كيف يسهم عدم “التبول” في نهر السين في تحقيق مزايا اقتصادية للفرنسيين؟
تسلط خطة فرنسية تسمح بالسباحة في نهر السين، بعد 100 عام من الحظر، الضوء على حالة مياه الصرف الصحي في أنهارنا، كما تسلط الضوء على أولئك الذين يتعاملون بشكل أفضل مع نفايات باريس، ويستخدمون تلك النفايات في تخصيب القمح الذي يدخل في صناعة الخبز الفرنسي “باغيت” والبسكويت على سبيل المثال.
الجو بارد في مجاري الصرف أسفل باريس، الرائحة ليست كريهة كما كنت أعتقد، أما الأجواء فتمتلئ بصوت خرير مياه الصرف ذات اللون الأخضر المائل إلى الرمادي، والتي تتدفق تحت قدمي، وتزداد سرعتها بفعل مياه الأمطار وميل أنابيب الصرف إلى الأسفل.
تذكرني لافتة اسم شارع “كاي دورساي” الزرقاء المثبتة على جدار نظام الصرف أسفل المدينة بموقعي، وتحديدا أسفل جسر ألكسندر الثالث الجميل مباشرة، حيث من المقرر أن تقام مسابقة الترياتلون (الثلاثي) ضمن فعاليات الألعاب الأولمبية والبارالمبية هذا الصيف.
أصبحت مراقبة جودة مياه نهر السين، المعروف بأنه أحد أكثر الأنهار رومانسية في العالم، الشغل الشاغل للجمهور هذا العام، إذ يسعى المتابعون ووسائل الإعلام إلى معرفة إذا كان الرياضيون سيخوضون مسابقات في مياهه بالفعل خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب، نظرا لأن إحدى المشاكل الرئيسية التي تواجه النهر تتمثل في أن هطول الأمطار الغزيرة يؤثر على نظام الصرف الصحي في باريس، والمصمم في القرن التاسع عشر، والذي يجمع مياه الصرف ومياه الأمطار، وتتسرب إلى نهر السين.
وكان العام الماضي قد شهد إلغاء مسابقة تجريبية بسبب سوء جودة المياه، بعد هطول أمطار قياسية، واعتبارا من أوائل شهر يونيو/حزيران، ستحدد القياسات اليومية للبكتيريا، لاسيما بكتيريا الإشريكية القولونية، إذا كان النهر آمنا للغطس فيه أم لا.
أخبرني بيير رابادان، نائب عمدة باريس المسؤول عن الألعاب الأولمبية، بعد يوم من زيارتي لنهر السين: “بالطبع سأذهب للسباحة في نهر السين في أقرب وقت، كلما أمكن ذلك، عندما تكون المياه جيدة”، مضيفا أنه سبق له أن سبح في النهر مرة واحدة، في مناسبة رسمية.
واعتبارا من عام 2025، تتمثل الخطة في فتح ثلاثة مواقع للسباحة أمام الجمهور في فصل الصيف.
ويقول رابادان إن حزمة إجراءات بقيمة 1.4 مليار يورو لتعزيز جودة المياه، بما في ذلك حوض عملاق جرى الانتهاء منه حديثا لجمع مياه الصرف الصحي أثناء هطول الأمطار الغزيرة، ستساعد في الحد من التلوث خلال الألعاب الأولمبية.
وعلى الرغم من ذلك، ونظرا للأمطار الغزيرة هذا العام، فإنه من المتوقع أن تظل مستويات البكتيريا “أعلى قليلا من جودة المياه (التي تعتبر آمنة)” عند استئناف القياسات اليومية في أوائل يونيو/حزيران، بيد أن رابادان يتوقع تحسن مستويات الجودة لاحقا بسبب الطقس الأكثر جفافا وكذلك الحوض الجديد الذي يخضع لاختبارات حاليا.
وتقول لورانس ليستل، مؤرخة البيئة في جامعة السوربون، التي درست البيانات والخرائط التاريخية لتتبع الحالة البيئية للنهر منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، إن الجيد في الأمر هو أن نهر السين أصبح أنظف مما كان عليه من قبل، وتضيف أنه في عام 1900، خلال دورة الألعاب الأولمبية الأولى في باريس، “أجريت مسابقة للسباحة عند نقطة لتصريف مياه الصرف الصحي”.
ووصفت خلال حديثها في مكتبها في حرم الجامعة المطل على نهر السين، القرن التاسع عشر بأنه فترة جدال ساخن للقضايا التي لا تزال ذات أهمية كبيرة، من بينها ارتفاع نسبة تلوث النهر، وانهيار المخزون السمكي بسبب سدود تنظيم تدفق المياه، وتراجع مستويات الأكسجين المذاب في الماء، وأيضا الرغبة في استخدام النهر والاستمتاع به.
وتقول: “كان يوجد وعي بالفعل بأن نهر السين ملوث للغاية، لكن ذلك لم يمنع رسامي المدرسة الانطباعية من وضع حوامل الرسم الخاصة بهم بجوار نهر السين ورسموه بطريقة رائعة وجميلة للغاية، لدرجة لا توحي بأن نهر السين كان ملوثا في لوحاتهم، لكنه كان ملوثا بالفعل في ذلك الوقت، واستمرار سباحة الناس فيه وقتها كان من الأمور الغامضة بعض الشيء”.
وتضيف أن السباحة في النهر كانت محظورة منذ القرن التاسع عشر وما بعده، باستثناء بعض المواقع المخصصة لذلك، والسبب كان لتفادي الاصطدام بحركة الملاحة في النهر، وليس القلق بسبب تلوثه.
وبحلول سبعينيات القرن الماضي، كان نهر السين يعتبر ميتا بيئيا، وفي ذلك الوقت، كان يجري تصريف أكثر من نصف مياه الصرف الصحي في باريس في نهر السين دون معالجة، مما أدى إلى اختفاء الأسماك في النهر، بشكل لا رجعة فيه، كما كان يعتقد البعض.
وتقول ليستل إنه على الرغم من ذلك، وفي غضون فترة زمنية قصيرة نسبيا، عاد النهر إلى الحياة، والفضل في ذلك يرجع إلى حد كبير إلى توسع محطات معالجة مياه الصرف الصحي.
وتضيف ليستل، التي تشرف على مشروع بحثي متعدد لدراسة نهر السين ونظامه البيئي الأوسع: “بحلول تسعينيات القرن الماضي، كانت مستويات الأكسجين المذاب مقبولة بالفعل بالنسبة للأسماك، فبدأت تعود مرة أخرى إلى النهر”.
ويرى فابيان إسكولييه، الباحث في مختبر المياه والبيئة والنظم الحضرية والرئيس السابق لشرطة نهر السين البيئية، أن كل جهود التنظيف هذه لا تزال تتجاهل سؤالا أساسيا: لماذا نتخلص من البول والبراز في المرحاض؟ وتذهب إلى المجاري، بدلا من النظر إليها كمورد ثمين؟
ويقول إسكولييه أثناء نزهة على ضفاف نهر السين، فوق سطح الأرض، هذه المرة، وهو يرتدي شارة مكتوب عليها بالفرنسية (البول يحقق مزايا): “في باريس، كان البول والبراز يعتبران من الأسمدة”.
وتظهر أبحاث أجراها إسكولييه وآخرون أنه قبل ظهور الأسمدة الصناعية، كان الطلب مرتفعا على البول الغني بالنيتروجين، والذي يحتوي على معظم العناصر الغذائية التي نفرزها، لتعزيز المحاصيل لسكان المدن مع زيادة عددهم.
ففي حوالي عام 1900، جرى إعادة تدوير نحو 50 في المئة من العناصر الغذائية من البول والبراز البشري، ولكن مع ظهور الأسمدة الصناعية، تراجع ذلك إلى نحو 5 في المئة فقط اليوم، وفقا لبحوث إسكولييه.
ويسلط إسكولييه، من خلال دراسته الدقيقة للنهر المضطرب الذي غمرته الأمطار، الضوء على ما يعتبره مفارقة غريبة إذ يقول: “كمجتمع، نحن ننفق الطاقة على معالجة مياه الصرف الصحي الغنية بالنيتروجين وتدمير النيتروجين التفاعلي، في حين ننفق الطاقة أيضا على صنع الأسمدة النيتروجينية الصناعية (التي يمثل إنتاجها واستخدامها نحو 2 في المئة إلى 5 في المئة من انبعاثات الغازات الدفيئة)”.
ويضيف أن مرافق المعالجة تلتقط نحو 10 في المئة من النيتروجين من مياه الصرف الصحي لدينا وتستفيد منها في زراعة المحاصيل، في حين يذهب 50 في المئة منها إلى الهواء، والباقي إلى النهر، ونظرا لعدد سكان باريس الأكبر الذي يبلغ 10 ملايين نسمة، فإن هذا يعني أن “النيتروجين الناتج من أربعة ملايين شخص يذهب إلى نهر السين يوميا”.
ويقول إسكولييه: “إذا استخدمنا كل البول من باريس الكبرى لتخصيب القمح بدلا من ذلك، فإنه سيكون كافيا لإنتاج أكثر من 25 مليون رغيف خبز فرنسي (باغيت) يوميا”.
وسعى إسكولييه على مدار السنوات العشر الماضية إلى وضع بعض هذه النتائج موضع التنفيذ، كما اختبر طرقا لجمع البول واستخدامه كسماد، وتحدث عن أبسط تلك الصور، مشيرا إلى دراية عائلته بهذا الشأن قائلا: “كانت جدتي تطلب من أطفالها أن يذهبوا ويتبولوا على نبات الراوند”، مما يعطى النبات دفعة من الأسمدة الطبيعية.
وفي إطار برنامج بحثي يشرف عليه إسكولييه، ويطلق عليه اسم “أوكابي”، استطاع بالتعاون مع فريقه تنظيم مشاريع تجريبية مختلفة تهدف إلى جمع البول في المدن والذي يستخدمه المزارعون بعد ذلك في تخصيب محاصيلهم، إذ استطاع 20 متطوعا، في أحد المشاريع، جمع البول وإحضاره إلى نقطة التسليم، حيث يقوم المزارع بعد ذلك بجمعه وتخزينه واستخدامه كأسمدة.
أعطاني إسكولييه علبة بسكويت أُنتجت ضمن أنشطة مشروع أوكابي، ويذكر ملصق العلبة بكل فخر، أن هذا البسكويت الذي أُطلق عليه بالفرنسية “البسكويت الذهبي” مصنوع من دقيق “قمح مخصب بسماد بول بشري”، وضعت العلبة في حقيبتي يراودني الفضول لمعرفة رأي زملائي في لندن.
إن فكرة فصل البول في موقعه تحظى باهتمام على نطاق واسع، لهذا سيضم حي سان فنسنت دي بول، وهو حي جديد مخطط له في باريس، دورات مياه لفصل البول كجزء من برنامج تجريبي لإعادة تدويره في مدينة باريس.
ويقول أنطوان غيو، نائب عمدة باريس المسؤول عن إدارة النفايات وإعادة التدوير والصرف الصحي: “نادرا في باريس أن يكون هناك حي جديد، بالنظر إلى أن المدينة مبنية بالفعل، لذلك ليس لدينا الكثير من الفرص لاختبار هذا النوع من الأشياء”.
ويضيف: “الفكرة هي اختبار فصل البول، ومعرفة ما إذا كان من الممكن جمعه واستخدامه كسماد”.
ويشير غيو إلى أن الحي الجديد، في الدائرة الرابعة عشرة في باريس، سيقطنه نحو 600 أسرة، “وهو عدد كبير جدا للتجربة ولكنه صغير مقارنة بباريس ككل”.
ويقول فيما يتعلق بدورات مياه إعادة تدوير البول: “إنه ليس حلا يسهل تنفيذه في المباني القائمة بالفعل، لذا فهو ليس بالضرورة شيئا يمكننا استخدامه في جميع أنحاء باريس خلال السنوات المقبلة، لكن يمكن أن تنهض الفكرة بدور مهم للغاية في الأحياء الجديدة وفي أماكن أخرى في فرنسا والعالم”.
ويسلط غيو الضوء على طريقة أخرى لتخفيف العبء على نظام الصرف الصحي في باريس، وهي تقليل كمية مياه الأمطار التي تتدفق إلى المجاري.
ويقول: “على المدى الطويل، يتعلق الأمر بالزراعة في المدينة وجعلها أقل انغلاقا، حتى تتمكن التربة من امتصاص الماء”.
ويشير إلى أن هذا أيضا مقيّد بالهندسة المعمارية التاريخية في باريس، وكل تلك الأرصفة والساحات المصنوعة من الحجر، ويقول إن أحد الأمثلة الناجحة هو ساحة كاتالونيا، وهي ساحة مغلقة جرى تحويلها إلى حديقة حضرية.
ويضيف: “يتعلق الأمر بالتوفيق بين تراث باريس والرؤية التي تتبنى فكرة مدينة أكثر خضرة، وهو أمر ضروري مع هطول الأمطار الغزيرة وأيضا في مواجهة تغير المناخ. ونحن نعلم أن سكان المدينة يقدرون الأشجار حقا”.
وتؤكد ليستل أن إحياء نهر السين حقا يتطلب البحث والعمل إلى ما هو أبعد من باريس. وتضرب مثالا على الأسماك، وثعبان البحر، وبعض أسماك السلمون، التي تعافت بعض الشيء بفضل مستويات الأكسجين المحسنة.
وتشير الأبحاث إلى أن سدود تنظيم تدفق المياه في النهر لا تزال تحد من عودة هذه البحريات، فضلا عن التهديدات الناجمة عن الملوثات الأخرى غير مياه الصرف الصحي، وارتفاع درجات حرارة المياه.
وعلى الرغم من الجدل الدائر بشأن جودة مياه نهر السين، فإن رابادان واثق بأن الباريسيين سوف يتبنون فكرة السباحة في نهر السين بمجرد فتح المواقع للجمهور، لاسيما وأن مواقع السباحة المماثلة الموجودة في المناطق الواقعة قبالة النهر الرئيسي قد جذبت كثيرين.
ويقول: “بمجرد أن يعرف الناس أنه بالإمكان السباحة هناك، وأن ذلك من الأشياء المسموح بها بسبب القياسات الجيدة، سيذهب الجميع”.
كما يأمل إسكولييه أن ينهض نهر السين بعد السماح للجمهور بالسباحة فيه، دون اقتصار ذلك على الألعاب الأولمبية، بدور في حدوث تغير جذري في عادتنا الخاصة، ويضيف: “عندما تسبح في النهر، فسوف ترغب في حمايته، وسوف تسأل نفسك: لماذا أتبرز في مياه النهر؟ ولماذا أتبول فيها؟”.