“الظهير البربري” والاستعمار الفرنسي .. سلسلة تنقل شهادة أبي بكر القادري

بالاستناد على شهادات من عاشوا أحداث 16 ماي 1930، بأسمائهم ومواقفهم واحتجاجاتهم، وردود الفعل بالنفي والسجن والتعذيب من طرف الاحتلال الفرنسي وعملائه المغاربة آنذاك، تقدم الحلقة الأولى من سلسلة “مذكراتي في الحركة الوطنية” تاريخا مغربيا على لسان علَم وطني عاشه، هو أبو بكر القادري، المعروف بجهوده السياسية والتعليمية وكتاباته ودعم قضايا تحررية؛ من بينها تعليم المرأة، وتعميم التعليم وتحديثه، ودعم “الكفاح الفلسطيني”.
الظهير الذي يعرف اليوم نقاشا واسعا يتجدد سنويا حول طبيعته ونوع الوعي به عرّفه المغاربة، والاحتلال الأجنبي الفرنسي، قبل أزيد من ثمانين سنة بـ”الظهير البربري”، كانَت نتيجةُ شهورِ من الاحتجاجات والخطابات والكتابات حول خطورته داخل المغرب وخارجه، إسقاط فصله السادس الذي كان ينص على حق المحاكم الفرنسية في التدخل في قضايا المناطق الأمازيغية.
هذا الظهير هو أول مواضيع هذه السلسلة المستندة على مذكرات القادري، وهي حلقات أخرجها وليد أيوب، ودقق نصّها ناصر القادري وخالد القادري، وأدّاها صوتيا هشام الشوهاني، وهندس صوتها ياسين العدناني، ووضّبه رضى زنيبر، مع تصميم غرافيكي لإلياس المزواري..
الحلقة المروية على لسان أبي بكر القادري بصيغة المتكلم روايةٌ تنبّه إلى أن تاريخ الحركة الوطنية لم يأخذ حقه من التوثيق، لعدم تسجيل عدد من الفاعلين فيه مذكراتهم، ورحيل العديد من الوطنيين، فضلا عن ظروف نشأة الحركة الوطنية التي كانت تعرف طغيان المستعمر وعدم التوثيق للخطوات عامة، أو اختصار التقارير ومعلوماتها، خوفا من كشف السرية، وحرق وإتلاف الوثائق والتقييدات بفعل التفتيشات المستمرة لإدارة الحماية وعملائها، مما نتج عنه “تحدّ واجه أغلب المؤرخين” هو “عدم اكتمال الصورة” بسبب غياب الوثائق والمراجع الصحيحة حول الحركة الوطنية التي لم تبدأ في مدينة واحدة، بل ظهرت شيئا فشيئا في العديد من المدن، وكانت الاحتجاجات التي تلت صدور ظهير 16 ماي 1930 محطّة مفصلية في نشر وعيها ولمّ شملها.
ومن أجل تسليط الضوء على هذه اللحظة، عادت أولى الحلقات، على لسان القادري، إلى تاريخ الجيران والاستعمار الذي لحقهم، في الجزائر وتونس، بعد التوسّع الاستعماري الأوروبي الذي تلا الثورة الصناعية، وفتح باب التبشير بالمسيحية في شمال إفريقيا والتجنيس، وسنّ قوانين في الجزائر طموحها الفصل بين الإسلام واللغة العربية والأمازيغ، بتصوّر منظّر له في كتب علماء اجتماع وإناسة وتاريخ.
وتستشهد الحلقة بدروس تلقّاها المراقبون الفرنسيون من لدن أساتذة من بينهم الجاسوس وعالم الاجتماع ميشو بيلير، الذي كان يقدّر أن الإسلام عند الأمازيغ قشرة فارغة؛ بينما هذه الفئة المغربية، كما صوّرها معزولة، مستمرة على طقوسها وعاداتها القديمة السابقة للإسلام.
ويتحدث البودكاست عن “السياسة البربرية” كما سماها الاحتلال الفرنسي، التي كانت محاولة فرنسة المغرب، بقرار المقيم العام الماريشال ليوطي إنشاء لجنة البحوث البربرية، التي ضمت مدراء وخبراء في السياسة المحلية، منهم بول مارتي، مدير التعليم بالمغرب، الذي طوّر برنامجا يقصد “خلق نوع من الاستقلال الذاتي للقبائل الأمازيغية”، منذ 1914، بخطوات مسطّرة وموثَّقة للتقليل من قوة الإسلام والحد من انتشار اللغة العربية بتصوّر أنها “عامل كبير في الإسلام”، وبالتالي إعاقة للفرْنَسة، والتبعية الدائمة للجمهورية، وهو ما كان من بين أفكاره أن “العرف البربري” وسيلة لإخراج قبائلَ مغربية من سلطة السلطان، حتى تصير جزءا من فرنسا.
في هذا الإطار، طفا على سطح المغرب ظهير سلطاني يمهّد للحكم بـ”الأعراف المنفصلة عن الشريعة المطبقة في محاكم المغرب”. وكان هدفه الحقيقي، وفق الشهادة المذكورة، “تسهيل السطو على أراضي الفلاحين المغاربة، بتأسيس محاكم فرنسية خاصة، وإضعاف صلاحية المحاكم الشرعية المغربية، خاصة في القضايا العقارية (…) رغم توافق العرف الأمازيغي، عبر التاريخ المغربي، مع تشريع الإسلام”.
وصدر ظهير 16 ماي 1930 في سنة تحتفل فيها فرنسا بقرن من احتلالها الجزائر، وأوّل من نبّه إلى خطورته عبد اللطيف الصبيحي، الموظف في إدارة الأمور الشريفة، الذي كلف بترجمته، قبل نشره، وبدأ شرح أخطاره خاصة لأعضاء النادي الأدبي الإسلامي السلوي، في سلا والرباط.
ثم، خرج الظهير في الجريدة الرسمية يوم 16 ماي، وجرى التنسيق للتصدي له، فعنت، حسب تقييدات القادري، لعبد الكريم حجي في يوم 17 ماي فكرة الانتقال إلى مختلف دور القرآن بسلا طالبا منها قراءة “اللطيف”، مما نتج عنه استدعاؤه وفقيها بـ”المسيد” هو الفقيه بنسعيد من طرف المراقب المدني الفرنسي؛ لكن “الفكرة انتشرت”، فـ”أمر باشا سلا” بالاعتقالات لخنق الفكرة، ورغم ذلك، قُرئ اللطيف.
الصبيحي، بعد ذلك، سافر والتقى بشخصيات مغربية متعددة، فـ”بدأت الحركة التاريخية للطيف تنتشر”، بوعي نتج عن تلاوة دعاء للمسلمين يُقرأ عند نزول البلاء، مع طلب موحد “لعدم التفريق بين المغاربة” موجّه ضد هذا الظهير المدفوع من الاحتلال الأجنبي.
هذه الحركة ووجهت بقمع استعماري؛ فطردَ الصبيحي من وظيفته، ونفاه إلى مراكش، تحت سلطة الباشا الكلاوي، أبرز وجوه الصف الأول للحكم الموالية للاستعمار، واعتقل الخطيب عبد الله الجراري في الرباط، كما اعتقل بوبكر المالقي صهر الصبيحي بتهمة التمرد على السلطة، فكان أول سجين سياسي خاض إضرابا عن الطعام احتجاجا على السلطات الاستعمارية، وفي فاس اعتقل عبد السلام بن إبراهيم الوزاني خطيب القرويين وضرب العسكر رجله بـ”الفلقة”، وكذلك اعتقل محمد بلحاج فاتح الصفريوي، والزعيم السياسي محمد بلحسن الوزاني، مع استمرار الاحتجاجات وقراءة اللطيف في الدار البيضاء وتطوان وآيت سغروشن نواحي صفرو وآسفي وآيت يوسي وزمور وغيرها من مناطق المغرب.
ومن خطوات التصدي الاستعماري لهذه الحركة المغربية، رسالة كتبها، وفق القادري، “العميل الصدر الأعظم محمد المقري (…) ونسبها إلى السلطان (…) وصفت الوطنيين بالأطفال الصغار، غير الناضجين، وبأنهم ينشرون أنباء كاذبة حول ظهير 16 ماي 1930، وقرئت في مساجد 11 غشت بسلا والرباط وفاس ومدن أخرى”؛ لكن كانت النتيجة تشبثا أكبر بالموقف، واجتماعا يوم 22 غشت بفاس لمائة من أعيان المدينة عيّنوا عشرين شخصية لرفع مطالب للسلطان، منهما شخصان تحفّظت الحماية الفرنسية على أن يكونا ضمن الوفد القادم للقصر هما علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني، لسبق اعتقالهما في الاحتجاجات ضدها، علما أن سلا والرباط قد رفعتا عرائض مكتوبة بدورهما إلى السلطان، في ظل استمرار التجمّع في المساجد، وتشديد المستعمر عقوبات السجن والنفي.
ولم تقتصر التنديدات والمواقف على داخل البلاد؛ بل امتد صوت “اللطيف” إلى خارج المغرب عبر وطنيين، من بينهم الحسن بوعياد الذي نقل تفاصيل هذه السياسة الفرنسية في محاضرة بالقاهرة المصرية، ونتج عنها تضامن صحافيين وأدباء وفقهاء من الأزهر، ثم تضامن من فلسطين، قبل احتلالها من لدن إسرائيل، ودول أخرى. كما وصل واقع المغاربة إلى الرأي العام الفرنسي عبر طلبة مغاربة بباريس؛ مما أثمر زوبعة واحتجاجات دفعت الاستعمار إلى إلغاء “الفصل السادس” من الظهير، الذي كان قد أعطى للمحاكم الفرنسي الحق في التدخل في قضايا المناطق الأمازيغية، لتشكّل هذه المرحلة من سنة 1930 بداية وعي مختلف، فردي وجماعي، في تصوّر المستقبل، والعلاقة بالاستعمار الأجنبي وسُبُل مقاومته، قاد في النهاية إلى الاستقلال، مع تكامل المقاومة المسلحة، والكتابات، والوعي التربوي، والاحتجاجات، والمفاوضات، وتأليب الدول على الاحتلال.