الأشعري في قصص “الخميس”.. كاتب حاذق وماهر في صنع الألاعيب السردية
1
أفترض – وافتراضي هذا قابل للدحض والمراجعة – أنه لكتابة القصة القصيرة حوافز ودوافع اعتبارا لكون عالم القصة يكشف بتكثيفه للحظات من الوجود عن تأملات في بعض مُعضلات الحياة، مثل الموت والحب واليأس والفرح والسعادة… القصة نافذة مُشرعة على مُدن وسماوات ولغات وأرياف وأحلام ووُجوه وأقنعة؛ بعبارة أخرى القصة ابتكار لأسطورة جديدة.
المواضيع والتأملات التي أشرتُ إليها سابقا تناولَها كُتاب من كل الآفاق والثقافات، إلى درجة يمكن القول معها: قيل كل شيء ولم يعد هناك ما يقال، ورغم ذلك يُعيد الكتاب سَرد حكايات قديمة بطريقة جديدة فيها من ثراء التجربة وصفاء الإحساس ما يجعلها دوما حكايات مُتعالية عن زمنها، كوْنية ومُدهشة في آن.
2
كتب محمد الأشعري كل قصة من قصص مجموعته القصصية الجديدة (الخميس، دار نشر المتوسط 2024) وفكرتها واضحة لديه، واضح مُجراها ومُرساها، اختار لكل قصة شخصية تحكي بعض ما عاشته من خلال تفصيل صغير كان له وقع ضاغط على الكيان. وهذا ما جعل شخصيات هذه المجموعة مألوفة وصادقة في ما تنقله من أحاسيس أو تعيشه من تهميش؛ عن بعض هذه الشخصيات أحدثكم:
منذ فتح السارد عينيه -في القصة الأولى من المجموعة (ريكله وجدتي) -على الحياة في مدينة مولاي إدريس زرهون، تعوّد على التعايش مع المجانين في أصناف مختلفة، مسالمين، عنيفين، غائبين، ساهمين، قوّالين مُلْغِزِيْن، أو متوارين صامتين، جذّابين لشغب الأطفال، أو مرعبين لا يقربهم أحد. والغريب أنهم يقاسمون الفضاء العامّ المشترك، ويساهمون في إنتاج ذاكرة المدينة وخيالها. إنهم هنا بأمر (إلهي) لا تجوز المنازعة فيه، وفضلاً عن ذلك فلهم بركات خفية وعلنية هي التي تجعل المدينة آمنة مطمئنّة، يأتيها رزقها من كلّ مكان. نتعرف في هذه القصة على حادثة المرحوم “حموصة” الذي أقسم بأغلظ الأيمان وبأعلى نبرات صوته الحادّ، وأعوان السُّلطة يُدخِلُونه قسراً في الحافلة، أنه لن يموت إلّا في هذه المدينة، أَحَبّ مَنْ أَحَبَّ وكَرِهَ مَنْ كَرِهَ. وحصل أن مات بالفعل في اليوم التالي وهو نائم في ظلّ الحافلة التي رجع فيها من مِكْنَاس، فخرجت المدينة كلّها في جنازته احتفاء بكرامته، ونكاية في السُّلطة.
كانت مدينة رائعة حقّاً تلك التي عشنا فيها لا نفرّق بين عاقل ومجنون، ونصادق من الأساطير أكثر ممّا نصادق من الناس.
حكمة القصة أستخلصها من اعتراف السارد: الحياة مزيج دقيق ممّا يحصل فعلاً وممّا نتخيّله.
في قصة (المحيط) شخص يثير استغراب السارد، لا يخرج إطلاقاً عن مساره في شارع المقاومة، يغذّيه بالصوت والخطى، وما إن يظهر لي حتّى يختفي وراء سَحْنته الأخرى. من الشخص إلى المدينة التي مهما لحقتها من تبدّلات ومهما روّضتها «إعادات التهيئة» فإنها مازالت قادرة على إنجاب «المجاذيب»، تلك العُملة التي انقرضت تماماً من الفضاء العامّ. ها هو مجذوب من أزمنة مركّبة يقتحم مدينة الأنوار، يتوهّم أنّه يذرع الشارع جيئةً وذهاباً وهو لا يمشي سوى داخل نفسه، ويتوهّم أنه يغنّي للناس، وهو يكتم أصواته الداخلية فلا يتسرّب منها سوى الصَّدى.
يرصد السارد في قصة (الخطاب الأخير) لحظة تلقيه نبأ وفاة عبد الرحمان اليوسفي وتوصله بنعيه صبيحة اليوم التاسع والعشرين من شهر ماي 2020، كان نعياً مجهول المصدر، حملته رسالة في “الواتساب” تقول إن عبد الرحمان اليوسفي قد انتقل إلى رحمة الله صبيحة هذا اليوم، وبعد مكالمة هاتفية واحدة لم يعد هناك أدنى شكّ في ما حصل … فجأة ستبدو هذه اللحظة التي كانت تقع بين الاحتمال والاستحالة لحظة مغرقة في واقعية مبتذلة لا تقبل أيّ اندفاع بلاغي.
ولا يتردد السارد في القول بصريح العبارة أو بالعبارة الصريحة إنه كان هناك خطأ شنيع في اتّخاذ الوباء ذَريعة لدفن الفقيد بدون مراسيم ولا جموع حاشدة ولاَ وداع وطني! إن الأمر لا يتعلّق بما كان سيرغب فيه أو سيفعله، الأمر يتعلّق بفهمنا للطقس الجنائزي، كأحد التعبيرات الأساسية في وجودنا وعن طريقتنا في بناء الذاكرة المشتركة.
وأغلب الظنّ أن الفقيد كان سيحبّ كثيراً أن تنظّم له جنازة عظيمة، كتلك التي ابتكرها الشعب لرفيقه عبد الرحيم بوعبيد، وألقى فيها هو بقَسَمه العظيم ألا يحيد عن طريق النضال من أجل الديمقراطية. كان سيحبّ ذلك أكثر من الشارع باسمه والفوج العسكري باسمه، والقبلة على الجبين والعناية الفائقة. هكذا هي الأمور، هناك نوع من الناس لا يحتفظ لقبره إلّا ببهجة الوداع الأخير.
حكمة القصة: يا اللّه، ما دمنا ندفن فلندفن كلّ شيء!.
في قصة (حلم ليلة واحدة) يختلط على السارد الشعور بأنه أحيانا لا يغادر نفسه وتبدو له أحيانا أخرى أناه شخصا آخر، لحظات صافية وصادقة تصفها القصة من خلال لقاء عَجوزَيْن بعد مرور ثلاثين سنة على لقائهما العابر؛ كانت هي تحب أن تعيش تجربة الحبّ، والألم، واليأس، والظلم، والهدوء بعد العاصفة واليأس، أما هو فلم يعرف شيئاً من هذا على الإطلاق. قصة مشهدية ومسرحية في آن تسترجع العلاقة والحلم والملامح والجلسات والكلمات، قصة اعترافات نابعة من الدواخل حكمتها: علاقات تولد ونخالها باقية إلى الأبد حتّى بعد موتنا، لكنها سرعان ما تندثر، وعلاقات نجتثّها، نقطع جذورها وأوصالها، فتعود لتُزهر ثانية وثالثة وفي كلّ مرّة؛ وعلاقات نعتبرها سحابات عابرة تُفاجئنا باستمرارها حيّة يانعة.
في قصة (النسيج) حُبّ يقظان لفاطمة خادمته منذ خمس سنوات؛ بعد بضعة شهور فقط من عشرتهما الهادئة صارت حبّ حياته، جنّته السرّية التي يقطف منها ثمار الخلود الأسطورية، وربّما تصبح بعد قليل فردوسه المفقود .كان متيقّناً يقيناً تامّاً أنه سيموت سعيداً بين ذراعَيْها، إنها تحبّه بأعمق وأصفى ما يكون عليه الحبّ، وتغدق عليه من أطاييب عشقها، ما يجعله يقبل على مغادرة الحياة بشهية روحية لا يقدر على وصفها، ولا يستطيع التعبير عنها إلّا بذلك التعبّد الخاشع الذي يناجي به ربّه مساء كلّ يوم، حين يأوي إلى فراشه وهو يدرك أن الله راض عنه، وإلّا ما كان ليُنظّم نهاية حياته بهذه اللمسة البهية.
سؤال القصة: ماذا يركِّب بخياله؟ وماذا يُشَيِّدُ بذاكرته؟ وهل هناك حياة أخرى غير تلك التي نستطيع أن نتذكّرها؟ وماذا نتذكّر، حياتنا أم نُتَفاً من حياة الآخرين؟.
3
أفترض – وافتراضي هذا قابل للدحض والمراجعة- أن كل قصة من قصص هذه المجموعة (وقد ألمحت فقط لبعضها تاركا للقارئ متعة اكتشاف عوالم بقية القصص) تزاوج بين القصة الحقيقية وتلك الموغلة في التوهم، والقصد من ذلك التأكيد على أهمية الحاجة إلى التجربة ورمزية القصة؛ كأني بشخصيات هذه المجموعة تحكي بصدق عن الكذبة القابعة في أعماق كل واحد منا.
القصة في مجموعة (الخميس) مساحة لحكي المؤجل، لذلك تمتلك الكتابة بعدا شعريا كامنا بين الممكن والمستحيل، بين الرغبة واليأس، واللذة والألم.
محمد الأشعري في مجموعته القصصية (الخميس) لا يكتب، بل يرسم قصصا لا تمتلك مساحة شعورية زائدة أو فائضة، أو تحليقا رمزيا ومجازيا حتى في وصفها لأقسى اللحظات، ليتأكد لكل من يقرأ هذه المجموعة أن الأشعري كاتب حاذق وماهر في صنع الألاعيب السردية، يعرف اختيار الشخصية المناسبة للموقف المناسب، فيبني عالم الحكاية من دون عمَد؛ كأني به وهو يكتب يتسلّى، فأتت قصص (الخميس) مُحكمة الصنع، فسيحة الأفق بما هي امتداد لأفق أوسع هو المجتمع بكل تناقضاته.
4
تناغم داخلي يربط بين قصص (الخميس) في وصفها لعوالم آتية من طفولة كاتبها وعلاقاته وصداقاته ومشاهداته اليومية: إنها وصف لحيوات تُعبِّرُ عما يخالجها من أوهام وشكوك ويقينيات بتكثيفها للحظات من تجربة ذاتية تستكين لقيم إنسانية رحبة، تنقلها شخصيات صريحة في سعيها إلى تبديد العتمة المحيطة بها، ولذلك لا تتردد في التساؤل: هل نحن من نتغير أم العالم من حولنا؟.
(الخميس) قصص كتبها الأشعري بحكمة العارف بكتابة الطّرس التي تجعل كل نصّ يبذُرُ داخله نصا آخر، لذلك فهي مكتوبة بأسلوب حُرّ مباشر يُحوّل كل ماضٍ بسيطٍ إلى لحظة متشابكة من العلاقات الاجتماعية والعاطفية.
لا يرجع كل سارد من سراد قصص (الخميس) خاسرا حتى في أعنف المواقف بتوتراتها وجاذبيتها الغامضة أحيانا، فوراءها مواقف وحِكمٌ تدعونا لقراءة المجموعة باعتبارها قطعةً من الحياة بفواجعها ومهازلها؛ هي نصوص منفتحة على بعضها البعض، متعانقة ومتقاطعة فيها قدر من السخرية، والسيرة الذاتية والغيرية، والتاريخ، والسرد الروائي.
قراءة ممتعة.