ما هي “البيوفيليا” التي يجب أن تحظى باهتمامك عندما تقضي عطلتك الأسبوعية؟
- Author, ايمي توماس
- Role, بي بي سي
التواصل مع الطبيعة أثناء العطلة لا يجعلك تشعر بمزيد من الراحة والانتعاش فحسب، بل يسهم في تعزيز شعورك بالسعادة عند العودة إلى منزلك مرة أخرى.
مشيت فوق صخور وشجيرات الغار الجبلية، في صباح يوم ربيعي مشمس، ذاهبا إلى محمية أراضي كونيتيكت المشجرة، لا أسمع سوى زقزقة طيور القرقف وطيور أبو الحناء فضلا عن حفيف أوراق شجر البلوط الجافة تحت أقدامي.
ويقول ريغان ستايسي، معالج لراغبي الاستجمام في الغابات ومرشدي في الرحلة: “نحن نتغلغل داخل الغابة”.
تألف جدول أعمال رحلتنا من الاستجمام في الغابات، وهو نشاط تقدمه الكثير من المنتجعات والفنادق، وحتى المتاحف، للنزلاء، ففي ظل اجتياح التكنولوجيا والضجيج والتشتت مختلف مناحي الحياة في العالم، ازداد الاهتمام بالطبيعة، كما أفعل الآن واستجيب لهذا النداء.
أشعر دوما بالهدوء والسلام وسط الطبيعة، وهو ما دفعني إلى السؤال عن سبب ذلك الشعور، وتوصلت إلى أن السبب يكمن فيما يعرف بـ “البيوفيليا”، والتي تعني الميل الفطري للطبيعة والشعور بالارتباط نحوها.
شاعت تلك الرغبة في التفاعل مع جميع أشكال الحياة الطبيعية بفضل كتاب إدوارد أو ويلسون الذي صدر عام 1984 بعنوان “بيوفيليا”، وتتلخص النظرية في أن تطورنا ككائنات حية في الطبيعة، يجعلها المكان الذي نشعر فيه بأكبر قدر من الراحة والارتباط.
وعلى الرغم من كوني أحب الركض في الحديقة أو التنزه سيرا على الأقدام في الجبال، إلا أن هذه النزهة في الغابات تختلف بالنسبة لي.
ويقول ستايسي: “في كثير من الأحيان عندما نمارس الرياضة، لا تركز أذهاننا على تفاصيل المكان الذي نوجد فيه في ذلك الوقت، فلدينا هدف معين أو نحاول الحفاظ على وتيرة معينة”.
ويضيف: “لا يتعلق الأمر بالضرورة بأن تركز في المكان الذي توجد فيه”، وعلى الرغم من ذلك فإن الاستجمام في الغابات أمر مختلف، فهو يجعل خطوات الشخص أبطأ على نحو يتيح التركيز على البيئة المحيطة وملاحظة كل التفاصيل والإحساس بها، فالاستجمام في الغابات يجعلك “مرهف الحس تجاه كل ما يحيط بك، ويوجهك”.
انحرفت عن الطريق، بحسب إرشادات ستايسي، لاستمتع بملمس الخشب الصلب ورؤية الطحالب الناعمة، وأجعل عيني تغتسل بالمناظر الطبيعية الصخرية المتموجة.
إن التركيب الطبيعي المتباين ودرجات الحرارة المختلفة، فضلا عن التفاصيل التي أصادفها، مثل الفطريات على الأطراف المتساقطة، أو التجاعيد التي تشبه الأصداف البحرية، أو صدى صوت حفر نقار الخشب، كل هذه التفاصيل تجعلني أشعر بارتياح شديد.
هذه المشاعر الهادئة والصافية لها تأثير إيجابي بالطبع، إذ ترصد العديد من الدراسات، بما في ذلك دراسة أعدتها خبيرة علم النفس البيئي، ريتا بيرتو، والتي تحمل عنوان “دور الطبيعة في التعامل مع الإجهاد النفسي الفسيولوجي”، أن البيوفيليا تحد من الإحساس بالقلق، كما تسهم في استعادة الصفاء الذهني والشعور بالسعادة، وكلها عناصر تؤثر على الصحة البدنية.
وتقول بيرتو، وهي أيضا مشرفة على الأبحاث في مختبر معني بدراسة التأثيرات العاطفية في جامعة فالي داوستا الإيطالية: “الجهاز العصبي الباراسمبثاوي، والذي يُطلق عليه أيضا جهاز (الاسترخاء والتجديد)، لديه وظيفة استعادة التوازن بعد المواقف العصيبة”.
وهذا هو ما يحدث عندما يسير الإنسان في الطبيعة مثلا، وهو نشاط نقيض لما يحدث حال إثارة الجهاز العصبي السبمثاوي الذي يطلق عليه أيضا جهاز (المقاومة أو الهرب) حال الاستجابة للأماكن المزدحمة أو المجهدة.
وتقول بيرتو إن استجابة المقاومة أو الهرب ليست مرهقة فحسب، بل “إذا ظلت نشطة لفترات طويلة، تؤدي إلى تأثير مزمن يصيب القلب والأوعية الدموية والغدد الصماء، الأمر الذي يؤثر سلبا على صحة الشخص”.
وتشير أدلة علمية كثيرة إلى أن قضاء الوقت في الطبيعة يمكن أن يكون مفيدا بالنسبة لنا، فقد خلصت إحدى الدراسات الكبيرة التي أجراها علماء في جامعة إكستر في المملكة المتحدة إلى أن تفاعلنا مع الطبيعة لمدة 120 دقيقة أسبوعيا يجعل الأشخاص يشعرون بأنهم أكثر صحة وسعادة.
كما تشير العديد من الدراسات إلى أن الاستجمام في الغابات، على سبيل المثال، ينطوي على فوائد صحية بدنية ونفسية، ومن بين التجارب ذات الشواهد تجربة تشير إلى أن الاستجمام في الغابات يفيد بشكل خاص للحد من الاكتئاب.
إن السبب الدقيق الذي يجعل قضاء الوقت في الغابات يمكن أن يكون له هذا التأثير لا يزال أمرا مطروحا للنقاش، وتضيف بيرتو أن الأمر بشيء أكثر بساطة يتمثل في أن “التفاعل مع الطبيعة هو الطريقة الأكثر فعالية وتخلو من التكلفة لمن يرغب في التعافي من التوتر”.
عزز هذا المفهوم ما أُطلق عليه “صناعة التعافي”، وأصبحت قطاعا من قطاعات الأعمال العملاقة على مستوى العالم والتي تدر 5.6 تريليون دولار، وتشمل كل شيء بدءا من بطانيات الجاذبية والأجهزة القابلة للارتداء إلى حبوب إنقاص الوزن، فكل ما تحتاجه هو الاستمتاع بالأماكن الخارجية الرائعة وبعض التركيز على البيئة المحيطة بك.
وتقول هولي آن باسمور، الأستاذة المساعدة في علم النفس بجامعة كونكورديا في إدمونتون ومديرة أبحاث: “الأشخاص الذين يلاحظون الطبيعة من حولهم، تكون مستويات السعادة لديهم أعلى”.
ورصدت باسمور، في دراسات أجرتها، أن الأشخاص لم يشعروا بقدر أقل من القلق والتوتر بعد ملاحظة الطبيعة من حولهم فحسب، بل أصبحوا أكثر هدوءا وسعادة وازدادت حماستهم.
وتضيف: “هذه المجموعة من المشاعر الإيجابية التي يشعر بها الناس هي الأكثر أهمية لتعزيز الشعور بالسعادة لدى الفرد، كل هذه الأنواع المختلفة من المشاعر مهمة حقا لعيش حياة كاملة ومزدهرة”.
ويتجاوز الأمر مجرد قضاء وقت في الطبيعة، فمقدار ما تشعر به من ارتباط بتلك الطبيعة يحدث فرقا بالطبع، وتقول باسمور: “عندما تنخرط بشكل أعمق (في الطبيعة)، تجني فوائد جمّة”.
أما بالنسبة لأنشطة مثل التزلج على الماء أو التزلج على الجليد، تصبح البيئة الطبيعية بمثابة خلفية للنشاط الذي تمارسه، وليس شيئا تتفاعل معه، وتفسر باسمور: “في تلك الأنشطة، أنت لا تتواصل حقا مع الطبيعة ولا تحصل على تلك الفوائد”، وعلى هذا النحو، تقدم المزيد من الفنادق والمنتجعات طرقا أكثر عمقا وتركيزا لمساعدتك على التواصل مع الطبيعة.
ففي منتجع “ويكابوغ إن” في ويسترلي، رود آيلاند، يساعد عالم الطبيعة المقيم مارك هينجين النزلاء في تحديد طرق تهدف إلى التفاعل مع بيئتهم الطبيعية على المحيط الأطلسي، فعلى سبيل المثال، في ليلة اكتمال القمر، يمكنهم ممارسة رياضة التجديف بقوارب الكاياك في بركة الملح الخاصة بالمنتجع، مما يعزز الحواس بطرق فريدة، مثل سماع تلاطم الأمواج من بعيد أو شم رائحة الهواء المالح.
ويقول هينجين: “إنها تجربة مختلفة في الليل”.
ويستطيع النزلاء بعد ذلك المشي على الشاطئ وإلقاء نظرة على حلقات زحل وأقمار المشتري من خلال أجهزة التلسكوب، كما تشمل الأنشطة الطبيعية الأخرى التفاعل مع النظام البيئي المحيط، بدءا من المحار إلى سرطان البحر وحتى مشاهدة فقمة المرفأ المحلية.
ويقول هينجين: “جزء من الطبيعة هو أن تأخذ وقتا وتتواصل مع الشيء، سواء كان طائرا أو صخرة أو الكون في حد ذاته”.
ويوجد منتجع آخر هو “غريفيلد إن”، الواقع في جزيرة كمبرلاند قبالة ساحل جورجيا، يقدم إرشادات للنزلاء للاستمتاع بتجارب قائمة على الطبيعة في الغابة البحرية القريبة والكثبان الرملية والمحيط.
وكما لاحظت عالمة الطبيعة الرائدة، كريستينا نيلسون، فإن الفصول المتغيرة والمد والجزر والحيوانات تضمن أن تكون هناك دائما تجربة فريدة من نوعها، وتقول: “لا توجد جولات معدة مسبقا، نحن نتبع الجدول الزمني للطبيعة”، وهذا يتيح للنزلاء الوقت والإذن بالهدوء والنظر إلى الأشياء الصغيرة وإعادة التواصل مع أنفسهم بقدر ما يتواصلون مع تلك الطبيعة.
وإن كانت منتجعات أخرى لا تضم بين فريقها علماء طبيعة، فإنها تسعى دوما إلى تحديد طرق تجعلك أكثر قربا من الطبيعة، فعلى سبيل المثال، في ريف توسكان، يضم منتجع بورغو سانتو بيترو، ما يزيد على 300 ألف نوع من النباتات في حدائقها البرية المشذبة التي يمكنك التنزه فيها، فضلا عن تنظيم تجارب ممتعة مثل قطف الزهور والصيد بالصقور.
ويوفر منتجع “كيويناو ماونتن لودج”، الواقع في شبه جزيرة ميشيغان العليا، أنشطة على مساحة 560 فدانا، من بينها الاستمتاع بالطيور ومشاهدة النجوم.
ولا يعني ذلك أنك بحاجة إلى منتجع فاخر كي ينظم لك أنشطة حيوية تجني فوائدها، فهناك التخييم والتجديف بالكاياك ومراقبة الطيور والمشي على الشاطئ، أو مجرد النظر إلى الشلالات، مفتاح الفكرة هو الوجود في المكان.
وتقول باسمور: “قف هناك واستوعب كل ما حولك، بماذا تشعر؟ ما رائحة الشيء؟ ماذا تسمع؟ ما إحساسك بكل هذه الأشياء؟”
بعد ثلاث جولات للتفاعل والاستجمام في الغابة، أشعر بالفعل بالهدوء، وأصبحت أكثر ارتباطا بالبيئة. قامت ستايسي بتعبئة الشاي، الذي نرتشفه ونحن نطل على جوف عميق، والشمس أعلى في السماء، في حين تقف ضفادع “تختلس النظر”. هناك وعي ذاتي يجعلني أشعر بأنني على قيد الحياة بدنيا.
وإذا كان أحد أسباب سفرنا هو تجديد النشاط، فإن الأنشطة الحيوية هي جزء أساسي من العطلة، وتقول باسمور: “إذا بدأت ملاحظة الطبيعة من حولك أثناء الإجازة، فمن المرجح أن تفعل ذلك عندما تكون في المنزل”.
بمعنى آخر، يمكن أن تكون الطبيعة هي المفتاح للشعور الدائم بالسعادة الذي نسعى إليه عندما نسافر.