آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أسبوع ديني في حياتهم؟
- Author, وائل جمال
- Role, بي بي سي نيوز عربي
“ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يُسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الأمم” (مر 33:10)، سجل إنجيل القديس مرقس ما أعلنه المسيح لتلاميذه عن مشاهد آلامه التي يُطوى بها الفصل الأخير من فصول خدمته على الأرض، والتي استمرت ثلاث سنوات، لتظل هذه الآلام وأحداثها ورموزها، على مدار نحو ألفي عام، أهم وأقدس المناسبات المسيحية في شتى أرجاء العالم.
ويحتفل أقباط مصر الأرثوذكس، مع كنائس التقويم الشرقي، بأسبوع الآلام الذي يعتبرونه أقدس مناسباتهم الدينية، ويبرز ذلك في طقوس تمتد لقرون عديدة، تعكس روحانية خاصة وملامح لحظات ومشاهد مليئة بتفاصيل يغتنمها المؤمنون للإكثار من حياة التأمل والصلاة طلبا للتعزية و”شركة الآلام” مع المسيح في تلك الأيام.
وأسبوع الآلام أو أسبوع “البصخة” – وهي كلمة آرامية تأتي بصيغتي “بسخا” و”فصحا” بحسب ما ذكره “المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم” للخُوري بولس الفغالي، وانتقلت إلى اليونانية واللغات الأوروبية والعربية وتعني “العبور” – يُطلق على فترة الأيام واللحظات الأخيرة في حياة يسوع المسيح على الأرض، وينتهي الأسبوع بـ “أحد القيامة”، ويحمل كل يوم اسما يميزه ويرمز إلى أحداثه: سبت لعازر، أحد الشعانين، إثنين البصخة، ثلاثاء البصخة، أربعاء البصخة (أربعاء أيوب)، خميس العهد، الجمعة العظيمة، سبت النور.
ونستطيع رصد تاريخ وملامح الطقوس القبطية في تلك الأيام اعتمادا على عدة مصادر أبرزها دراسة أعدّها ألبير جمال ميخائيل بعنوان “التمام في طقس أسبوع الآلام قطمارس ودلال أسبوع الآلام”، ودراسة الأغنسطس إبراهيم عياد جرجس ولجنة التحرير والنشر بمطرانية بني سويف بعنوان “ترتيب أسبوع الآلام بحسب طقس الكنيسة القبطية”، ودراسة بيشوي فايز بعنوان “أسبوع الآلام، تأملات وتفاسير في أحداث وأناجيل أسبوع الآلام ساعة بساعة”، وتأملات الأب متى المسكين بعنوان “تأملات في أسبوع الآلام، من جمعة ختام الصوم إلى جمعة الصلبوت”، وتأملات الأنبا شنودة الثالث بعنوان “تأملات في أسبوع الآلام”، ودراسة “دراما الصليب” لمطرانية المنيا وأبو قرقاص، للأنبا مكاريوس أسقف المنيا العام.
أسبوع الآلام في تاريخ الأقباط
يستخدم تعبير “أسبوع الآلام” بين الأقباط اليوم على نطاق واسع، بيد أن البعض يضيفون أبعادا إيمانية أخرى لمضمون المناسبة وكونها لا تتحدث عن آلام عادية تنطوي على توجع ومعاناة فحسب، بل هي آلام يصفونها بالـ “خلاصية”، بحسب العقيدة المسيحية، كما ذكر الأب متى المسكين في تأملاته مشيرا إلى أن أسبوع البصخة “ليس أسبوع آلام عقيمة أو آلام فحسب، بل آلام عبور، آلام فصحية…”.
وتلفت دراسة “دراما الصلب” لمطرانية المنيا وأبو قرقاص إلى أن “أسبوع الآلام أهم أسبوع في السنة كلها، فإذا كان الصوم الكبير هو أهم موسم في السنة، فإن أسبوع الآلام هو أقدس أيام هذا الموسم لذلك فهو بالتالي أقدس أيام السنة كلها… وقديما كانوا يحتفلون به مرة كل ثلاثة وثلاثين عاما، حتى انتبه أحد البطاركة إلى أن هناك بعض من الناس يولدون ويموتون دون الاحتفال به، فقرروا الاحتفال به سنويا، بل وضم أسبوع الآلام على الصوم”.
ويقول الأنبا شنودة الثالث في دراسة “تأملات في أسبوع الآلام” :”كان هذا الأسبوع مكرسا كله للعبادة، يتفرغ فيه الناس من جميع أعمالهم، ويجتمعون في الكنائس طوال الوقت للصلاة والتأمل”.
ويضيف: “كان الملوك والأباطرة المسيحيون يمنحون جميع الموظفين في الدولة عطلة ليتفرغوا للعبادة في الكنيسة خلال أسبوع الآلام. وقيل إن الإمبراطور ثيئودوسيوس الكبير كان يطلق الأسرى والمساجين في هذا الأسبوع المقدس ليشتركوا مع باقي المؤمنين في العبادة، لأجل روحياتهم وتكوين علاقة لهم مع الله، ولعل ذلك يكون تهذيبا لهم وإصلاحا”.
ويتابع الأنبا شنودة وصفه لتاريخ الطقس على المستوى الاجتماعي قائلا إن السادة أيضا كانوا يمنحون الخدم عطلة طول أسبوع البصخة “فمن حق الخدم أن يتفرغوا أيضا من أعمالهم لعبادة الرب”، ويضيف في دراسته “هكذا لا تكون روحيات السادة مبنية على حرمان العبيد، بل الكل للرب، يعبدونه معا ويتمتعون معا بعمق هذا الأسبوع وتأثيره”.
كان المسيحيون في القرون الثلاثة الأولى يصومون يومين أو ثلاثة أيام قبل عيد الفصح، ولكن في القرن الثالث بدأوا يصومون ستة أيام قبل العيد، وقد بدأ هذا الطقس في كنيسة أورشليم ثم انتقل إلى الكنائس الأخرى.
وكان أسبوع الآلام في مصر منفصلا عن الصوم الكبير، “الصوم المقدس”، إلى أن ضم البابا أثناسيوس الرسولي في عام 330 ميلاديا، الصوم الكبير مع أسبوع البصخة، وكان يبدأ يوم الاثنين التالي لأحد الشعانين.
وفي عصر لاحق، في القرن السادس أو السابع، اعتُبر سبت لعازر بداية أسبوع البصخة، وهو ما ذكره ساويرس بن المقفع، أسقف الأشمونين، في القرن العاشر الميلادي، بحسب دراسة ألبير جمال ميخائيل.
بيد أنه في أعقاب دخول طقس يطلق عليه “الجناز العام”، اعتبره الأقباط فاصلا محددا لبداية أسبوع البصخة، لذا نرصد ما قاله ابن سباع، من القرن الثالث عشر، عن كون بدء أسبوع البصخة هو الساعة 11 من يوم أحد الشعانين، وهذا أيضا ما ذكره ابن كبر من القرن الرابع عشر.
أما اليوم فكثيرون يضمون أحد الشعانين إلى أسبوع البصخة دون سبت لعازر، بيد أن الجميع، عبر العصور، يتفقون على أن هذا الأسبوع ينتهي بانتهاء “سبت النور” وبداية طقوس “أحد القيامة”.
كان الأقباط في مصر، بحسب دراسة ألبير جمال ميخائيل، يجتمعون في أسبوع الآلام ويقرأون الكتاب المقدس كاملا بعهديه “القديم والجديد”، إلى أن جاء الأنبا غبريال الثاني (ابن تريك)، البابا السبعون من بطريركية الإسكندرية عام 1131 ميلاديا، ونظرا لكثرة مشاغل الناس في مناحي الحياة وعدم استطاعتهم تكميل القانون الرسولي في هذا الشأن، جمع كهنة ورهبانا، ووضعوا كتابا سموه “كتاب البصخة” يضم ما يلائم من الكتب الأخرى.
رُتبت في هذا الكتاب صلوات باكر وآخر النهار وبقية الصلوات الليلية والنهارية، وصار معمولا به، إلى أن جاء الأنبا بطرس، أسقف مدينة البهنسا بالمنيا في صعيد مصر، في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، وأعاد ترتيب كتاب البصخة، وأضاف إلى كل ساعة ما يناسبها من قراءات النبوات والأناجيل الأربعة، فصارت قراءات الساعات متساوية.
كما وضع الأنبا بطرس لكل يوم عظتين من أقوال الآباء، كما رتب خلال الأيام قراءة الأناجيل، في يوم الثلاثاء يُقرأ انجيل القديس متى، وفي يوم الأربعاء يُقرأ إنجيل القديس مرقس، وفي يوم الخميس يُقرأ إنجيل القديس لوقا، وفي ليلة العيد يُقرأ إنجيل القديس يوحنا، وكذلك المزامير ليلة سبت الفرح.
طقوس الأقباط في أسبوع الآلام
يحتفل الأقباط بأسبوع الآلام كل عام بقراءات دينية تبرز “رحمة الله على البشرية”، وتسلط الضوء على “آلام المسيح”، مع توشح الكنائس بالأغطية السوداء، وتغطية الأيقونات وبعض الجدران والأعمدة أيضا، تعبيرا عن حالة الحزن وشركة الآلام.
ويقول الأنبا شنودة الثالث في تأملاته: “اختارت الكنيسة لهذا الأسبوع قراءات معينة من العهدين القديم والجديد، كلها مشاعر وأحاسيس مؤثرة للغاية توضح علاقة الله بالبشر. كما اختارت له مجموعة من الألحان العميقة، ومن التأملات والتفاسير الروحية”.
وقسم الأقباط، خلال أسبوع الآلام، اليوم إلى خمس سواعي نهارية (أي صلوات في ساعة محددة) وخمس سواعي ليلية. الخمس النهارية تحتوي على صلوات (باكر، ثالثة، سادسة، تاسعة، حادية عشرة)، والخمس الليلية تحتوي على (أولى، ثالثة، سادسة، تاسعة، حادية عشرة)، أما في يوم الجمعة العظيمة فيصلي الأقباط صلاة سادسة وهي صلاة الثانية عشر.
رُتبت صلوات كل ساعة، بحسب دراسة بيشوي فايز، لتشمل النبوات والعظة والتسبحة والمزمور والإنجيل والطرح والطِلبة ولحني “أبؤرو” و”كيرياليسون” والبركة:
- النبوات، وتُقرأ باللغة القبطية وتُفسر باللغة العربية، وتُقرأ قبل الإنجيل لإبراز نبوات الأنبياء عن السيد المسيح.
- العظة، في السواعي النهارية فقط، وتكون لقديسين عظماء عند الأقباط مثل (البابا أثناسيوس الرسولي والأنباء شنودة رئيس المتوحدين…).
- التسبحة، وهي بالقبطية ثوك تي تي جوم (لك القوة والمجد ..) وتُقال 12 مرة في كل ساعة من سواعي البصخة.
- المزمور، يرتل بلحن يُطلق عليه الأدريبي، وهي طريقة حزينة تناسب مناسبة الأسبوع.
- الإنجيل، يُقرأ باللغة القبطية ويُفسر باللغة العربية، ويُلحن بلحن حزين. فضلا عن الطرح، وهو يتضمن معنى إنجيل تلك الساعة، والحث على العمل بما جاء فيه.
- الطِلبة، وفيها التماس رحمة الله وبركته للجميع وقبول الصلوات المرفوعة أمامه، وأيضا من أجل سلام العالم وسلام البشرية، وخير كل إنسان.
- لحن أبؤرو إنتي تي هيريني (يا ملك السلام ..) ولحن كيرياليسون (يا رب إرحم)، بعد نهاية الطِلبة يرتل الأقباط اللحنين بطريقة حزينة.
- البركة، يتلوها الكاهن ثم الصلاة الربانية ويصرف الجموع بسلام.
ماذا حدث في أسبوع الآلام؟
يُطلق على كل يوم من أيام أسبوع الآلام كما ذكرنا اسما رمزيا مميزا لأبرز ما وقع فيه من أحداث: سبت لعازر، أحد الشعانين، إثنين البصخة، ثلاثاء البصخة، أربعاء البصخة (أربعاء أيوب)، خميس العهد، الجمعة العظيمة، سبت النور، وفيما يلي أهم ما وقع من أحداث في هذه الأيام بغية التعريف بها بإيجاز كما دونتها الأناجيل الأربعة.
هو السبت الذي يلي جمعة ختام الصوم المقدس، ويسمى أيضا سبت الشعانين كما ورد في كتاب ترتيب البيعة، أي يوم السبت السابق ليوم أحد الشعانين، ويحتفل الأقباط فيه بمعجزة إقامة يسوع المسيح لعازر من بين الأموات بعد أن أنتن في قبره ودُفن أربعة أيام.
تشير مصادر إلى الاعتقاد بأن هذه المعجزة حدثت يوم الجمعة أو قبل ذلك، بيد أن الكنيسة القبطية جعلت تذكارها في يوم السبت السابق لأسبوع الآلام بعلة أن رؤساء كهنة اليهود، بحسب الإنجيل، كانوا قد قرروا قتل المسيح بعد هذه المعجزة مباشرة، لذا ضمها الأقباط إلى أسبوع الآلام.
ورد ذكر معجزة إقامة لعازر من بين الأموات في إنجيل القديس يوحنا 11، لذا حرصت الكنيسة القبطية على ترتيب أربعة تذكارات له في كتاب السنكسار، الكتاب الذي يضم سير القديسين وتواريخ الأعياد والأصوام، مرتبة حسب أيام التقويم القبطي، كما يلي: تذكار موت لعازر (المرة الأولى) في 17 برمهات، تذكار إقامته من بين الأموات في 20 برمهات، وتذكار تشاور اليهود لقتله في 21 برمهات، وتذكار موته في 27 بشنس.
“أحد الشعانين”
يعد أحد الشعانين، وهي كلمة عبرية “هوشعنا (أي يا رب خلّص)”، من الأعياد الكبرى لدى الأقباط، ويُحتفل فيه بألحان الفرح قبل الدخول في ألحان البصخة الحزينة الأيام التالية له.
يُطلق على أحد الشعانين تسمية أخرى في مصر حتى الآن وهي “أحد السعف”، وذلك لأن الأقباط منذ القدم وحتى الآن يحملون في هذا اليوم سعف النخيل بمظاهر الفرح مثلما فعلت الجموع قبل ألفي عام عند استقبالهم للمسيح في أورشليم.
يحي هذا اليوم تذكار دخول المسيح أورشليم، واستقبال الجموع له بسعف النخيل، مهللين “أوصنا يا ابن داوود”، وأوصنا كلمة يونانية بمعنى “خلصنا”، فقد كان اليهود، بحسب تفاسير الكتاب المقدس، ينتظرون ملكا أرضيا يخلصهم من حكم الرومان، واعتقدوا أن المسيح هو هذا الملك، ولكن عندما عرفوا أنه جاء ليبشرهم بملكوت الله لا ليخلصهم من بطش الرومان، صرخوا لاحقا أمام بيلاطس البنطي، والي مقاطعة اليهودية الروماني، (أصلبه أصلبه، دمه علينا وعلى أولادنا).
ورد ذكر موكب دخول المسيح أورشليم في الأناجيل الأربعة، من بينها ما ذكره إنجيل القديس مرقس: “وكثيرون فرشوا ثيابهم في الطريق. وآخرون قطعوا أغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق. والذين تقدموا، والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: (أوصنا! مبارك الآتي باسم الرب! مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب! أوصنا في الأعالي)” (مر11: 8-10).
وتعد السائحة الإسبانية “إيجيريا” في القرن الرابع الميلادي أول من وصف موكب الشعانين، وقالت إنه بدأ في أورشليم ثم انتقل إلى الكنائس الشرقية، وتشير دراسة ألبير جمال ميخائيل إلى أن الأقباط اعتادوا قديما وحتى القرن الـ 12 الخروج مساء عيد أحد الشعانين في موكب جليل وهم يحملون الصليب وسعف النخيل ويجوبون أرجاء المدن والقرى، ينشدون التراتيل والألحان وقراءة الكتاب المقدس، وأُبطلت هذه العادة في زمن البابا مرقس الثالث، البابا الـ 73 من بطاركة الإسكندرية.
“إثنين البصخة”
يوافق هذا اليوم خروج المسيح مع تلاميذه، بحسب الإنجيل، من بيت عنيا متجها إلى هيكل أورشليم، ووجد في الطريق شجرة تين مورقة، فذهب ليأكل من ثمارها، فلم يجد بها ثمرا فلعنها فذبلت في الحال، ثم ذهب إلى أورشليم ودخل الهيكل وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام، فحنق عليه رؤساء الكهنة وفكروا في قتله، وبعدما “طهر” الهيكل، خرج من أورشليم مع تلاميذه وذهب إلى بيت عنيا.
وتشير تفاسير العهد الجديد إلى أن شجرة التين هنا ما هي إلا إشارة ترمز إلى الأمة اليهودية العقيمة، أما دخول المسيح للهيكل، فهو من أجل تطهيره من ممارسات رؤساء الكهنة التي تعارضت مع دورهم الديني وانحرفوا عن المسار.
“ثلاثاء البصخة”
يوافق هذا اليوم استكمال أحداث اليوم السابق له، وفيه يكشف المسيح، بحسب تتبع الأحداث في الأناجيل الأربعة، الكثير من الأمور والأسرار التي كان التلاميذ يسألون عنها وتاقوا إلى أن يعرفوها.
تخللت أحداث اليوم، بعد مرور المسيح صباحا على شجرة التين (التي لعنها أمس)، قضاء المسيح وقتا ليجاوب على أسئلة التلاميذ، وأيضا الرد على أسئلة الفريسيين والصدوقيين الذي أتوا لـ “يصطادوه بكلمة”، الفريسيون سألوه عن جواز إعطاء الجزية لقيصر، والصدوقيون سألوه عن القيامة المنكرين لها.
“أربعاء البصخة (أربعاء أيوب)”
يوافق هذا اليوم من الأحداث أن المسيح قضى يومه في بيت عنيا وأخذ يعد تلاميذه لأحداث الأيام القادمة. أما رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ فاجتمعوا في دار رئيس الكهنة قيافا، بغية التشاور للقبض على المسيح وقتله، وكانوا يريدون الإمساك به بعيدا عن أورشليم والهيكل وفي يوم غير أيام العيد حتى لا يهيج الناس عليهم.
وأثناء تشاورهم جاءهم يهود الإسخريوطي، أحد التلاميذ الإثنى عشر للمسيح، عارضا عليهم تسليمه مقابل بعض المال، واتفقوا على أن يعطوه ثلاثين من الفضة ثمنا لخيانته.
كان الأقباط في الماضي يقرأون سفر أيوب كاملا في يوم الأربعاء هذا، على اعتبار آلام أيوب تذكرة بآلام المسيح، بحسب التقليد، كما أنه كان يُقرأ ميمر أيوب، وميمر كلمة سريانية تعني سيرة قديس، في الساعة السادسة من يوم الأربعاء، وهذا هو سبب تسمية أربعاء البصخة بأربعاء أيوب، ويُقال إن الأقباط كانوا يمارسون عادة قديمة في هذا اليوم، إذ كانوا يستحمون بماء يضعون فيه نبات “رعرع أيوب”.
يعد خميس العهد، أو الخميس الكبير، من أهم أيام أسبوع الآلام، وهو اليوم الذي جرى فيه إعداد الفصح وغسل أرجل التلاميذ، وكذلك تأسيس سر الشكر، فضلا عن خيانة يهوذا الإسخريوطي للمسيح وتسليمه لليهود.
تناول المسيح مع تلاميذه في هذا اليوم العشاء، المعروف باسم العشاء الأخير أو العشاء السري، وأسس سر الشكر بعد أن “أخذ خبزا وبارك وكسر وأعطى التلاميذ” وطلب منهم أن يحفظوا هذه الذكرى، كما أخبر المسيح تلميذه بطرس في هذا اليوم أنه (بطرس) مُزمِع أن ينكره ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك مرتين، ردا على إعلان ثقته بإيمانه الراسخ، كما شهد هذا اليوم خروج المسيح ليصلي في بستان جثسيماني، كلمة آرامية بمعنى معصرة الزيت وفقا لدائرة المعارف الكتابية، في جبل الزيتون.
تركز صلوات الأقباط، باكر والثالثة والسادسة والتاسعة، على الإعداد للفصح، أما صلاة “اللقان”، وهي كلمة يونانية معناها المَغسَل (إناء الاغتسال)، في هذا اليوم فهي تذكرة بطقس غسل أرجل التلاميذ، والقداس الإلهي هو تأسيس سر الشكر.
وخلال قداس خميس العهد لا تُقال عبارة “قبّلوا بعضكم بعضا”، ولا تُقال أيضا في قداس سبت النور، في رمزية إلى نفور المؤمنين من قُبلة الخيانة التي طبعها يهوذا الإسخريوطي على وجنة المسيح لحظة تسلميه، “وكان مسلّمه قد أعطاهم علامة قائلا: الذي أُقبّله، هو هو. أمسكوه وامضوا به بحرص” (مر 44:14).
“الجمعة العظيمة”
بعدما أكل المسيح العشاء الأخير مع تلاميذه في أورشليم، وجاء يهوذا يرافق الجنود الرومان ليلا، وقُبض على المسيح، هرب التلاميذ وتركوه، غير أن اثنين منهم، بطرس ويوحنا، تبعا الجمع إلى دار رئيس الكهنة، حنّان، ثم إلى قيافا، وكان صهر حنّان، واجتمع أعضاء المجمع وعقدوا جلسة استثنائية لمحاكمة غير رسمية، وبقي المسيح معهم إلى قرب الفجر أو وقت صياح الديك، وفي أثناء ذلك أنكر بطرس المسيح ثلاث مرات، كما تنبأ عنه وأخبره.
كان المجمع اليهودي الكبير له وحده الحق الشرعي في الحكم على الدعاوى الجنائية التي تستوجب القصاص، بيد أن الحكومة الرومانية كانت قد انتزعت منه ذلك السلطان قبل سنوات، فأوثقوا المسيح وأرسلوه إلى بيلاطس البنطي، الحاكم الروماني والوالي على مقاطعة اليهودية (26-36 ميلاديا)، كما تنص جميع الأناجيل، بغية التصديق على حكمهم بموت المسيح بتهمة التجديف وإفساد الأمة.
مَثَل المسيح أمام بيلاطس الذي أعلن أنه بعد فحصه لحالته “لم يجد فيه علة واحدة تستوجب الموت”، وقال إنه سيؤدبه ويطلقه آملا بذلك أن يكون قد أرضى كهنة اليهود، لكنهم أصروا على “صلبه” وإطلاق سراح باراباس، المعروف بإثارة الشغب وكان مسجونا بسبب اضطرابات أحدثها مع السلطة الرومانية وارتكابه جريمة قتل بحقهم.
وتخبرنا الأناجيل “فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئا، بل بالحري يحدث شغبا، أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع قائلا: (إني بريء من دم هذا البار، أبصروا أنتم). فأجاب جميع الشعب وقالوا (دمه علينا وعلى أولادنا). حينئذ أطلق لهم باراباس، وأما يسوع فجلده وأسلمه ليُصلب” (مت 27: 24-26).
“سبت النور (سبت الفرح)”
يُعرف سبت النور أيضا باسم سبت الفرح، وهي الليلة الواقعة بين الجمعة العظيمة وأحد القيامة، بعد وضع جسد المسيح في القبر. وأُطلق على اليوم اسمه، بحسب الإيمان المسيحي، إشارة إلى “إشراق نور المسيح على الجالسين في الظلمة وظلال الموت”، ويُعرف سبت الفرح أيضا بأنه سبت التسبيح والتمجيد.
ويدور طقس وقراءات سبت الفرح حول فكرة انتقال بني البشر الذين كانوا في حكم الموت إلى الحياة مرة أخرى عن طريق تمسكهم بخالقهم الذي استجاب لهم، لذا تكون الألحان القبطية في هذه الليلة مزيجا من الحزن والفرح استعدادا لاستقبال “أحد القيامة”.
يحتل أسبوع الآلام مكانة خاصة في وجدان الأقباط على اعتباره مناسبة فريدة من نوعها، يعتبرونه أهم وأقدس أسابيع السنة، يقدم صورة بانورامية متكاملة للعبادة والتدين المسيحي، مع الاستيعاب التطبيقي لأحداثه ومعايشة المؤمنين له، ومن الناحية الإيمانية يرونه تجسيدا واضحا لعقيدة “الفداء” و”خلاص البشر”، لذا يحرص الأقباط على اغتنام هذه الأيام والانغماس في طقوسه الدينية بروحانية عميقة مقارنة بأي طقوس أخرى يمارسونها طوال العام.