أخبار العالم

الذئب.. العنزة..



“العالم يعبق روعة وسحرا في انتظار أن تتفتح عقولنا” (برتراند راسل)

تحكي الحكاية-الخدعة التي تُتداول منذ القرن الثامن عن صاحب مزرعة كان يملك عنزة، بعض الكُرنبات وذئبا، أربع كائنات مسجونة داخل متاهة مادامت الحكاية تفرض علينا منذ البداية أن على صاحب المزرعة أن يقطع نهرا في مركب صغير لا يسع إلا اثنين منهم، وليس بإمكانه أن يترك العنزة مع الكرنب حتى لا تزدرده، ولا الذئب مع العنزة حتى لا تلقى هذه الأخيرة مصير الكرنب نفسه.

صحيح أن الحكاية تهدف إلى أن نتعلم منذ الصغر أن لكل مشكلة حل، لكني أعتقد أن وراء هذا المغزى الأول يكمن مغزى آخر: “فرِّق تسُد”، كما قال يوليوس قيصر وبعده ماكيافيلو!

من الوهلة الأولى، يبدو صاحبُ المزرعة كبطل يستعمل ذكاءه من أجل إيجاد حل لوضعية معقدة تُمليها العلاقة المستحيلة بين شخوص الحكاية الثلاثة، بيد أن صاحبنا المسكين ليس سوى بئيس آخر زُجَّ به في شَرَك حكاية تتجاوزه وتفرض عليه أن يُجذف ويعيد التجذيف من ضفة لأخرى كي يفك عقدة ثلاثة كائنات لا تستطيع أن تتعايش فيما بينها دون أن يأكل بعضها البعض.

شيء من هذا القبيل يحصل مع وبسبب موضوع الصحراء: مغاربة، جزائريون، إسبان وفرنسيون، كلنا مسحورون دائخون منذ عقود بفعل بخور عطِنة تنبعث من ثنايا حكاية تبدو قدرا محتوما، هائمون في متاهة دون مَخرج.

المعضلة أو الورطة، كما يقول أ. لنكولن، “هي ما يحصل عندما يحاول السياسي أن يحافظ على وجهيه في الوقت نفسه”، ولعل هذه المقولة تُلخِّص ما يقع بين المغرب والجزائر مع إسبانيا وفرنسا، والعكس صحيح.

بعد كل هذا، أعتقد أن الأهم ليس هو أن نعرِف مَن هو مَن في الحكاية بقدر ما يهم أن نستفيق من هذا السِّحر ونفطِم أنفسنا من إدمان أكل بعضنا البعض، وهذا لن يتأتى إلا بهدِم الباراديغما القديمة وبناء أخرى جديدة تسمح لنا بعلاج الاضطراب الانفجاري المتقطع (Trouble explosif intermittent) الذي أدخل العلاقات في غرب المتوسط في حالة من الهاراكيري أو الانتحار الجماعي.

ليس ثمة أدنى شك في أن الأحداث التي عشناها بشكل متواصل في السنوات الثلاث الأخيرة قد وضعت العالم داخل مسرِّع للتاريخ (Accélérateur de l’histoire)، وكما توقعت في مقال سابق (هسبريس 31 مارس 2024)، ها نحن قد دخلنا نفق سنوات عجاف موسومة بتضخم مهول، انكماش اقتصادي كبير ومعه احتمال حدوث قلاقل اجتماعية متواترة.

في مثل هذه اللحظات الحرجة، لن يسعفنا في شيء الاستمرار في سجن جارِنا كي نقتنع برجاحة حُكمنا، بل يمكن القول إن العكس هو الصحيح، أي إنه كلما كان هذا الجار صالحا ومتعاونا ارتفعت قيمة منزلنا، خاصة في عالم يستعد لترك العولمة وإعادة تنظيم نفسه في شكل آخر.

وكما أشرت في المقال المذكور، إذا كانت جائحة كوفيد-19 بيَّنت كما الحرب الروسية-الأوكرانية والحرب على غزة أنه من الآن فصاعدا سوف تفرض الجيو-سياسة سيطرتها على الاقتصاد وسوف ينتظم العالم في مناطق نفوذ متعددة، أقل مساحة، يتم فيها توطين مراكز الإنتاج بهدف اجتناب انقطاع سلسلة التزود بالسلع الحيوية، فعلى الدول الأربع المذكورة، التي تتقاسم تاريخا مشتركا ولها من الموارد الطبيعية والتكنولوجيا ما يمكِّنها من خلق اقتصاد متكامل، أن تفُك وِثاق الحكاية وتتحرر من أسرها.

نعم، لا مناص من تغيير قواعد اللعبة والشروع عاجلا في التأسيس للنواة الأولى لمنطقة نفوذ أوروبي-مغاربي تسمح بالاستفادة من إعادة الانتشار الاقتصادي الذي تحدثنا عنه.

إن الأمر ليس بالهين لكن الزمن الذي نعيشه يطلب منا ذلك وبسرعة، ولعمري أن عدم الارتياح الذي يخلقه الشك أفضل من التمادي في اليقين الزائف، كما أنه كلما استمرت متلازمة هوبريس (Le syndrome de Hubris) في تدبير العلاقات بين هذه الدول الأربع، زدنا في ترسيخ تلك السياسة الخرقاء التي تتفنَّن في البحث عن المشاكل، إيجادِها بطبيعة الحال، القيامِ بتشخيص خاطئ، وبالتالي اتباعِ علاجات لن تزيد المشكل إلا تفاقما، هروبا إلى الأمام ليس إلا.

لا بد من أخذ الثور من قرنيه كما يقول المثل الإسباني وتحمُّل المسؤولية التاريخية والأخلاقية في إيجاد حل لنزاع من مخلفات الاستعمار وتقاطبات الحرب الباردة.

والحُمق، كما يقال، لا يأتي من الشك بل من اليقين الزائف!

ما تطلبه اليوم شعوبنا من سياسييها هو أن يساهموا بجد في عودة الوعي إلى العلاقات بين دولهم بما يناسب الرهانات الحالية والقادمة، أن يبادروا إلى الفعل بدل الاكتفاء برد الفعل، أن لا يُدمِنوا إدارة ما هو آني ويومي بل أن يتطلعوا إلى المستقبل، إلى ما سيحصل بعد عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر.

في مثل هذه الظروف العصيبة، ما مِن يوم يمر دون أن يعي حكامنا بضرورة تغير قواعد اللعبة إلا ويُقرِّبنا من مقولة شارل دوغول الرهيبة: “السياسة ليست مسألة هزل حتى ندعها في أيدي السياسيين”.

ماذا سيتبقى لنا إذن إن استمر الوضع على ما هو عليه؟ وأية مخارج تنتظرنا؟

لقد علَمنا التاريخ أنه من رحِم الأزمة قد يخرج روزفيلت كما قد يخرج هتلر، وها هو اليمين المتطرف في الدول الأوروبية قد امتطى صهوة جواده الأرعن وما فتئ يزرع الريح!

وها هي الحرب الروسية-الأوكرانية التي تشبه الدمى الروسية (صراع داخل صراع داخل صراع) تنذر بنزاع طويل الأمد سيزيد من الانكماش الاقتصادي والتضخم ونسبة فائدة القروض البنكية ومن استئساد الإنفاق العسكري على حساب القطاعات الأساسية والاستثمار العمومي.

قديما قيل: الدرهم الأبيض ينفع في اليوم الأسود، وقديما أيضا قال الثور الأسود: أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض!

والحكمة أهمُّ وأنفعُ من الغنى، ومن سرَّه زمن ساءته أزمان…

إياك أعني وافهميني يا جارة!

The post الذئب.. العنزة.. appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى