مشاركة “كناوة تنغير” تنهي “الإقصاء”.. وربط “كنكة” بالشعوذة خبل
قال مبارك الحوزي، رئيس “جمعية كناوة للتراث الثقافي بوادي تودغى” رئيس ومنسق كناوة وادي تدغى، إن مشاركتهم لأول مرة في مهرجان كناوة وموسيقى العالم تمثل نوعا من التصالح مع فن الهامش، خصوصا الجنوب الشرقي حيث ينتعش نوع مهم من كناوة ينتمي إلى تراث يتسم بثقل القرى وظل محصنا من الكثير من التحديثات التي همت كناوة في أقطار أخرى لاسيما في المدينة، مسجلا أن المشاركة إشعاع أولي يكرس حلم الأداء فوق منصة الصويرة.
وأكد الحوزي، ضمن حواره مع هسبريس، أن مسار الانفتاح والتخلي عن بعض التقاليد الصارمة سيكون ممكنا في أفق اعتماد “الكمبري”، الذي يعد “الآلة الأصل في ممارسة كناوة المدينة”، لافتا إلى أن “الغرض الأساسي أولا هو التعريف بكناوة القرى التي ظلت تتحرك في مساحات “جد ضيقة” في الهامش بالمغرب الشرقي، في أفق الالتقاء مع جماهير أخرى في فعاليات أخرى في الصويرة وفي أقطار خارجها.
نص الحوار:
“كناوة تنغير” تشارك في مهرجان كناوة وموسيقى العالم لأول مرة. كان هذا مطلبا فاقم سابقا نوعا من الشعور بـ”الإقصاء” و”الحيف”. هل هي بداية “تصالح” التظاهرات الثقافية الكبرى مع “الهامش”؟
بالنسبة إلينا، هذه المشاركة تنطوي على أهمية كبيرة. هي نوع من الإشعاع ومن الاكتشاف. وهذا بالتبعة نجاح كبير لتوقيع “كناوة البادية”. لقد كانت حلما أصبح حقيقة. سبق لنا أن أرسلنا طلبات عديدة إلى جمعية يرمى كناوة من أجل المشاركة في هذا المهرجان؛ ولكننا لم نوفق. الأمر نجح هذه السنة، وهو ما سيمنحنا شحنة كبيرة، لأن المشاركة في مهرجان الصويرة هي انفتاح على العالم، وتمكين لنا من أجل اكتشاف مجموعات أخرى. ولكن رهاننا نحن وراء هذه المشاركة هو أن نفلح في تقديم مميزات المجموعات الكناوية التي تمارس في الجنوب الشرقي. وستكون بالنسبة إلينا تشجيعا للعمل أكثر والانفتاح أكثر، بل ستكون محفزا للاجتهاد لتمثيل الجنوب الشرقي أحسن تمثيل في المحافل المستقبلية.
فرقتك لديها عرض هذه السنة ضمن فعاليات المهرجان؛ لكن أحد الأحلام المرفوعة لدى “كناوة القرى” هي أن يكون الأداء فوق منصة مهرجان كناوة. لكن الأمر يتطلب المزيد من الانفتاح على “الكمبري” والأداء لأوقات طويلة؟
هذا حلم مشروع؛ وفرقتنا سبق لها أن قدمت عروضا فوق المنصة، خصوصا في مسرح محمد الخامس بالرباط وفي السهرات التلفزيونية أيضا. لكن تقاليدنا تختلف وهي أننا نتحرك وفق منظومة صارمة للعب الجماعي، والرهان يكون دائما متصلا بالمساحة المتاحة لهذا التحرك. في الوقت الحالي نبتغي التريث والتدرج، ونعتبر الهدف الأول مرحليا هو المشاركة في المهرجان قبل الصعود فوق المنصة. هذه المشاركة الأولى ستنفتح عليها الصحافة لا شك، وستقرب المغاربة الحاضرين والمتابعين عن بعد من لون آخر من كناوة يسمى “كنكة”. وهو تراث كناوي ثقيل ينتعش بقوة في المغرب الشرقي، لكنه ظل مهمشا في المهرجانات الكبرى. المشاركة مكسب كبير هي بداية انفتاح وبوابة والمشاركة فوق المنصة.
هذا الانفتاح، كما أشرت في سؤالي، سيتطلب التخلي عن “طقوسية صارمة” تعرف بها “كناوة البادية” وسيتطلب كذلك اعتبار “الهجهوج” عنصرا أساسيا يزاحم الطبول التي هي أصل الأداء في الجنوب الشرقي؟
هذه نقطة مهمة، ونحن واعون بهذا الافتتاح. ولذلك، لدينا في فرقتنا “معلم” يتقن “الهجهوج” أو “الكمبري” بشكل جد احترافي. حاليا، يتم الاشتغال بهذه الآلة الطارئة علينا في المناسبات العائلية والحفلات المحلية والشخصية، إلخ. وأود أن أسجل أن أحد أهم الفروق بين “كناوة المدينة” و”كناوة القرية” هو الآلات المعتمدة. نحن نعتمد أساسا الطبول والقراقب، بينما المعلمية في المدينة يمنحون الأولوية للهجهوج؛ ثم هناك فرق آخر يتعلق بطريقة اللباس، وهي أن لباسنا موحد وطقوسنا تكون في وضح النهار ونادرا جدا ما نمارس في الليل. أما ما يسمى بـ”الليلة الكناوية”، فهو شيء لا يوجد داخل حقل كناوة الخاصة بنا.
وأود أن أشير إلى طقوس تخصنا تكون بعد موسم “الحصاد والدرس”، وتكون حينها خرجات كناوية وجولات في الدواوير القريبة لمدة شهر ويتم من خلالها جمع المساعدات لأجل تنظيم موسم “دردبة” السنوي بعد العودة من زيارة للا ميمونة بمصيصي. في السابق، كانت تجتمع كل كناوة الجنوب الشرقي وتفد من الخملية وزاكورة وتودغى إلى مصيصي. حتى قبائل آيت عطا تأتي وتقوم بذبح ناقة بيضاء كرمز للسلام والمحبة والأخوة والتعايش مع “إسمخان” الذين يمارسون كناوة.
وحتى أعود إلى السؤال، أعتقد أننا سننفتح أكثر، وسنبدأ باعتماد الهجهوج؛ لأنني كنت في السابق صارما حتى أستطيع الحفاظ على عمقنا الكناوي وخصوصيتنا في الجنوب الشرقي، لكن هذا الانفتاح سيكون مضبوطا حتى لا يبتلع ما وجدناه في سياقنا التداولي. الأساسي بالنسبة إلينا هو اللون التراثي التقليدي المحض.
تحدثت عن التعايش بين “إسمخان” وقبائل آيت عطا، وهو ما يحضر أيضا في اللغة الأمازيغية، التي دخلت إلى أهازيجكم؛ لكن هناك ترانيم أحيانا غير مفهومة، هل يمكن التخلي عنها لتقاسم محتويات اللغة الكناوية الخاصة بكم مع الجماهير الواسعة؟
أحبذ أن أشير هنا إلى أن الأداء متوارث، هناك تجديد طبعا؛ لكن الألحان والغناء متوارثة ومعروفة لدى كناوة الجنوب الشرقي.. أدخلنا التحديث في الأداء، أما الكلمات فهي ذات أصل إفريقي وأخرى أمازيغية، وهناك كذلك كلمات عربية، وكلمات طبعا غير مفهومة وأصلها غير معروف. لكن هذا الفن يشتغل على ما هو روحي أكثر. على النفسي والاجتماعي والإنساني. وأنا كباحث في تراث كناوة أحاول التجديد والجمع بين الصيانة والمحافظة، وكذلك الانفتاح والإبداع والتجديد. في سبعينيات القرن الماضي، كان هذا اللون مهددا بالانقراض؛ لكنه عاد بفضل الجهود التي تم بذلها، وهو ما يستدعي المزيد من التأهيل.
هذا اللون لديه مميزات وأعراف، وليس أي أحد يمكن أن يدخل للعب في مجموعة “كنكة”. هي صعبة بطبيعتها. ففي سن سبع سنوات، من الضروري أن يتعلم الطفل الأداء الكناوي ضمن مجموعة صارمة لا تترك هامشا لإفساد العرض. التعلم كان يتم عبر مراحل تبدأ بالقراقب والطبول؛ لكن الآن أصبح التعلم سهلا نوعا ما.
ألتقط إشارتك إلى كونك باحثا؛ لأثير معك هذا الاتجاه نحو إنشاء “كرسي كناوة” في جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية.. ألا تعتبر أن هذا الكرسي يمكن أن يقوي الاهتمام بتراث “كنكة” في مسار معالجة المسألة الكناوية بالمغرب في كليتها؟
طبعا، لا بد أن يكون الاهتمام بهذا اللون. وأنا أسجل أن السياقات اليوم تغيرت. في السابق، حين كنت أنجز بحث التخرج في أكادير سنة 1994، كنت أجد صعوبات كثيرة بسبب ندرة المراجع وفقر الدراسات التي اهتمت بكناوة في الجنوب الشرقي. اعتمدتُ حينئذ على الرواية الشفوية أساسا. صححت فيه أشياء كثيرة؛ ولكن هذا الكرسي سيكون بمثابة ميزة وقيمة مضافة بالنسبة للباحثين. ما زال هناك سوء تقدير كبير حين يتعلق الأمر بكناوة كموضوع للبحث العلمي. وكمثال بسيط، فنحن، الأنثروبولوجي الفرنسي إروان ديلون وأنا، حين أنهينا الاشتغال على كتاب “كناوة للا ميمونة”، لم نجد له ناشرا بالمغرب رغم أهميته البالغة؛ لكن حين اتصلنا بدار نشر فرنسية قبلت النشر في غضون 48 ساعة، هذا يطرح أسئلة عديدة.
في المغرب هناك حيف كبير. وحتى على مستوى المنطقة ليس هناك اهتمام كبير بالموضوع. ماز الت “كنكة” تعد ترفا فكريا أو ثقافيا، والحال أنها ممارسة عريقة لها أهمية سوسيولوجية وأنثروبولوجية بالغة. لذلك، أعتبر مشاركتنا في هذا المهرجان العالمي هي مرحلة جديدة من تعاطينا مع الفن الذي نتقنه وينتمي إلى ثقافتنا المشتركة.
لكن، هناك ملاحظة بأن “كناوة القرى” ترتبط عند البعض أكثر بالشعوذة والسحر والدجل. ألا يشوش هذا على هذا المسار التواصلي الذي تخوضونه بحدة للتعريف بفنكم المحلي؟
حتى أكون صريحا، هذه الصورة النمطية المزعجة صادفتها مرارا وتكرارا. الذين يدفعون بهذا الطرح هم لا يعرفون قيمة في التراث الذي نحافظ عليه. هناك من يعتبر جمع مساعدات موسم “الدردبة” “تسولا”، وهذا خبل؛ لأن القائل به لا يعرف أن تلك المساعدات هي بمثابة مخزون يوفر جزءا من الغذاء للزوار والوافدين على الموسم من كل أقطار درعة تافيلالت بشكل يومي وروتيني. هذا عمل تضامني وإنساني؛ لأن الأبواب تكون مفتوحة أمام الجميع، ولا يشعر أي أحد بأنه غريب.
دعني أقدم معطى آخر يبين محنة التنميط التي نواجهها. يوجد جبل كبير علوه يبلغ 1400 متر. الرواية الشفوية (أو الأسطورة) تقول بأن “للا ميمونة” مرت من هناك، وأدت فريضة الصلاة، وقضت الليلة في المكان نائمة، ثم استيقظت واستأنفت مسارها. هذا يعتبر عند من ينظر إلى الأمر من خارج الثقافة المحلية كـ”خرافة” و”عبادة للأوثان” و”تبرك بالأصنام” إلخ.. لكنه في عمقنا نحن مختلف. نعد الزيارة تعارفا وتآزرا وصلة للأرحام. الجميع يلتقي في هذه النقطة.
في ثقافتنا، هناك تدابير صارمة لدينا تجاه الآخر، الذي نكن له احتراما كبيرا، كيفما كان نوعه. نحن نقدس قيمة التضامن بين الناس. وخلال موسم للا ميمونة، يصبح الكل سواسية. وقد سجلنا أن الناس باتت تستوعب المغزى من هذه الزيارة، بحكم فورة التواصل التي سهلت هذه التجمعات في الجبل.