القهوة: من أين تأتي؟ وما هو تاريخها؟ وكيف تؤثر على الجسم؟
من شوارع نيويورك الصاخبة إلى منحدرات تلال إثيوبيا الهادئة، تعتبر القهوة جزءا أساسيا من الحياة اليومية لملايين البشر.
وتحتل القهوة مكانة بارزة في ثقافة البشر منذ ما يزيد على 15 قرنا. والبعضُ ينسب إليها الفضل في حثّ الخُطى التنويرية في القرنين الـ17 والـ18، عندما وُضع الأساس للعالم الحديث.
ويعدّ الكافيين هو المكون التنشيطي الرئيسي في القهوة، كما يعتبر اليوم أكثر المواد المنشطة للذاكرة استهلاكا في العالم، طابعاً بذلك أثره على الطرق التي نفكر ونشعر بها.
من أين تأتي القهوة؟
تأتي القهوة من ثمار نبات البُن العربي، ومنشؤها الأساسي في إثيوبيا. ويتم إنتاج أكثر من 90% من القهوة في بلاد نامية، ولا سيما في أمريكا الجنوبية، لكنها أيضا تنتَج في فيتنام وإندونيسيا، بينما يُستهلك معظم هذا الإنتاج في الدول الصناعية.
وتقول الأسطورة إنه وفي القرن التاسع للميلاد، كان هناك راع للأغنام يُدعى خالدي، وقد لاحظ هذا الراعي أن عنزاته تزداد نشاطا وحيوية بعد أن تلتهم ثمار القهوة، فرأى أن يجرّبها بنفسه.
ومن يومها، والناس يتناولون حبوب القهوة المنقوعة أو يصنعون الشاي من أوراق النبات.
فيما تقول مصادر تاريخية إن المتصوّفة في اليمن كانوا هم أول من حمّص حبوب القهوة، في القرن الـ14 للميلاد، صانعين هذا المشروب المتعارف عليه اليوم.
وبحلول القرن الـ15، بدأت تظهر المقاهي في أنحاء الإمبراطورية العثمانية، ومن هناك انتشرت في ربوع أوروبا حيث أصبحت تلك المقاهي مراكز للحديث في التجارة والسياسة، فضلا عن الأفكار الجديدة بشكل عام.
ويذهب بعض العلماء، ومنهم الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني الشهير يورغن هابرماس، إلى أنه لم يكن ليحدث تنوير بدون القهوة.
وبحسب هابرماس، أصبحت المقاهي “مراكز للنقد” خلال القرنين الـ17 والـ18 حينما بدأ الرأي العام يتشكل.
ويُعتقد أن العديد من رموز التنويريين كانوا من عشاق القهوة؛ وكان الفيلسوف الفرنسي فولتير يتناول ما يزيد على 72 كوبا من القهوة يوميا، ويقال إن الفيلسوف الفرنسي دنيس ديدرو اعتمد على القهوة في وضع موسوعته التي تقع في 28 جزءا – والتي تعدّ أساسا للتنويريين، بحسب الكاتب الأمريكي مايكل بولان.
ويقول تيد فيشر، أستاذ الأنثروبولوجيا ومدير معهد دراسات القهوة بجامعة فاندربيلت الأمريكية، إن القهوة أيضا لعبت دورا رئيسيا في ظهور الرأسمالية.
وقال فيشر لبي بي سي: “القهوة غيّرت مسار التاريخ، كما شجّعت على تطوير الأفكار التي أثمرت التنوير والرأسمالية”.
وأضاف فيشر: “في نظري، لا يبدو الأمر مصادفة أن أفكاراً عن الديمقراطية، والعقلانية، والمذهب التجريبي، والعلم والرأسمالية قد حققت انتشارا واسعاً بالتزامن مع شيوع تناوُل مشروب القهوة”.
وتابع فيشر: “هذا المشروب الذي يحفز الفهم والتركيز، لابد أنه كان جزءا من السياق الذي أدى بدوره إلى الرأسمالية”.
وقد أدرك رجال الأعمال أن القهوة يمكن استخدامها لزيادة الإنتاجية، وسمحوا للعمال باستراحات لتناول هذا المشروب المنشّط.
الجانب المظلم للقهوة
ثمة جانب مظلم في تاريخ القهوة، وهو ذلك المتعلق بدورها في استغلال العبيد؛ ذلك أن الفرنسيين استغلوا العبيد الذين جلبوهم من أفريقيا في أعمال زراعة القهوة في هايتي.
وبحلول القرن التاسع عشر، كانت البرازيل تنتج ثلث القهوة في العالم باستخدام العبيد الأفارقة.
واليوم، تعدّ القهوة حجر زاوية في الثقافة العالمية، باستهلاك يومي يزيد على مليونَي كوب، بمعدل 90 مليار دولار سنويا.
وبعد حوالي 600 عام، لم يختلف الأمر كثيرا، بحسب منظمة هيفر إنترناشيونال غير الحكومية والتي تسعى للقضاء على الفقر والجوع في العالم.
وتقول المنظمة إن الناس من ذوي البشرة غير البيضاء لا يزالون يمثلون العمود الفقري لصناعة القهوة، وهم يعملون مقابل أجور زهيدة.
وفي نحو 50 دولة، يعتمد نحو 125 مليون شخص على صناعة القهوة كمصدر للكسب، وأكثر من نصف هذا العدد يعيشون في فقر.
كيف تؤثر القهوة على الجسم؟
فور تناوُل الكافيين فإنه يسافر عبر الجهاز الهضمي وصولا إلى مجرى الدم. على أن تأثيره يبدأ بمجرد وصوله إلى الجهاز العصبي. وتتشابه مادة الكافيين مع مادة الأدينوزين التي يفرزها الجسم بشكل طبيعي.
وتعمل مادة الأدينوزين هذه على تهدئة الجهاز العصبي الودّي، وذلك يؤدي إلى انخفاض في معدل نبضات القلب ما يورث بدوره شعورا بالاسترخاء والنعاس.
وتلتقي مادة الكافيين مع مستقبلات الأدينوزين الموجودة على سطح الخلايا العصبية، على نحو يشبه دخول المفتاح في القُفل. ولكن بتعطيل هذه المستقبلات ينتج الأثر العكسي.
وقد يؤدي ذلك إلى ارتفاع طفيف في ضغط الدم، وتحفيز نشاط المخ، وتقليص الشعور بالجوع وتعزيز الشعور باليقظة والانتباه، وبالتالي تعزيز التركيز لفترة أطول.
ويمتد أثر الكافيين إلى الحالة المزاجية فيقوم بتعزيزها، فيما يقلص الشعور بالإرهاق، ويحسّن الأداء البدني، وأحيانا ما يستخدم الرياضيون الكافيين كمكمّل غذائي.
ويمكن لهذه الآثار أن تدوم لفترة تتراوح بين 15 دقيقة وساعتين. ويستغرق الجسم مدة تتراوح بين خمس إلى 10 ساعات للتخلص من الكافيين بعد تناوُله، لكن آثاره يمكن أن تستمر لفترة أطول.
ولتعظيم الاستفادة من الكافيين، ينصح خبراء بالاعتدال في استهلاكه، وبتجنُّب تناوُله بعد منتصف اليوم وذلك من أجل تأمين أثره لدى تناوُل أول كوب من القهوة في صباح اليوم التالي.
ومن أجل صحة جيدة، ينصح الخبراء بألا يزيد مقدار استهلاك البالغين من الكافيين يوميا على 400 ملليغرام، بما يعادل حوالي أربعة إلى خمسة أكواب من القهوة.
ويذهب البعض أحيانا إلى تجاوز هذا الحدّ من أكواب القهوة يوميا، وقد يأتي ذلك بآثار جانبية كالأرق، والقلق، وسرعة خفقان القلب، واضطراب المعدة، والغثيان والصداع.
ويحذر خبراء من إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية من آثار خطيرة نتيجة للإفراط في استهلاك الكافيين والزيادة على 1,200 ملليغرام يوميا – بما يعادل 12 كوبا من القهوة.
أما الاعتدال في تناول القهوة، فيعتقد كثيرون أن له فوائد صحية، وأنه يقلل فُرص الإصابة بالعديد من الأمراض، بحسب الدكتور ماتاياس هِين، الباحث في جامعة هارفارد الأمريكية.
ويقول ماتاياس لبي بي سي: “تناوُل كوبين إلى ثلاثة أكواب يوميا يقلل خطر الوفاة، كما يقلل فرص الإصابة بداء السكري وبأمراض القلب والأوعية الدموية، بل وحتى ببعض أنواع السرطان”.
وبعد كل هذا، ربما عليك عزيزي القارئ قبل أن تتناول أول كوب جديد لك من القهوة أن تفكّر في هذا التاريخ الطويل.