معرض الكتاب يصالح “تيفيناغ” .. والأمازيغية لن تنقرض في المغرب
قال أحمد بوكوس، عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، إن المعرض الدولي للنشر والكتاب من خلال الحضور الكثيف لـ”تيفناغ” يشكل توجها جديدا في تفعيل المؤسسات العمومية مقتضيات الدستور والقانون التنظيمي رقم 16-26 المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، متفاعلا مع سؤال حول إمكان اعتبار هذا تكريسا للمزيد من المصالحة مع الحرف الأمازيغي، بقوله: نعم، بالتأكيد.
واستبعد بوكوس، في حوار مع جريدة هسبريس الإلكترونية، إمكانيّة تحقق الأطروحة التي تتحدّث عنها الديناميات الأمازيغية بخصوص انقراض هذه اللغة من أفق المغاربة في غضون العقود المقبلة، مشددا على قدرة هذه اللغة على الصمود والاستمرار، وزاد أنها سبق وبينت قدرتها على ذلك طيلة العقدين الماضيين، وأمام لغات شرسة متسلّحة بالاقتصاد ولها سند سياسي.
وفي رده على الانتقادات التي توجّه من طرف الفاعلين لـ”إيركام”، بخصوص إغراق الأمازيغية في الجانب المختبري والبحثي والابتعاد عن “همومها وتحدياتها”، لفت العميد إلى عدم وجود أيّ تناقض، من وجهة نظر المعهد، بخصوص الاشتغال على الشق الأكاديمي، مؤكدا أن هذا الاشتغال يفضي إلى إعداد اللغة الأمازيغية المعيار ويدون التراث الأمازيغي، دون أي فصل لـ”تمازيغت” عن محيطها الاجتماعي حيث تنتعش.
نص الحوار:
نلتقي بك في الدورة 29 من المعرض الدولي للنشر والكتاب. ويعد لقاؤنا مهمّا ربما، بالنظر إلى أنه في فبراير 2003 تمت المصادقة على اعتماد حرف “تيفيناغ” حرفا رسميا وحيدا لكتابة الأمازيغية بالمغرب، أي قبل أكثر من 20 سنة. هل تصالحَ هذا الملتقى تماماً مع “تيفيناغ” نتيجة الحضور اللافت؟
أستطيع أن أقول نعم، لأن هذه الدورة كما هو الحال بالنسبة للدورة السالفة يظهر أنها حضور حرف تيفيناغ حضورا متميّزا. ولكن اسمح لي أنضع هذه النتيجة في سياقها، الذي هو تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، في إطار إعمال مقتضيات القانون التنظيمي 26.16، الذي نص على استعمال حروف “تمازيغت” الرسمية في المؤسسات الوطنية، ابتداء من بداية هذه السنة.
وطبعا نحن بدورنا، في المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، لم نقف مكتوفي الأيدي، وفكرنا في كيفية المساهمة في هذه الدورة، فارتأينا من جهتنا منح الأولوية لاستعمال اللغة الأمازيغية في لقاءاتنا وأنشطتنا؛ أو منحها على الأقل حيزا زمنيا مشرّفا. وارتأينا بالإضافة إلى ذلك أن نعزز لغة تواصل رواقنا بصريا بتفيناغ، وهذا أيضا انخرطت فيه المؤسسات الأخرى التي لدينا معها اتفاقيات، وتوجد أروقتها في التظاهرة؛ ولذلك بدا حضور هذا الحرف كثيفا.
أسجل أيضا أننا قمنا بوضع الإصدارات التي حُررت داخل اللغة الأمازيغية في الواجهة الأمامية، حتى نحفز الزوار والحاضرين على وضع الأسئلة حول هذا الحرف وتعزيز الفضول بشأنه لمن لا يتعرف عليه بسهولة، والذي كما قلتَ اعتمد رسميا في 2003.
نحن نتحدث بالفعل عن أزيد 20 سنة، لهذا كان السؤال بالنسبة لنا هو هل استطعنا أن ندمج في محيطنا هذا الحرف بمعية اللغة الأمازيغية أم لا؟. وهذا الطرح يندرج في الأصل ضمن إستراتيجية المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. ما معنى هذا؟ معناه أنه اليوم، إلى جانب القيام بالبحث الأساسي في مجالات مختلفة من المعرفة، لابد أن ينخرط المعهد في السياسات العمومية عبر الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الأمازيغية، وتدوينها بالحرف الأمازيغي. “إيركام” عمليا اعتبر هذا الأمر من الأولويات.
وإلى ماذا أفضى هذا مثلاً؟
لم يعد خافيا أن الثقافة واللغة الأمازيغيتين حقّقتا مكاسب مهمة في مجال التعليم. ستقول لي إن هناك جملة من الإكراهات والمعيقات والمشاكل، ولن أختلف معك. لكن رغم كل ذلك يمكن أن نقول إننا إجمالا نعتبر أن الحصيلة مشرفة نسبيا. خذ مثلا حضور حرف تيفيناغ في المحيط، وهي مسألة مهم جدا أن نثيرها. فلو لم يكن المغاربة يتمتعون برؤية هذه الحروف بارزةً في الشوارع وفي واجهات المؤسسات، وفي الكتب والتلفزيون ووسائل الإعلام بشكل عام، هنا يمكن القول إن اختيارنا في هذا الصدد كان مجانباً للصواب، لكن الأمر غير مطروح. ولحسن الحظ أننا نشهد اليوم على تقبل كبير لهذا الحرف في مختلف الأوساط؛ وأنت تتذكر أنه قبل بضع سنوات كنا نسمع أشخاصاً في مناصب القرار، كرئيس الحكومة، يصفه بـ”الشنوية” تنقيصا، أو كما سمعنا بأنه “خربشات الرعاة المكتوبة في الصخور”.
(مقاطعاً) أنت تقصد حديث بنكيران الذي أغضبَ الأمازيغ؟
نعم. لكن ما نسجله أن هذه الأقوال بقوة الواقع صارت نشازا؛ ولم يعد أحد يقبلها. وحتى الذين نادوا بتدوين “تمازيغت” بالحرف العربي وعدّوا الحرف الرسمي بدعة صاروا يعبرون عن وجهة نظر امتدادها جد نسبي ومحدود داخل المجتمع، وهذا في حد ذاته مكسب مهم.
والحصيلة اليوم أن الناس يسمعون الأمازيغية في الفضاء العام، ويتحدثون بها، ويلقون محاضرات باستعمالها؛ وتوجد اليوم إصدارات مُحرّرة كلها بحروفها، بالإضافة إلى لافتات وعلامات تشوير تستدمجها. وهذه من المؤشرات التي توضح أن الأمازيغية كلغة تشق بالفعل طريقها الصحيح. وتيفيناغ لم يعد مقبولا فحسب، بل حتى نسبة حضوره تزداد تدريجيا، مع التعليم والتعليم العالي، وكذلك مع الإنتاج الأدبي، إلخ. وكل هذا يعضد أننا نسير بالأمازيغية في مسارها الصحيح.
ولو أن آخر تقرير لمؤسسة الملك عبد العزيز تحدثت عن نقص الإنتاج بهذا الخط؟
نحن على بينة بهذا الإكراه، ويقلقنا أن التقرير الذي ذكرت يشير إلى أن الإنتاج بالحرف الأمازيغي يشكل نسبة مئوية جد متدنية. نتفق في كون النسبة ضئيلة للغاية وجد ضعيفة، لكننا نظل واقعيين ونرى أنه مع كل ما يمكن أن يقال حيال التأخر أو تعثر حظوظ الشعب المغربي في تملك الكتابة بالمازيغية، فإن الأساسي بالنسبة إلينا هو أن تقوم وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة ببذل المزيد من الجهود للتقدم في وتيرة تدريس الأمازيغية، وتعميمها أفقيا وعموديا على كل الأسلاك. وفي تصوري سيؤدي هذا إلى نشر وانتشار حروف الأمازيغية، وحتى هي كلغة.
معلوم أن الدور الرسمي وحده ليس كافيا، وأنت في ندوة حول الإنتاج الأدبي الأمازيغي بهذا المعرض سجلت وجود تنام في الإقبال على الكتابة الأدبية بالأمازيغية؛ أليس دور المؤلف الأمازيغي أساسيا أيضاً؟
بلا أدنى شك. وحين نرى مثلا عدد إصدارات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وعدد الكتب التي كتبت بـ”تمازيغت”، وتكلفت رابطة تيرا في أكادير بنشرها أو مؤسسات أخرى في الأطلس المتوسط، نجد أن هذه الحصيلة من الكتابات الأدبية التي كتبت بالحرف الأمازيغي عرفت تناميا ملحوظا. وهذا التنامي يجعلنا اليوم متفائلين. هذا يعني أنه يمكننا القول إننا حققنا قفزة نوعية مقارنة مع ما كانت عليه اللغة الأمازيغية والأدب الأمازيغي قبل 20 سنة مثلا. وهذا التحول اتضح أنه لا رجعة فيه، لذلك نحن متفائلون.
مع أن هناك سردية تدفع بأن الأمازيغية يمكن أن تنقرض في العقود المقبلة؟
هذه الأطروحة كانت صالحة في وقت سابق. أو قل، هذا التخوف كان وارداً منذ 20 عاما. أما اليوم فحين نتبين كيف استطاعت الأمازيغية أن تصمد أمام لغات مهمة، ولها سلطة وقوة اقتصادية وسند سياسي، دون أن تتزحزح، فهذا من المؤشرات التي تؤكد أن هذه اللغة وهذه الثقافة لها حظوظ أن تواجه بحدة ظاهرة الانقراض اللغوي.
في سبيل الحفاظ عليها أنتم تبدلون في “إيركام” جهودا أكاديمية معروفة، لكنها غير مقبولة كلية لدى الفعاليات الأمازيغية، خصوصا أن من بين الانتقادات التي توجه للمؤسسة أنها أثقلت “تمازيغت” بالشق المختبري؟
هذا الأمر لا يمنع الأمر الثاني. ما يعني أنه ليس هناك تناقض في ما يقوم به المعهد. نحن نعتبر أن مرحلة العمل الأكاديمي والبحث أساسية، لكن ليس بمعزل عن المحيط المجتمعي الذي هو المحيط الطبيعي لنمو اللغة وانتعاشها. ومن ثم لا نعتبر بالمقابل أن هذا العمل يمكن أن يؤدي بنا مثلاً إلى تهميش اللهجات المحلية أو إلى نكوص أو انقراض بعض التعبيرات الثقافية. من وجهة نظرنا في المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية فهذه المرحلة ضرورية ولا غنى عنها إذا أردنا أن تؤدي لغتنا وظائفها كلغة رسمية، وأن تلج إلى المدرسة والجامعة وتكون حاملة للأدب شعرا ونثرا.
ولا نتردّد في القول إننا في الطريق الصحيح، لأن تقعيد اللغة الأمازيغية وإغناءها بالدراسات والبحوث الميدانية أمر عادي وضروري، لأنه سيحدّ من ظاهرة التغيرات اللغوية اللهجية. ولهذا، ومنذ مدة غير يسيرة، نسعى إلى إيجاد لغة مُمعيرة مشتركة بين الأمازيغ، أي اللغة الأمازيغية المعيار. وفي تصورنا القائم على أسس علمية فهذه اللغة هي التي ستوحد مختلف اللهجات. ولا يمكن أن نعتبرها عاملا يقف وراء اندثار هذه التنويعات، لأن هذه اللغة تغتني من اللهجات أساسا، لا من حيث المعجم ولا من حيث الصرف، وحتى على المستوى الخطابي كذلك. اللغة المعيار التي نشتغل عليها لها وظائفها الخاصة بها، واللهجات المحلية والجهوية لها بدورها وظائفها.
وحتى أوضح فالطفل حين يولد لن يتكلم في وسطه العائلي هذه اللغة المعيار، كما هو الأمر بالنسبة للغة العربية. لغة الحديث اليومي والتنشئة تتم عبر اللغة الأم وليس أي شيء آخر. لذلك اللهجات من جهة واللغة المعيار من جهة أخرى وجهان لعملة واحدة. ولكن ما يهمنا هو أن نأخذ بهذه العملة في كليتها. يعني ليس جزءا على حساب جزء آخر. والمرحلة تقتضي هذا الاشتغال لأجل تقعيد ومعيرة الأمازيغية، علما أن اللهجات ستحتفظ بدورها في التنشئة، مثلما لها دورها كذلك في إنتاج الآداب والثقافة اللامادية المنتعشة في الحياة اليومية؛ ونحن نعتبرها مكمّلا لما ننتجه عبر اللغة المعيار وعبر الكتابة.
على سبيل الختم، يحيل موضوع الأمازيغية على كونها “لغة لكل المغاربة”، وهو ما تجسد في القرار الذي أصدره الملك بإقرار “اينّاير” عطلة وطنية مؤدى عنها. هل الاحتفال الذي جرى يبرز تطورا فعليا في فهم الهوية التي تخصنا بعيدا عن توقيعات دخيلة؟
أعتقد أن ما حققته الأمازيغية من مكاسب جعل المواطن المغربي بشكل عام يفهم أن هويتنا غنية ومركبة، وأن الوجه الأمازيغي أساسي ضمنها، وعنصر مفصلي داخلها، ولذلك يمكن أن نستدل هنا بهذا التدفق الملحوظ والإقبال الرسمي وغير الرسمي للكتابة بحرف تيفناغ الذي نتناقش بشأنه الآن. لقد كسبنا الرهان، وهو أن يعرف المغاربة قاطبة أن هذا المكون له أهميته التاريخية والثقافية إلى جانب المكون العربي. ودستور 2011 الذي أقر ترسيم اللغة الأمازيغية والاحتفال بـ”ايناير” عطلة وطنية والقانون التنظيمي… كلها أشياء لم تأت صدفة ولا من فراغ. كل هذا كان متوقعا. لكننا نرى اليوم ضرورة أن نشتغل على المواطن في الأمد البعيد، وأساسا من مدخل التعليم وبالمزيد من تعميم تدريس الأمازيغية، لتصبح كذلك حاضرة في التعليم الإعدادي والثانوي والجامعي.
نحن نعتبر أن التعليم مدخل أساسي في مسار بناء شخصية مغربية متجانسة، وضامنة للتّعددية التي يظهر أنها اليوم مقبولة لدى أطراف الشعب المغربي. وأعتقد أنه حينها سيكون لدينا نموذج جديد من المواطن المغربي مزدوج اللغة: عربية وأمازيغية. ويبدو لي أن الأمر سيخلق لدى المواطن المغربي نوعا من التوازن على مستوى شخصيته. كما نعتقد جازمين أن هذه الخطوة ستساعدنا كثيرا في تجاوز التناقضات السطحية التي يمكن أن تظهر في أوساط المجتمع. ومن نافل القول أن نشير هنا إلى اغتناء الديمقراطية في نهاية المطاف من كل هذا؛ فهي ستغتَني من هذا التحول الثقافي والسياسي وأيضا النفسي بالنسبة للمواطن المغربي.