البِطنة تُذهب الفطنة
لا أعتقد أن السائح الأجنبي يقصد مراكش ليأكل في المطاعم الشعبية المفتوحة، لأنها لا تقدم الأطباق المغربية المشهورة بالشكل المرجعي المقبول في المطبخ المغربي المعروف دوليا. حتى الطنجية المراكشية تُعد في طناجر كبيرة ثم توزع على الزبناء في أطباق صغيرة. وتبقى ميزة هذه المطاعم الشعبية هي أثمانها الرخيصة.
لا أعرف مدى المراقبة الصحية المفروضة على هذه المطاعم، لكن الطريقة التي تستقبل بها الزبائن تثير القلق والامتعاض، حيث يخرج “فتوة” كل مطعم ليجبروك على اختيار مطاعمهم بما يشبه القوة حين لا ينفع الإحراج (الرغيب والمزاوكة)، ويتحول الأمر إلى ما يشبه التسول بالقوة. هذا التصرف يقلق الزائرين المغاربة فبالأحرى الأجانب، ويطرح مجموعة من الأسئلة.
سكنت في مراكش أربع سنوات، بين 1973 و1977، وكنت مهووسا بساحة جامع الفنا، خاصة فضاء الحكاية الذي كان يتناوب عليه بُلَغاء يترجمون الفصحى إلى دارجة بليغة، كما كان مُقلّدو حميد الزاهر وقشبل وزروال وروايس الغناء الأمازيغي وجيل جيلالة وناس الغيوان وغيرهم لا يقلون إتقانا عن الأصول. وكان مجموعة من الممثلين يقدمون عروضا شبه مسرحية مرة مرة، ارتجالية في الغالب، لكنها تعجب الواقفين في الحلقة. أما مروضو القرود والأفاعي وأولاد سيدي احماد أُموسى وبقشيش وصاحب الحمام فكانوا خضرة فوق الطعام.
في هذا الزمن كانت الساحة مساحة واحدة غير منشطرة نصفين كما الآن، حيث فصلتها دكاكين بائعي المنتوج التقليدي إلى فضاءين، كما كانت تشتغل نهارا ومساء إلى حدود ندرة الزائرين، ولم أتذكر يوما مطعما شعبيا وسط الساحة.
في الجامعة، بين 1979 و1983 درست المسرح على يد المرحوم حسن المنيعي مدة أربع سنوات، وكان يؤكد دائما على كون الفرجة في هذه الساحة تقدم أشكالا حداثية، ليس أقلها تحطيم الجدار الرابع وتجنيب المتفرج سلبية الوهم. لأن الحلقة الدائرية تجعلك ترى المتفرجين المقابلين لك مما يجعلك على وعي دائم بحقيقة التمثيل. كما أن الارتجال يُخرج الفرجة من كلاسيكيتها، ناهيك عن تكسير الاستلاب بوقف العرض لطلب المقابل قبل استئنافه.
ولقد دأب الكثير من المشاهير على تقديم عروض في هذه الساحة، مغاربة وأجانب، اعترافا بالقيمة الفرجوية للساحة.
قيمة يجهلها الذين رخصوا للمطاعم بالهجوم على هذه الساحة الخالدة وتحويلها إلى جوقة من أصوات المضغ والسرط.
ما هو الضرر وما هو الربح في انتصار البطن على العقل؟ لماذا تم الترخيص لكل هذا العدد الهائل من المطاعم حتى حل بينها تنافس همجي وصل حد “اختطاف” الزبائن؟ ألا يرتفع خطر التسمم بفعل البوار الذي يصيب سلعة المُهمَلين من أصحاب المطاعم؟ فيقدمون البائت والقديم وما لا عين رأت؟
في ظل مخاطر هذا الإطعام المتوحش على المغاربة، وجب توخّي الحذر، وكتابة رقم المطعم قبل الانسحاب من المكان، حتى تسهل متابعة العابثين بصحة الناس، والاقتصار على الأطباق التي تخلو من المخاطر نسبيا، مثل المشويات والسمك. والاستفسار عن المطاعم المشهود لها بالجودة. أما الفنون التي تمتع ولا تؤذي أحدا أبدا، فهي لا تملأ صناديق المجلس البلدي، لأن فنون الفرجة الشعبية ظلت تختلط عند الجاهلين بالاستجداء والتسول.
The post البِطنة تُذهب الفطنة appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.