نهج مقاربة جديدة لمكافحة الفساد، وهو التحليل نفسه الذي نقدمه دائما كهيئة مكلفة بمحاربة الرشوة ضمن توصياتنا التي نؤكد ضمنها على مقاربة جديدة.
أفهم من كلامكم أن ما جاء في تقرير البنك المركزي المغربي لم يكن مفاجئا، على الرغم من تأكيده على أن الرشوة تبقى من أحد أول العراقيل المثارة من طرف المقاولات..
طبعا، لم يكن الأمر بالمفاجئ، حيث إن تقرير بنك المغرب يؤكد على الالتقائية والتكاثف بين المؤسسات الوطنية من أجل القضاء على منسوب الفساد بما فيها الرشوة؛ فنحن كهيئة دستورية بدورنا نؤكد عادة أن هذه العملية لا تتعلق بسلطة معينة لوحدها، بل يتعلق الأمر بالتكامل بين المؤسسات انطلاقا من رؤية واضحة وجريئة تنبثق عنها استراتيجية تساهم فيها السلطات والهيئات الوطنية والفاعلون من القطاع الخاص والمجتمع المدني.
هذا التكامل الذي نتحدث عنه ضروريٌّ، ويجب أن يكون مبنيا على الترابط وفي إطار المفصلية بين الأدوار؛ بمعنى أن كل هيئة أو مؤسسة وطنية تشتغل من جانبها وفي حدود مسؤوليتها، على أن يكون العمل في نهاية المطاف تكامليا ويعطي نتائج إيجابية.
كيف، إذن، تنظرون إلى الرشوة في علاقتها بضرورات تحقيق الإقلاع الاقتصادي وضمان المنافسة الحرة بين الفاعلين الاقتصاديين؟
هناك تأكيد من المجتمع الدولي على الفساد والرشوة كعناصر مؤثرة على الاقتصاد، حيث لا يجعله ذلك يكون في مستوى مؤهلات كل بلد؛ بينما يجعل دولة بعينها تُضيع فرصة تطوير اقتصادها وجعله أكثر تنافسية وقوة. وسط هذه الوضعية نجد أن الفاعلين الاقتصاديين لا يوجهون جميع قدراتهم نحو تطوير قدراتهم التنافسية على الأسواق على اعتبار أنهم يكونون في مواجهة مفتوحة مع الفساد. وهذا الأمر ليس ذا بعد وطني فقط بل هو ذو بعد دولي كذلك.
وبالفعل، فهذه الوضعية التي نتحدث عنها تكون لديها آثار على المستويين المجتمعي والتنموي؛ لكون ذلك يضعف الثقة في المؤسسات وفي قدرة السياسات العمومية على الإجابة على انتظارات المواطنين، كما يخفض من إمكانية الاستفادة من القدرات وتحرير الطاقات من أجل المساهمة في تنمية البلاد.
تحدثتم، قبل قليل، عن الحاجة إلى استراتيجية جديدة لمكافحة الفساد. هل إشكالية التجربة المغربية في مكافحة الفساد في القوانين والتشريعات أم في التنفيذ والتنزيل؟
من المهم جدا أن تكون المقاربة شاملة، ولا تقصي أي جانب على حساب آخر؛ فالجانب التشريعي في هذا الإطار أساسي، ويجب تقويته ليكون له دور في تجفيف بؤر الفساد. ونؤكد هنا أيضا على ضرورة مواكبة التشريع بالتنزيل الأمثل لمضامينه بما يمكن أن يعطينا نتائج ملموسة، وهو المقترح الذي تدفع به الهيئة ضمن توصياتها واقتراحاتها؛ فنحن اليوم في طور تقاسم التوجهات الكبرى للاستراتيجية الجديدة مع جميع المتدخلين من أجل إغنائها إذا اقتضى الأمر وتقاسمها قصد تبنيها على المدى القريب.
لقد كان من المفروض في سنة 2024 الوصول إلى هذه الالتقائية من خلال تبنيّ جماعي للتوجهات الاستراتيجية لسياسات الدولة في هذا المجال لكي نضعها كأساسٍ للمرحلة التي من المطالب أن يصل إليها المغرب في مكافحة آفة الفساد التي تبقى ذات آثار وخيمة ومؤثرة على الاقتصاد بطبيعة الحال.
وما المعمول، إذن، عمليا إذا استحضرنا رهانات المغرب التنموية الكبرى خلال السنوات المقبلة؟
بالفعل، المغرب مشرف على تحديات كبيرة وأوراش كبرى والتي تستلزم استغلال طاقات وقدرات البلاد وإمكانياتها بكيفية معقلنة ودينامية وطنية قوية ينخرط فيها الجميع؛ ففي هذا الاتجاه اشتغلت الهيئة لتهيئة القاعدة الصلبة من أجل التحول نحو مرحلة جديدة لمكافحة الفساد بالمغرب على أسس متينة وشاملة ويتوفر فيها بعد الواقع من أجل تحقيق الأهداف والآثار على المدى القريب. هذه الأسس انطلاقا منها نقترح استراتيجية من الجيل الجديد من أجل تجاوز هذا الوضع وجعل الفساد يأخذ منحى تنازليا ومستداما.
ونحن نثير مسألة الالتقائية وضرورة أن تكون المجهودات بشكل جماعي، هناك طرح يدفع بوجود ثقلٍ على الهيئة التي ترأسونها لوحدها وتعويلا عليها بدلا من تكثيف الجهود؟
طبعا. من الواضح جدا أن الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة محاربتها لا يمكنها لوحدها تحقيق هذا التغيير؛ فهي في الأساس لديها مسؤوليات دستورية، والقانون يمنح لها اقتراح توجهات استراتيجية جديدة وبرامج من أجل تنزيلها، ويعطيها القانون كذلك مسؤولية جعل الفاعلين الآخرين يتفاعلون مع توصياتها واقتراحاتها من أجل الوصول إلى إلتقائية حول رؤية جريئة في هذا الإطار.
مسؤولية الهيئة، إذن، محورية وواضحة ودستورية؛ لكن لا يمكنها لوحدها أن تعطي نتائج إلا في إطار جماعي وعمل تكاملي ومؤسساتي في جوهر هذه السياسات، حيث يجب أن تكون المسؤوليات في هذا الإطار واضحة وأن نمر إلى الكتل والانخراط الجماعي في هذا الورش.
كسؤال أخير، ما السبيل نحو تجنب إشارة بنك المغرب في تقاريره مستقبلا إلى مسألة الرشوة والفساد بشكل عام كمعرقل للتنمية الاقتصادية مجددا؟
ما يمكن أن نقوله في هذه الحالة هو أن كل مؤسسة وطنية تبقى مطالبة بالالتزام بمسؤوليتها تجاه مكافحة الفساد من خلال تقديم توصياتها وتقاريرها؛ فالتوجهات الاستراتيجية المقترحة في هذا الصدد والتي انطلاقا منها تم وضع برامج ومخططات تتضمن أولويات كل سنة على حدة حتى تكون لدينا أهداف قابلةٌ للقياس وخطوات قابلة للتقييم حول ما إذا كنا في الطريق الصحيح لتحقيق أهداف الاستراتيجية أم لا، وكلما اتضح أن الأمور لا تسير على ما يرام نعيد مراجعة خطواتنا.