بوصوف يستحضر عبقرية وبصيرة الملك محمد السادس في قيادة الأجيال
يرى الدكتور عبد الله بوصوف، خبير في العلوم الإنسانية، أن السرديات والأدبيات الغربية التي اشتغلت على “ثيمة” نشر ثقافة التبخيس وتقزيم شخصيات خارج الدائرة الغربية كثيرة جدا، وعملت على ترسيخ أن لا ثقافة تعلو على ثقافات المجتمعات القوية والمهيمنة، وأن التاريخ يكتبه المنتصرون وحدهم، وأن الغرب هو المعلم حسب الطهطاوي.
وأشار بوصوف، في مقال توصلت به هسبريس بعنوان “الملك محمد السادس.. عبقرية وبصيرة وقدوة للأجيال”، إلى أنه “من واجب كل ذي قلم حي وضمير يقظ أن يسلط الضوء على نتائج دراسة السياسات الخارجية المغربية في عهد مهندسها الملك محمد السادس، بلغة مفهومة خالية من شوائب الاحتمال والشك”.
وسجل الكاتب المغربي أن “صورة المغرب بالخارج تغيرت بدون شك في العقدين الأخيرين، خاصة على المستوى الإفريقي بعد العودة إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، وكذلك على مستوى دول الغرب مع تحديد اتجاه البوصلة نحو مغربية الصحراء وتحديد موقفها بشكل غير قابل للتحوير أو التمطيط”.
نص المقال:
كثيرة هي السرديات والحوليات والأدبيات الغربية التي اشتغلت على “ثيمة” نشر ثقافة التبخيس وتقزيم شخصيات خارج الدائرة الغربية، والعمل على “التطبيع” على أن لا ثقافة تعلو على ثقافات المجتمعات القوية والمهيمنة، وأن التاريخ يكتبه المنتصرون وحدهم، وأن الغرب هو المعلم حسب الطهطاوي.
وهي هنا توظف معايير مزدوجة؛ فتوثيق وتمجيد تاريخهم وتراكماتهم وشخصياتهم القيادية والدينية هي ضرورة تاريخية وعلامة حضارية، في حين يتم توصيف الفعل نفسه بالاصطفاف والتملق والنفاق وهلم جرا وكأننا ملزمون بالاستشهاد فقط بفلاسفتهم ومفكريهم وقادتهم الدينيين والعسكريين… وهنا طرح سؤال كبير: لماذا نكتب التاريخ؟
قد لا نذهب عميقا في الغوص عن شخصيات مغربية كانت لها الكلمة الأخيرة في مواضيع الحرب والسلم والمبادلات، وأخرى غيرت مجرى التاريخ.
اليوم نجد أنه واجب على كل ذي قلم حي وضمير يقظ القيام بتأملات متأنية وبلغة مفهومة خالية من شوائب الاحتمال والشك وهي تقوم بدراسة زوايا السياسات الخارجية المغربية في عهد مهندسها الملك محمد السادس.
لقد تغيرت وبدون شك صورة المغرب بالخارج في العقدين الأخيرين؛ أولا على مستوى العمق الإفريقي، وهنا نستحضر بقوة خطاب العودة بأديس أبابا في يناير 2017 عندما عاد الملك ومعه المغاربة إلى البيت الإفريقي، وهي عودة القوي مهاب الجانب والابن البار الذي عاد بمشاريع وبرامج استراتيجية تحت اسم رابح-رابح، وحمل معه آمال السلام والتنمية لكل شعوب إفريقيا، ولم يحمل معه أرقام المدافع وميزانيات التسليح، بل فقط مشاريع ضخمة في مجالات البناء والفلاحة والبنوك، وخلق المرصد الإفريقي للهجرة بالرباط، وبناء المساجد وتكوين الأئمة الأفارقة بالمغرب.
ولأن دموعه يوم خطاب العودة كانت صادقة، فقد عاد سنة 2023 بمشاريع استراتيجية قوية، منها خلق إطار دولي لدول الجهة الأطلسية لإفريقيا، وأيضا تخصيص منفذ بحري أطلسي لدول إفريقيا الساحل، وأنبوب الغاز نيجيريا/المغرب.
كل هذه المشاريع تحمل في مضمونها التنمية الاجتماعية والاقتصادية والأمن والسلام لشعوب إفريقيا، التي أنهكتها الصراعات الداخلية والحروب والهجرة وندرة الماء والتصحر والفقر والأوبئة وغيرها.
فالمتتبع لهذه السياسات سيقف على وجود تصور مسبق وبرنامج مسطر منذ مدة طويلة وبصيرة عميقة، وأن الأمر لا يتعلق بحسابات سياسية ضعيفة أو ردا على هذا الفاعل الإقليمي أو ذاك.
وثانيا على مستوى دول الغرب مع تحديد اتجاه البوصلة نحو مغربية الصحراء وتحديد موقفها بشكل غير قابل للتحوير أو التمطيط.
وهكذا، فاعتراف أمريكا بسيادة المغرب على صحرائه لم تكن ضربة حظ، إذ العلاقات والمصالح والخرائط والسفراء بين البلدين تعود إلى قرون، ويكفي القول إن المغرب كان أول من اعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن الولادة الجديدة للعلاقات المغربية/الاسبانية بعد زوبعة بن بطوش زعيم شرذمة البوليساريو، كان لها طابع آخر، باعتبار إسبانيا الدولة المستعمِرة السابقة للأقاليم الصحراوية المغربية، وهذا يعني أنها تحتفظ بتاريخ وخرائط وشيوخ قبائل المنطقة… أضف إلى ذلك أنها تستضيف العديد من الجمعيات الانفصالية واعترافها بمغربية الصحراء هو “الرصاصة القاتلة” لأطروحة زعماء الانفصال سواء بتندوف أو العاصمة الجزائر أو بإسبانيا.
وهنا أيضا نعود للوقوف على عبقرية مهندس السياسات الخارجية المغربية الملك محمد السادس، وتوقيع العديد من الاتفاقيات مع إسبانيا، خاصة المتعلقة بالمشاريع الاقتصادية والاجتماعية والبنية التحتية، إذ كان الهدف هو خلق مناخ صحي مشترك للتعاون وخلق شراكات استراتيجية مهمة هدفها التنمية والأمن والسلام، فيما تتكلف لجان ثنائية بدراسة المشاكل العالقة.
وفي 4 أكتوبر 2023، سيبشر جلالة الملك محمد السادس الشعب المغربي بتحقيق حلمه القديم والكبير، وهو تنظيم مشترك بين المغرب وإسبانيا والبرتغال لكأس العالم لكرة القدم لسنة 2030، وهنا نستحضر من جديد التاريخ المشترك الكبير لكل من المملكة الشريفة وإسبانيا والبرتغال، وكل تلك الأحداث الأليمة التي عرفتها المنطقة من حروب وصراعات وهجوم واستعمار ومقاومة.. وبمعنى آخر أن البلدان الثلاثة جربت طيلة قرون وصفة الحرب والاستعمار والقرصنة أو الجهاد البحري، وعرفت تطور الأندلس ثم طرد سكانها المسلمين واليهود ومحاكم التفتيش، وتكفي ذكرى معركة الملوك الثلاثة وتداعياتها السياسية والاقتصادية التي عرفتها المنطقة ككل. وهذا التاريخ المشترك سيكون أحد مفاتيح تنظيم أحسن نسخة لمونديال كرة القدم.
بمعنى أوضح أن القادة قد حسموا في طبيعة علاقة المراحل القادمة وأن وحدات الإنتاج المشترك والتعاون الأمني حزامُ أمان، سواء للبلدان الثلاثة أو لإفريقيا والبحر المتوسط، وأن وصفة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمجالية في صلب كل تلك الاتفاقيات، وأن تنظيم المونديال مقدمة كبيرة لمستقبل أفضل لشعوب المنطقة.
أعتقد أنه لا يمكن لكل قارئ جاد وموضوعي إلا أن يقف احتراماً لعبقرية مهندس السياسات الخارجية المغربية الذي جعل من تحقيق التنمية المجالية والمستدامة عن طريق شراكات وعلاقات ندية ملؤها احترام السيادة المغربية وحدوده الحقة، غاية الغايات.
وإذا كانت بعض الدول الغربية قد جندت مفكرين ومؤرخين وإعلاميين وأقلاما مميزة لتوثيق تراثهم وتمجيد قادتهم وتقديم “سرديات” وقراءات تاريخية من جانب واحد، إذ جعلوا مثلا من خطة وزير خارجية فرنسا “روبير شوبان” في 9 ماي من سنة 1950 المتعلقة بخلق مشاريع إنتاج مشترك في مجالات الصلب والفحم مع ألمانيا حتى يختفي شبح الحرب بينها وتصبح مستحيلة، (جعلوا من ذلك اليوم) عيدا أوروبيا.
لقد عبر ملك البلاد في أكثر من مناسبة عن أننا لا ننتظر شهادات حسن السيرة والسلوك من الآخرين. لذلك، يجب ألا نتوقف عن التوثيق وخلق تراكمات خاصة بكل المراحل حتى لا نجعل الأجيال القادمة أمام سرديات وحيدة كتبت عن المغرب بأقلام غير مغربية. كما أنه من حق تلك الأجيال التعرف عن قادتها وملوكها الذين ساهموا بكل قوة في خلق ذلك التراث الحضاري والتراكم التاريخي والإنساني، وفي ذلك تقوية للانتماء للوطن وترسيخ لقيم الفخر والولاء و”أن هنا نحيا”.