بلقزيز يمسك بمفتاح فهم “سياسات الغرب” وتراثه الفكري أمام “محرقة غزة”
في تحليل مفتاح لفهم مواقف وعمل “الغرب” في ظلّ “محرقة الفلسطينيين” التي تستمرّ في ارتكابها دولة الاحتلال الإسرائيلي، وضع الأكاديمي المغربي عبد الإله بلقزيز “غربا في ميزان 7 أكتوبر”، ضمن أحدث أعداد فصلية “النهضة” الفكرية.
يأتي هذا بعد حدث “السابع من أكتوبر 2023″، الذي “معه وفي ركابه انطلق (طوفان الأقصى)”، واعتبره المفكر الذي أعلنته منظمة الألكسو شهر ماي الجاري “رمزا للثقافة العربية”، من “الحوادث الكبرى التي صنعت مسارا سياسيا وإنسانيا امتدّ على مدى شهور كان يكفي، بأهواله وبطولاته وحرائقه ودويّ صداه في آفاق الأرض، وبما حمل في جوفه من صبر وموت وتفجّع ونفاق، لاستيقاف الوعي ووخزه بمهماز تبعث وخزته على التنبّه (…) حدث لا يشبهه في هزّته العنيفة للوعي، في المسألة ذاتها، سوى حدث النكبة في 1948 أو حدث 5 يونيو 1967، وإن كانت وعود السابع من أكتوبر أبهى من حُلكة الحدثين هذين اللّذين أدخلا شعب فلسطين والعرب في نفق كالح لم يتبين في نهايته ضوء، ونشرت نتائجهما في النفوس كثيرا من مشاعر الخيبة وفقدان الثقة بالذات والائتمان بها”.
نظرة عنصرية استعمارية
كتب أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء أن “سياسات دول الغرب تلك تجاه الفلسطينيين والعرب ما برحت تُفصح، حتى الآن، عما يكتنفه جوفُها من نظرة استعمارية، عنصرية وتحقيرية كريهة، إلى مجتمعاتنا وشعوبنا وحقوقنا!”.
هذه الخلاصة احتجّ لها صاحب سلسلة “العرب والحداثة” بقرائن، من بينها: “إصرار دول الغرب على دعم العدوان، ماديا وسياسيا ومعنويا، وتبريره، وعلى حماية دولة الاغتصاب من القصاص القانوني الدولي على جرائمها البربرية باستخدام سلاح النقض في مجلس الأمن، والرفض القاطع من قِبَلها لأي وقف للحرب بذريعة الخشية من إفادة المقاومة منها لإعادة بناء قواها، وإمعانها في تجاهل الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وفي تجاهل وجود احتلال لأرضه بالقوة الغاشمة والتعامل مع المواجهة الحالية وكأنها بدأت في 7 أكتوبر الماضي لا قبل ستة وسبعين عاما، وإصرارها على إدانة الحركة الوطنية الفلسطينية وتزوير هويتها التحررية عن طريق تقديم المقاومة بوصفها ‘إرهابا’، ثم مشاركتها المباشرة في عملية الإبادة الجماعية لشعب فلسطين في غزة عن طريق الصمت عن جرائم الاحتلال والقتل الجماعي اليومي والتدمير الشامل للبنى ولشروط الحياة والتهجير القسري للمدنيين، وتبرير ذلك كله بمعاودة التأكيد على ‘حق إسرائيل في الدفاع عن النفس’”.
وتابع: “حرب السابع من أكتوبر لم تكن أول امتحان يفضح موقف الغرب، ويميط النقاب عن الفجوة الخرافية التي تفصل سياساته المطبقة تجاهنا عن المبادئ التي يزعم أنه متمسك بها وأنها حاكمة خياراته، إلا أن الحرب هذه مثّلت المناسبة الأكبر لوضع خطابه وسياساته موضع الاختبار الدقيق (…) ولقياس المسافة الخرافية بين مَقُولِهِ الإيديولوجي الكاذب وأفعاله السياسية النكراء، وتماديه في غيّ عقيدة المعايير المزدوجة. وكانت النتيجة مزيدا من انفضاح المخبوء العنصري والاستعلائيّ والعدواني في سياساته، بل في ثقافته السياسية الرسمية”.
“طوفان الأقصى” دخل، حسب قراءة بلقزيز، على خط “العلاقة المضطربة بين العرب والغرب، وأعاد اختبارها في مجرى امتحانه غيرها من العلاقات (…) علاقة ما كانت طيّبة منذ بدايات عهدها الحديث، يحتفظ كل طرف للآخر بصورة عنه في غاية السوء فيحشد لتبريرها من الشواهد أو الخيالات ما يفيض عن حاجة التسويغ، ويجهَد الجهدَ الكبير كي يبدو الضحيّة في علاقة معقّدة بآخَره”.
واسترسل الأكاديمي شارحا: “(…) علاقة سيئة تتغذى من مخزون صور نمطية متبادلة كوّنها كل فريق عن الثاني عبر أحقاب متطاولة، ومحطات من المواجهة متعددة، لكنها تجد أسبابها ودواعيها، في الوقت عينه، في جملة من الموارد والأزمات والعوامل القائمة في الحاضر: حاضر العرب وحاضر الغرب معا، وهي تتبدى لدى كل طرف في صورة مشكلات”.
ووضّح الكاتب أن “مشكلة الوطن العربي” تبدو في وعي الغرب “مجسَّدة في عناوين أربعة: الإسلام، النفط والغاز، الهجرة، ‘الإرهاب’ (…)”، بينما “في المقابل، تبدو مشكلة الغرب في الوعي العربيّ متمثلة في عناوين أربعة: الهيمنة الاقتصادية، الهيمنة السياسية، العنصرية، دعم ‘إسرائيل’. إنه، كما يراه العرب، المسؤول عن تبعيتهم الاقتصادية، وتجزئتهم، وفقدانهم السيادة واستقلالية القرار الوطني، واحتلال أرضهم، والعدوان المادي والرمزي عليهم”.
بالتالي، “حدث السابع من أكتوبر أحيا، من جديد، هواجس الصدام بين العالَمين، فقُرئ هجوم المقاومة على معاقل المحتل بوصفه هجوم الشرق على الغرب وهجوم الإسلام على اليهودية – المسيحية! هكذا كانت حكومات بلدان الغرب ومراكز القرار فيها وأجهزة إعلامها جاهزة لإعادة إنتاج السردية الصهيونية والتلاعب بالحقائق والعلاقات، وتوظيف خطاب المظلومية بواسطة التذكير المستمر بالسابقة النازية. وهذا عين ما أقدمت عليه تلك الحكومات ولاكته، طويلا، ألسنة قادتها السياسيين والعسكريين وألسنتها الإعلامية قصد الوصول من ذلك إلى القول إن ما تعرضت له دولة الاحتلال في ذلك اليوم ‘عدوان إرهابي’، وإن ما فعلته وما ستفعله، في مواجهة المقاومة وشعبها في غزة، ينتمي إلى ‘حق الدفاع عن النفس’. وهذا ما أمطرتنا بوابله لأشهر نظير وابل الرصاص الذي أمطر به الاحتلال مئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ في غزة ‘دفاعا عن نفسه’ من حتمية للتاريخ آتية لا ريب فيها”.
إذن، “استبطن الغرب السياسي الرواية الصهيونية في الحديث عن عملية 7 أكتوبر (…) من غير دليل على صحة ‘إفادتها’ خاصة فيما ضمنته الرواية المستعارة من ‘معلومات’ عن ‘الذبح’ و’الاغتصاب’! ما أهم إن لم يكن على الرواية دليل، عند من اختلقها وعند من صادق عليها وردّدها، الأهمُّ مفعولها في الرأي العام العالمي، والغربي خاصة!”، وهو تسليم برّر “جملة من السياسات التي التقت، في منتصف طريقها، مع العدوان الصهيوني في النتائج والمآلات. يكفي أنها سياسات وفرت غطاء أوروبيا-أمريكيا للعدوان على صعيد إقليمي (الاتحاد الأوروبي) وعلى صعيد دولي (الأمم المتحدة ومجلس الأمن)، وحمت الكيان وعدوانه من الإدانة الدولية ومن قرارات حاسمة بوقفه من طريق استخدام ‘الفيتو’ ضد أكثر من مشروع قرار”.
أما من أحرجته الجرائم أمام شعبه، “فاكتفى، من غير خجل، بإبداء ‘قلقه’ على سلامة المدنيين! وما شذّ عن ذلك التواطؤ المعلن والسافر بين حكومات الغرب ودولة العدوان سوى النّزر اليسير منها على نحو ما حصل من تبدل إيجابي في مواقف حكومات إيرلندا وبلجيكا وإسبانيا والنرويج”.
مشاركة لا مجرّد تواطؤ
يرى صاحب “نقد السياسة” أن الأسوأَ من “التواطؤ وتوفير الغطاء السياسي”، “الدعمُ العسكري والاستخباراتي والمالي الذي تلقته دولة العدوان من حُماتها الغربيين، خاصة من أنظمة واشنطن ولندن وبرلين وباريس! وما توقف الأمر عند تدفّق المساعدات المادية والعسكرية، في امتداد تدفق الزوار الغربيين على دولة الاحتلال: رؤساء دول ورؤساء حكومات ووزراء دفاع وخارجية ورؤساء استخبارات، بل بلغ الدعم حدود المشاركة الميدانية في العدوان على غزة”.
ثم نبّه إلى أن “هذه المرة الأولى التي تسارع فيها أمريكا وأخواتها إلى الذهاب بنفسها إلى الساحل الفلسطيني لنجدة كيانها الذي اصطنعته بعد إذ أدركت مأزقه الذي دخل فيه في 7 أكتوبر، واحتمال فتح جبهتين ثانيتين عليه من جنوب لبنان ومن الجولان، من غير أن نتجاهل التقارير التي تحدثت عن مشاركة مباشرة لقوات أمريكية وبريطانية وفرنسية في القتال في غزة؛ وهي تقارير نُشرت في وسائل الإعلام والصحافة الغربية والعبرية قبل أن تتناقلها وسائل الإعلام العربية”.
ورغم أن “الغرب ليس على منوال واحد”؛ فـ”كما فيه مَن يكرهون العرب ويكيدون لهم جهرا وسرا، ويدافعون عن اغتصاب فلسطين من أهلها، فيه من يتعاطف معهم ويناصر قضاياهم ويحترم ثقافتهم وحضارتهم”، إلا أن هذا لا يغني عن فهم طبيعة انقسامه: “الغرب منقسم على نفسه في منازعاته السياسية الدائرة على مصالح طبقية وفئوية في الداخل الاجتماعي، على نحو لا مكان معه للجدال فيه، لكنه متحد، بيمينه ويساره ووسطه، في موقف الدفاع عن دولة الاغتصاب والاستيطان في فلسطين المحتلة”.
إذن، بالنسبة لبلقزيز: “ليس لدينا (…) وهمٌ في إمكان العثور على عدالة في سياسات الغرب: يسارا ويمينا، تجاه فلسطين وحقوق شعبها التاريخية فيها. ربما علينا البحث عن شيء رمزي منها في مواقف الرأي العام الغربي والمنظمات المدنية غير الرسمية، ولكن تلك مسألة أخرى تخرج عن نطاق سياسات الغرب السياسي: التي لا تدخل القوى المشارُ إليها في جملته”.
وشدّد المفكر على أن “الأطمّ من طامة الموقف السياسي الغربي، الحاكم والمعارض معا، من قضية فلسطين وصراع شعبها مع الصهيونية وكيانها وأذرعها الأخطبوطية الممتدة في العالم كله، وفي الغرب على وجه الخصوص، مواقف المجتمع الثقافي في بلدان الغرب”.
ثم استرسل قائلا: “هذه المواقف الثقافية تكاد ألا تختلف، في سوئها ومجافاتها قيم الحق والعدالة، عن سياسات الدول في ذلك العالم الأوروبي-الأمريكي الماسك بأزمّة الأمور في بقاع الدنيا، وتفشو قوانينه في تلك البقاع فُشوَّ أفكار مثقّفيه فيها بحيث يتضافر عملهما معا لإنتاج حال واحدة يتمتعان بها هي السيطرة”.
و”إزاء فجوة مهولة بين سياسات الغرب وتراثه الفكري الأنواري”، ذكر الأكاديمي أنه كان لا نُدحة عن التمييز بين الكيانَين الغربيين الثقافي والسياسي، “خاصة وأن الفجوة إياها ما برحت تعيد إنتاج نفسها في الغرب المعاصر بين المجتمع السياسي فيه، حكومات ومعارضات، والمجتمع الثقافي بمفكّريه وأدبائه وفنانينه وعلمائه”، ثم كان لا ندحة عن ذلك التمييز؛ “لأن تيارات من الفكر عدة، في ثقافتنا العربية، اهتبلت فرصة فساد السياسات الغربية وعدوانيتها، تجاه شعوبنا وقضاياها، وخلوّها من أي مبدأ إنساني من تلك المبادئ التي يزعُمُ الخطاب الغربي الرسمي التمسك بها، لكي تتأدى من هذه الواقعة إلى استنتاجات غير مشروعة من طراز أن فساد تلك السياسات من فساد الحضارة أو المدنية والثقافة في الغرب”.
لكن الفجوة بين مجتمعي السياسة والثقافة في الغرب تضيق منذ انطلاق “طوفان الأقصى”؛ فـ”ترى جيشا عرمرما من الكتّاب يستعيرون ألسنة حكّامهم حين يتحدثون عن دولة الاغتصاب والاستيطان أو عن شعب فلسطين! ولم يكن بيان فيلسوف ‘التواصل’ يورغن هابرماس، ومن معه من ‘فلاسفة’ ألمان إلا عينة لمئات من الحالات الثقافية المشابهة في الغرب من التي افتضح ‘التزامها’ بالمبادئ العليا الإنسانية المؤسِّسَة للمعرفة، فارتفع الغطاء عن مخبوئها من المواقف الإيديولوجية المنحازة إلى قوى العدوان الانحيازَ الأعمى، وتمادت في محاكاة نخبها السياسية في إعمال المعايير المزدوجة في النظر إلى حقوق شعب فلسطين في أرضه وحريته مبتلعة لسان المبادئ الكبرى!”.
وأضاف بلقزيز: “ما أكثر مَن سقط من هؤلاء الباحثين والكتّاب في امتحان 7 أكتوبر وما تلاه من أيام المحرقة في غزة. حتى الذين حاولوا منهم النأي بأنفسهم عن مواقف التأييد اللامشروط للجلّاد، فدبّجوا بيانات أقل فضائحية، أمسكوا فيها العصا من الوسط واستنكروا همجية العدوان على غزة، ما لبثوا، في الوقت عينه، أن أدانوا عملية 7 أكتوبر بحسبانهم إياها عملية ‘إرهابية’!”.
وقدّر الكاتب أن “الحقيقة الفاقعة، اليوم”، هي “قضايا التحرر الوطني، التي كانت سوقها نافقة مزدهرة في التأليف الفكري والأدبي الغربي، بين نهاية الأربعينيات ونهاية السبعينيات من القرن العشرين، خرجت خروجا مفجعا من دوائر الثقافة الغربية في العقود الأخيرة، ولم يعد يعنى بها سوى بعض المفكرين الكبار، المتمسكين بمبادئهم الإنسانية، من طراز تشومسكي وأضرابه من المفكرين الذي لم تستوعبهم السلطة وتستلحقهم بماكينتها الإيديولوجية؛ وهم في حكم القلة القليلة. أما الالتزام بقضايا الإنسان فلفظي حتى إشعار آخر (ما خلا الإنسان الغربي!)؛ إذ ما قيمة ما يُكتب عن الحرية، والحق، والعدالة، والمساواة، والاعتراف، والتواصل، والاختلاف، وحقوق الإنسان… إذا لم يكن في الممارسة والمواقف ما يترجم ذلك ترجمة أمينة من غيرِ انتقائية مقيتة ومن غير ازدواجية في الخطاب؟!”.
انشقاق المجتمع الغربي
على الطرف المقابل “من التماهي المتزايد بين المجتمع الثقافي والمجتمع السياسي داخل بلدان الغرب”، انشقاق متعاظم، رصده عبد الإله بلقزيز، “بين السياسي والاجتماعي (المدني)، بين الحكومات والرأي العام، ليس على صعيد اشتباك كل منهما مع قضايا الداخل الاجتماعية والسياسية والمطلبية فحسب، بل حتى على صعيد الموقف من القضايا الخارجية والإنسانية في العالم”.
هكذا، “بقدر ما أبدت حكومات الغرب مواقفَ في غاية الانحياز لدولة العدوان، والمشاركة في إسناد حربها والتغطية عليها، مالت قطاعات اجتماعية عريضة من المجتمعات الغربية إلى الاحتجاج الصاخب على تلك السياسات الرسمية المنافية للمبادئ الإنسانية، وإلى إبداء أعلى صور التضامن الحار والثّابت مع الشعب الفلسطيني ومناصرة حقوقه التي يَهْتَضمها الاحتلال والعدوان المتمادي عليه، في عملية من الكسر الجماعي الغربي غير مسبوقة لحاجز الخوف من القذف بتهمة ‘معاداة السامية’ التي تجرّمها حكومات الغرب وتبتزّ بها شعوبَها وقواها الحية”.
وأردف بلقزيز قائلا: “منذ بدأت محرقة غزة حتى يوم الناس هذا، وانطلق طوفان المظاهرات والمسيرات الشعبية العارمة في عواصم أوروبا وأمريكا الشمالية ومدنها، بدا الغرب غربين على طرفي نقيض أو، قل، بدا المجتمع الواحد مجتمعين متقاطبين، تكاد أن لا تجمع بينهما وشيجة أو صلة قرابة: مجتمع سياسي رسمي شريك في المحرقة (…) ومجتمع شعبي مدني يقف من المحرقة موقف الاستنكار الكامل وينتفض ضدها بانتظام ودأب”.
وواصل شارحا أن حقيقة ما يتواجه في هذا المشهد، هما: “مجتمع الرأسمال ومجتمع الإنسان؛ غرب المصالح وغرب المبادئ والقيم، المجتمع الثاني يرث، عمليا، ما طلّقه المجتمع الأول: تراث الأنوار، ويستبطن قيمه التي تشبّع بها والتي طلّقتها الرأسمالية في غمرة اندفاعتها الهوجاء إلى الاستغلال والنهب وتعظيم مصالح قُواها التي لا يكبحها رادع من قانون أو من قيم، في الوقت عينه الذي كان يستُر فيه عورة أنظمته السياسية ويعيد إلى صورة الغرب بعض ما هشَّمته الرأسمالية والاستعمار والإمبريالية والصهيونية والعنصرية منها”.
وذكّر بلقزيز بأن “الموجات الهادرة المتدفّقة من مئات المظاهرات والمسيرات الشعبية العارمة، في بلدان الغرب، استنكارا للمحرقة في غزة، ومطالبة بوقفها الفوري ومناصرة للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، هي، على الحقيقة، مما أتاح إمكانها ما تتمتع به مجتمعات الغرب من حريات عامة ومن مساحات واسعة لممارسة الحق في التعبير عنها”، ثم استدرك قائلا: “لكن المعلوم لدى الجميع، وشعوب الغرب ابتداء، أن مدى تلك الحريات يتوقف عند تخم من التخوم لا يعدوها هو ‘إسرائيل’: بوصفها ‘مقدَّسا’ من مقدَّسات السياسة الغربية، الذي لا يقبل الانتهاك ولو من باب الاحتجاج على ما تقترفه من جرائم!”
كما نبّه الأكاديمي إلى أن “شطرا عظيما من أفعال التضامن الشعبي مع فلسطين وقضايانا منتوج نضالي من منتوجات ذلك الوجود العربي والإسلامي الذي أصاب من النُّجح في مسعاه حدا تحوّلت معه قضية فلسطين إلى واحدة من أمهات قضايا الشأن العام في بلدان الغرب”، ثم شدّد على أن المنطقة العربية ينبغي أن تقابل اليوم “بفائض أعلى من ذلك التقدير الاعتيادي الذي درجنا عليه” مواقف التضامن الغربي مع فلسطين، لأن ذلك فضلا عن كونه أمرا “بالغ الصعوبة” قد بلغ اليوم “من الشمول والسعة والتتالي مبلغا لا سابق له في العالَم كله، بما فيه العالم العربي الإسلامي”.
هذا التضامن أفصح أيضا عن “درجة نوعية من المواقف ما اعتيد عليها في مجتمعات الغرب تجاه حقوق الشعب الفلسطيني وحدودها”، وهو ما استدلّ له باستقصاءاتِ رأي تبيّن أن نصف شباب الولايات المتحدة الأمريكية اليوم يرون أنه “لا حلّ من أجل منع إبادة الشعب الفلسطيني إلا بزوال الكيان الصهيوني”، وهو أمر “يحصل في البلد الذي هو مركز النفوذ الإعلامي والسياسي والثقافي الصهيوني في عالم الغرب كله، فكيف بغيره من بلدان الغرب التي تمالئ دولة العدوان لمجرد إعفاء النفس من سياسة الابتزاز التي تمارسها ضدها أذرعها المنتشرة في العالم، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية؟”.
وختم المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز تحليله بالحديث عن الحجم العالمي للقضية الفلسطينية اليوم، وما يمثله من “هزيمة شنيعة لسياسات غربية جرّبت، بالوسائل كلِّها، أن تمحو ذِكر فلسطين من الوعي الجمعي”.