أخبار العالم

المشهد السياسي في أزمة.. و”الدولة العميقة” بلا حلول مطلقة


قال علي اليوسفي علوي، المحاضر وأستاذ العلوم السياسية بالجامعة الدولية بالرباط، إن “المشهد السياسي بدأ منذ فترة يتفتت تدريجيا وبدأت السياسة تفقد معناها”، منبها إلى أن “هذا ليس شيئا مغربيا، بل هو صورة للوضع العالمي الذي أخذ يتشكل منذ انهيار جدار برلين”، مشددا على وجود الأحزاب السياسية المغربية في مرحلة “أزمة حقيقية” نتيجة “انفصالها عن القواعد”.

وأضاف اليوسفي علوي، في الجزء الأول من حواره التالي مع هسبريس، أن “المسألة لم تعد مقتصرة على الأحزاب. هي مشكلة بنية مجتمع، أي أن التحول الذي مس الأحزاب مس أيضا النقابات التي لم تعد تمثل منخرطيها”، وقال: “هذه الرجات وهذا القطع مع القواعد هو مرض أصاب الجميع”، مبرزا الحاجة اليوم إلى تأطير المواطنين لإخراج المؤسسات التقليدية من هذا العضال الذي تعانيه.

وعن نقاش “فعالية الدولة” والديمقراطية بالمغرب، قال ضيف هسبريس إنه “لحسن الحظ أنه كانت هناك إمكانية أن تتدخل الدولة، التي يسميها البعض بـ”الدولة العميقة”، في زمن جائحة كوفيد19 وفي زلزال الحوز لتسخير الاحتياط في الفعل (La réserve) لإنقاذ المواطنين”، مؤكدا أن هذا “ليس حلا مطلقا للتعويل عليه في كل مرة؛ فالحل الأمثل والثابت والدائم هو أن تكون لدينا مؤسسات وحكومة مسؤولة ببرامج واضحة”.

نص الحوار:

لا شك في أنك تتابع التحليلات التي لا تتوقف منذ سنوات، بخصوص أن هناك “حالة احتباس” و”بلوكاج”، يعيشه المشهد السياسي المغربي، وأن الوضع الحالي جعلنا جميعا في “قاعة انتظار كبرى”. هل تتفق مع الرأي القائل بأن “الممارسة السياسية في المغرب فقدت معظم معانيها”؟

يجب أن نميز بين “البلوكاج” الذي يعني توقيف المؤسسات، كما حصل أثناء تشكيل حكومة عبد الإله بنكيران، وعلاقته بالأحزاب التي لم تشارك إلا بشروط معينة وأشكال أخرى. مؤسسة الحكومة، حينها، توقفت عن الاشتغال. اليوم، الأمر ليس حاصلا؛ لكن ما أعتقد أنه ينقص في هذا المسألة هو النقاش والتواصل مع المواطنين ومع الصحافة وإطلاع الرأي العام بما يجري حتى نُطمئن المواطنين ونُطمئن الساحة السياسية بشكل عام.

أن نقول إن هناك “احتباسا” وكأن المؤسسات معطلة، فهذا غير صحيح. المؤسسات تشتغل؛ لكن كما قلت هناك حاجة إلى التجاوب مع تساؤلات الصحافيين والمهتمين والمفكرين. الحكومة لها ناطق رسمي باسمها ولها أصوات متعددة متمثلة في الوزراء، إلخ. ومن هذا المنطلق، لا بد من إشعار المواطنين بكل صغيرة وكبيرة. ورغم كل ذلك، لا أتصور أن الأمر وصل إلى حالة “احتباس” أو أزمة سياسية أو شيء من هذا القبيل. الأمور تسري بشكل عادي في اعتقادي؛ ولكني أشدد على أن هناك خصاصا ما في التواصل.

(مقاطعا) السؤال يعني المشهد السياسي كبيئة حزبية “متشنجة” ابتداء…

هنا، أتصور أن المشهد السياسي على مستوى الممارسة السياسية يعرف بالفعل مشاكل حقيقية؛ وهذه المشاكل ليست وليدة اليوم، بل بدأت في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات مع سقوط جدار برلين، حين أخذت المؤسسة الحزبية تفقد معناها.

وفي المشهد المغربي، نجد أحزابا نسميها تقليدا “الأحزاب الوطنية”، علما أن كل الأحزاب وطنية؛ غير أن الإرث التاريخي جعلها أحزابا من هذا النوع (وطنية) باعتبارها شاركت في نضالات الحركة الوطنية وفي الدفاع عن حوزة الوطن والنضال من أجل استقلال المغرب، فاكتسبت هذا التوصيف. والواقع أن كل الأحزاب المغربية هي أحزاب وطنية، وكلها تحمل مشروعا لخدمة الوطن، اتفقنا معه أو اختلفنا من حيث المنهجية ومن حيث المشروع؛ ولكنها ليست أحزابا “خائنة”.

إن ما كان يسمى بالأحزاب الوطنية كان يعول عليها كثيرا من طرف الشباب والمناضلين والنخب الفكرية، وغيرها؛ ولكن المنتظرين تذوقوا إحباطا كبيرا وخيبة أمل لا غبار عليها، بالنظر إلى المنجزات التي تحققت، والتي لم تكن في مستوى الانتظارات. هنا، بدأ المشهد السياسي يتفتت تدريجيا أو بدأت السياسة تفقد معناها؛ ولكن يجب أن نقول بأن هذه الحقيقة ليست شيئا مغربيا. هو، كما قلتُ، تحول وقع على مستوى العالم منذ انهيار جدار برلين. انقسام العالم إلى قسمين والإيمان بإيديولوجيات ثابتة بوصفه المخرج انهار كتصور؛ فوقعت تشكلات أو أشكال عديدة من الخلخلة في المشهد السياسي دوليا.

ويكفي أن ننظر إلى فرنسا كأحد النماذج الديمقراطية، ونلاحظ الزعزعة التي حدثت في الجمهورية منذ 2002. وأنت تعرف أن الكثير من المتتبعين يعتبرون أن نهاية السياسة الفرنسية بشكلها المتعارف عليه كانت مع نهاية ولاية جاك شيراك. ومنذ ذلك الحين بدأت فرنسا انحدارها السياسي ودخلت في نوع من “اللخبطة” وتداخل الأيديولوجيات والمذاهب.

ودعني أقدم توضيحا صغيرا؛ لا أريد أن أهرب النقاش إلى فرنسا. أحاول فقط أن أقدم نموذجا حيا حتى لا نشعر بنوع من الغبن في المغرب؛ وأن أؤكد أن تجربة عتيقة في الديمقراطية مثل فرنسا وقعت فيها هذه الرجة، بعد ما وقع مع نيكولا ساركوزي وكذلك فرانسوا هولاند؛ ثم جاءت التتمة أو الضربة القاضية مع الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الذي بعثر كل شيء، وآخر ما فعل هو حل البرلمان ليعيد تشكيل المشهد السياسي، واليوم هناك أزمة حقيقية.

لا مراء أن هناك أزمة سياسية؛ أو قل أزمة الإيمان بالحزب السياسي، والتي تنضاف إلى أزمة الممارسة، أي أزمة ممارسة الحزب. نحن نعرف أن العلوم السياسية حين تكلمت عن وظيفة الحزب، والتي تختلف عن وظيفة الجمعية، فقد حددتها في عنصرين: التأطير ثم التمثيل. عندما نشكل حزبا، تكون لدينا رغبة أو تصور سياسي اقتصادي مجتمعي. هذا التصور يجعلنا نسعى إلى تأطير المواطنين في اتجاه الوصول إلى هذا المشروع أو الدفع به إلى أن ينضج ويبلغ مستوى الممارسة. وطبعا، هذا التأطير يكون على المستوى الإيديولوجي؛ ولكن ينسحب أيضا على المستوى المجالي. فالحزب لا بد أن يكون حاضرا في مختلف مناطق البلد، ويضمن وصول جميع المواطنين إليه.

وعلى المستوى الإيديولوجي، لا يكفي أن يكون الحزب عنده مقرات في مختلف المناطق؛ بل أن تكون هذه المقرات مفتوحة وفيها ورشات تكوين وتواصل مع المواطنين بشكل دائم. هذا هو التأطير الإيديولوجي.

أزمة السياسة في المغرب، مع استثناءات طبعا محدودة جدا، هو أننا نراهن على التمثيل فقط. وعمليا، لا يمكن أن يأتي الحزب ليمثل مواطنين لم يكونهم إيديولوجيا. الحزب ينشأ مثقلا بطموحات سياسية وطموحات انتخابية أو انتخابوية أحيانا، ويحاول استمالة المواطنين للتصويت على مشروع أو “طبخة سريعة”.

ينزل الفاعل الحزبي إلى الميدان، ويعد الناس بفك العزلة عن العالم القروي وضمان الوصول إلى المدرسة، إلخ. ونحن نلاحظ أن معظم البرامج “تعميمية”، ولا تتضمن نوعا من التدقيق. إننا نسعى إلى التمثيل دون التأطير. ومنطق الأشياء يقتضي التأطير قبل التمثيل. هذه هي الأزمة الحقيقية، أي أن المواطن بشكل عام لم يعد مؤطرا سياسيا. وأنت تعرف أن الجامعة والشبيبات بشكل عام كانت تلعب دورا مهما في الأخذ بأيدي الطلبة إلى المعترك السياسي، وفي إدخال أولوية المواطنة إلى الممارسة السياسية. لكن الحزب انفصل عن القواعد.

(مقاطعا) لكن، هناك من يقول إن الأزمة صارت “عامة” تجاوزت حدود الممارسة الحزبية ولمست أيضا التنظيمات الاجتماعية من قبيل النقابات، تحديدا أمام مد التنسيقيات؛ ألا ترى مثل كثيرين أن هذه القنوات التي كانت تضطلع بالنقاش في أزمة؟

شكرا لأنك تثير هذه النقطة؛ لأنها تؤكد أن المشكلة بنيوية (Structurelle)، أي المسألة لم تعد مقتصرة على الأحزاب. هي مشكلة بنية مجتمع. أي أن التحول الذي مس الأحزاب مس النقابات وطال الكثير من الجمعيات؛ رغم أن الأخيرة لها وظيفة أخرى. ولكن هذه الرجات وهذا القطع مع القواعد هو مرض أصاب الجميع. فالمؤسسات النقابية أصبحت بمعزل عن قواعدها، وقد عاينا ذلك في أزمة التعليم. التنظيمات النقابية صارت تمثل نفسها تقريبا، أي تتكلم باسمها وليس باسم من ينخرطون فيها. والأحزاب تتخاطب باسمها أيضا. وهذه معضلة حقيقية. إذن، إذا حاولنا أن نربط هذا بما أسميتَه قبل قليل بـ”الاحتباس” أو “البلوكاج”، فهذا نوع من فقدان الشعبية أو فقدان المصداقية. وهو لا يقل خطورة. رغم أن المؤسسة تشتغل والحكومة تشتغل والبرلمان يشتغل.

كل المؤسسات تبدو أنها تشتغل، لكن الوضع الحالي يطرح مشكلا على مستوى الاختيارات القادمة، أي أننا إذا كنا نود اختيارات مستقبلية حقيقية، فهي تُبنى مع الشعب وبالشعب؛ ولكي تبنى بهذا الشكل، لا يتعين أن ننادي على هذا الشعب كل خمس سنوات لنقول للناس “تعالوا صوتوا؛ نحن أفضل من أنزله الله”. لا، ما هكذا تحل المشاكل. يجب أن يكون هناك إدماج للمواطنين، أو انخراط، في الحياة السياسية. وهذا الانخراط لا ينحصر في بطاقة عضوية.

شخصيا، أذكر عندما كنت شابا وكنت آتي إلى الرباط. وبينما أتجول بشارع محمد الخامس أجد السينما مفتوحة، وكانت منظمة العمل الديمقراطي أو حزب الاتحاد الاشتراكي يقيمان ورشات للنقاش. كنت أدخل إلى قاعات لا أعرف عنها شيئا وأنا شاب في الباكالوريا، وكنت أستفيد. كما كنت أذهب إلى المحكمة لمتابعة المحاكمات؛ أجد الباب مفتوحا وأجلس في قاعة الجلسات وأستمع للقاضي يصدر حكمه ويستمع للمتهم. كان هناك تكوين؛ الجامعة كانت تكوّن. والمدرسة الثانوية والإعدادية كانت تضطلع بهذا الدور. الأساتذة كانوا يتبنون مواقف واضحة. وكانوا أحيانا يؤثرون على التلاميذ أو الطلبة، وإن كان هذا ليس واجبهم؛ ولكن كانت هناك تسربات لتوجهاتهم. كان هناك تشبع حقيقي، وكنا نتأثر بالتوجهات الإيديولوجية الموجودة في الشارع وفي الجرائد… اليوم، نحن نرفع رهانات في حدود سنة 2030 وما بعدها، والأصل هو أنه يتعين وضع انخراط الشعب في قلب هذه الرهانات. ومن ثم، على الأحزاب أن تعيد النظر في توجهاتها وممارستها، وتلتفت إلى حاجة المواطن إلى التأطير السياسي.

أريد أن نخوض في مسألة الديمقراطية. نحن نعيش انتقالا ديمقراطيا مفترضا؛ وقد شخصت الأحزاب وأزمتها؛ هل هذه التنظيمات “المنهكة”، وفق خلاصتك، قادرة على نقلنا إلى تجارب ديمقراطية تضاهي ما هو الأمر عليه في أقطار أخرى؟

أعتقد أن الانتقال الديمقراطي ليس سياسة أو مبدأ إرادوي Volontariste؛ يعني نريد أن يحدث هذا الانتقال فيحدث. هذا الانتقال يجب أن نؤسس له. الأحزاب الوطنية وكافة الأحزاب في المغرب عاشت مخاضات معينة ومسارات عسيرة. لو ظلت الأحزاب في عنفوانها وفي توجهاتها وفي وضوح الرؤية الإيديولوجية لأمكن أن يظفر الانتقال الديمقراطي بمعنى وأهمية ووقع كبير. لما شرعنا في الحديث عن الانتقال الديمقراطي وجدت (الأحزاب) نفسها تنظيمات هشة ومضعفة وأحيانا مشتتة فيما بينها ومنخورة بالصراعات الداخلية.

الانتقال الديمقراطي ليس هو أن نُحِل حزبا محل حزب أو توجها محل آخر. الانتقال الديمقراطي يجب أن يبدأ أولا ببناء روح الديمقراطية والفكر النقدي، وهذه العملية تنطلق في وقت مبكر جدا. تنطلق في المدرسة، في التربية والتكوين والتعليم. أن نكوّن الإنسان على الإيمان بالرأي الآخر، وبالاختلاف والنقاش، وبأنه ليس هناك رأي ثابت أو مطلق أو حقيقة غير قابلة للتفاوض. كل الحقائق نسبية. عندما لا نستدمج هذا فلن نستطيع التهييء لأي انتقال ديمقراطي أو ثقافي أو مجتمعي. ويبدو لي أن هذا الخلل تتحمل مسؤوليته النخب السياسية بالدرجة الأولى أي المسؤولين الحزبيين؛ لأنه غالبا يقول الناس هناك من أضعف المؤسسة الحزبية.

لا، المؤسسة الحزبية هي من ساهمت في إضعاف نفسها بنفسها، لأنه دخل فيها متنطعون ووصوليون وانتهازيون. هذا طبعا لا يقبل التعميم، لكن هؤلاء الذين ذكرت يمثلون نوعا من “السوسة” التي تنخر هذه الإطارات من الداخل. إذن، هناك أسباب موضوعية لانهيار المؤسسة الحزبية أو تراجعها، ولكنها متجاورة مع أسباب ذاتية شقٌ منها كامن في الأحزاب نفسها وآخر يكمن في طبقة وفئة اجتماعية يجب ألا نتجاهلها، وهي النخب التي تسمي نفسها مثقفة. هذه النخب الاجتماعية تراجع دورها. هنا نتذكر أن الأطر الوطنية في الستينيات والسبعينيات، مهندسون وأطباء وجامعيون، كانوا فاعلين في نطاق اختصاصهم وفي آن فاعلين سياسيا وثقافيا. كانوا يؤطرون النقاش. لكن الإطار اليوم صار بورجوازيا صغير؛ يفكر في أبنائه وفي عطلته وألبسته وشقته وسيارته.

الوطن بات، نسبيا، لا يهم الكثيرين. هناك الآن يعني سباقات شخصية. ما الذي يجب أن أنجزه على المستوى الشخصي؟ أين أقضي عطلتي؟ أين يدرس أبنائي؟ أين أُعَالج؟ المجتمع لم يعد يهمني! الناس لم يعودوا منخرطين بنفس الشكل القديم. لم يعد لهم هذا الإيمان بأن لهم دورا يجب القيام به؛ وهو ليس دورا فقط، بل مسؤولية. مسؤولية تاريخية. كل من لديه مستوى من المعرفة ومن الخبرة والتجربة لا يتقاسمها مع المواطنين ولا يأخذ بيد المواطنين، فهو يتحمل مسؤولية تاريخية فيما يمكن أن تؤول إليه أوضاع المواطنين. لا يكفي أن نشتكي بأن الدولة لا توفر تعليما جيدا أو لا توفر خدمات صحة جيدة؛ بل لا بد من التساؤل: ما الذي نفعله، كفاعلين ثقافيين أو كفاعلين مدنيين، في تحفيز الدولة ودفعها وانتقادها بانتظام من أجل أن تقوم بواجبها؟

على ذكر الدولة، دعنا نستفيض أكثر في مسألة الديمقراطية التي يدفع الجميع بأنها تعيش “أزمة” في كل مناطق العالم؛ تصور “فعالية الدولة”، الذي تحدث عنه الأكاديمي عبد الحي المودن صار يرتفع منذ تدبير جائحة كوفيد19 و”زلزال الحوز”. المودن اعتبر أن “فعالية الدولة” قد تعوض الديمقراطية، بحيث “يتم تقييم الخيارات الاستراتيجية التي تتبناها الدولة على ضوء فعاليتها”. ما تعليقك؟

تعليقي هو أنه لحسن الحظ أنه كانت هناك إمكانية أن تتدخل الدولة، التي يسميها البعض بـ”الدولة العميقة”، في زمن جائحة كوفيد19، وإلا لكانت أصابتنا كارثة كبرى. لحسن الحظ أن الدولة كان عندها نوع من الاحتياط في الفعل (La réserve) وفي الإمكانيات لتسخرها لخدمة المواطن في هذه الفترة العصيبة. ولحسن الحظ أن الدولة تتوفر على ما يكفي من الإمكانيات للنزول بثقلها عندما وقعت كارثة زلزال 8 شتنبر الذي ضرب الحوز وأقاليم أخرى. لحسن الحظ أنه كان هناك من ينقذ المواطنين، إلخ.

ولكن هذا ليس حلا مطلقا للتعويل عليه في كل مرة. الحل الأمثل والثابت والدائم هو أن تكون لدينا مؤسسات وحكومة مسؤولة ببرامج واضحة. وأن يجري التفكير في المواطن بسياسات قبلية وليس بعدية. ما قمنا به في كوفيد19 وفي تدبير تداعيات الزلزال هو “سياسة بعدية”، والإنجاز البعدي هو أن نبحث عن الحلول حين تقع الكارثة. ولكن لنفترض لا قدر الله أن الجائحة استمرت لمدة خمس سنوات أو ست سنوات. هل كانت الدولة بغير انتظار تستطيع تحمل التكلفة؟ أو أن الزلزال لا قدر الله كان أكثر كارثية مما وقع. هل كانت الدولة بإمكانياتها المرتجلة (Improvisation) أن تحل هذه المشاكل؟ ونسأل الله أن يحمينا من كوارث أخرى. ولكن ما يمكن أن يكون دائما هو أن تكون الحكومة لها برامج واضحة في تنمية مختلف مناطق المغرب، بميزانية واضحة باقتطاعات مما هو نفقات إضافية أو هوامش، من أجل خدمة المواطنين وتوفير سياسة قبلية. ما ينقصنا هو السياسة القبلية هو التوقعات. والتوقع لا يمكن أن نعول عليه إلا مع حكومة ثابتة لها قرارات، وتشتغل ضمن ما يمنح الدستور المغربي الجديد المتقدم جدا. نحن الآن نشتغل بأقل ما يمكن من الصلاحيات التي قدمتها وثيقة 2011.

وبالنسبة إلي، في ما يخص الجائحة وأزمة الزلزال، أرى أنه من الجيد أننا استطعنا أن نقفز أو نتجاوز هذه المحن؛ ولكن يجب أن نفكر على المدى البعيد. والحل لا يمكن أن يكون سوى من خلال ربط المسؤولية بالمحاسبة. الوزارات أو المسؤولين بشكل عام لديهم ميزانيات. وهذه الميزانيات يتعين أن تُنفق في خدمة المواطنين؛ ويحاسب كل شخص عن مآل هذه النفقات. فهذه ضرائب نساهم فيها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وهذه الأموال هي أموالنا، ويجب أن تنفق علينا جميعا وبنوع من العدل والاستحقاق، ثم بنوع من التكامل بين الجهات. لا يمكن أن توجه مداخيل الدار البيضاء لتنمية “كازابلانكا” حصرا. نحن نعرف أن هناك مناطق تحتاج تنمية أكثر من مناطق أخرى، وثمة مناطق غنية لها مداخيل مهمة جدا، ويجب أن نعمل على أن تصل إلى مختلف الأنحاء. الدار البيضاء حق لجميع المواطنين وليست ملكا موقوفا على البيضاويين. وهذه الممتلكات يجب أن يستفيد منها جميع المغاربة.

ارتباطا دائما بمفهوم الديمقراطية، بات يسود تصور معرفي بالعديد من البلدان الديمقراطية التي تضمن حرية التعبير والحق في الاحتجاج وتتمتع بالحرية في “الاستعمال العمومي للعقل” (رولز)، وفي اختيار المسؤولين بأريحية وديمقراطية، لكن الأنظمة التقليدية لا تتغير، وهو ما يذكره المودن أيضا. هل هذا صحيح من وجهة نظرك؟

عندما نتحدث عن بلدان الديمقراطية، للأسف، النموذج المتوفر غربي؛ رغم الاختلالات الموجودة ورغم التضاربات، فالمواطن له صوت وله القرار ويستطيع أن يغير السياسات. أعود إلى فرنسا من جديد؛ لأن البلد قريب منا. أنت تابعت أن اليمين المتطرف فاز في الاستحقاقات الأوروبية بأعلى نسبة من المقاعد. الرئيس ماكرون اضطر إلى حل البرلمان من أجل إعادة التشكيل ليعطي الكلمة للمواطنين عسى أن يغيروا موازين القوة. والمواطنون هم الذين غيروا هذه الموازين فعلا. يعني لو بقينا في الطرح السابق لكان اليمين المتطرف هو الذي انتصر. لكن، عندما أحس المواطن، غير المتطرف، بأن أقصى اليمين سيأخذ زمام الأمور تكتلوا؛ منهم من تنازل عن قناعته الإيديولوجية وصوت من أجل اعتراض طريق هذا اليمين والحد من تحركه.

نعم، المواطن في البلدان الديمقراطية لا يزال لديه القرار رغم الاختلالات ورغم طمس الصورة في ما يتعلق بالأحزاب والإيديولوجيات. الشعب يقرر، وما زال يتوجه إلى صناديق الاقتراع ويدلي بصوته. وهذا الصوت يؤثر. وأنت تلاحظ أن الجبهة الشعبية الجديدة استطاعت أن تتبوأ المرتبة الأولى. لو لم يكن المواطن له دور لما حدث كل هذا. لا مجال لنسقط هذه النماذج على بلداننا التي توجد في مسار أو في طور الدمقرطة.

البلدان الغربية لها مسار طويل جدا منذ النهضة الأوروبية مرورا بالحروب الدينية وعصر الأنوار، والحروب الداخلية والثورة الفرنسية. لها مسار جعل التكوين الديمقراطي جزءا من بنية المواطن. هو يعيش في المدرسة وله رأي. وهكذا الأمر وسط العائلة. هو يعيش في الديمقراطية. كيفما كانت الأشكال الشاردة التي يمكن أن نراها في الغرب، والتي تبدو لامبالية، فالناس هناك لهم قناعات وتكوين. يعيشون ويتنفسون قيم الديمقراطية.

إذا أردنا نحن أن يكون للمواطن صوت، فعلينا أن نكف عن دعوته كل خمس سنوات ليكون لديه هذا الصوت، فقط، في العملية الانتخابية. فهل هيأنا هذا المواطن ليكون لديه صوت؟ عندما نصوت على رسومات وعلامات للأحزاب، “ديك” أو “دجاجة” أو “سيارة”، ونقول له صوّت على هذه العلامة أو على الحزب الذي يحملها، فنحن هكذا نبتعد عن الديمقراطية. الأخيرة ليست هي البرلمان أو الجماعات المنتخبة، بل هي ما الذي نضعه في البرلمان؟ كيف نصل إليه؟ من الذين نضعهم في الجماعات؟ ما هو مستواهم التكويني؟ ما هو مستواهم المعرفي؟ ما هي قدرتهم على التفكير السياسي؟ من يوصل هؤلاء الناس هو المواطن الذي أنتجناه، أو بتعبير أدق هو المواطن الذي أنتجته المدرسة المغربية. وهذا مشكل عميق جدا. وإذا ظلت المدرسة غائبة عن المشهد فنحن لن نصنع مواطنين من هذا القبيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى