كتاب يقارب استثمار “إيسيسكو” في الإنسان
عند سماع مصطلح الاستثمار تتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى المشاريع والأنشطة في مجالات الاقتصاد والمال والتجارة والشركات، ونستحضر مفاهيم من قبيل الاستثمار في العقار والبورصة والأسهم والسندات البنكية والانتفاع بالأصول. لكن الكتاب الجديد للأستاذ عبد القادر الإدريسي، عميد الصحافيين المغاربة، بعنوان “الاستثمار في الإنسان من النظرية إلى الممارسة.. الإيسيسكو نموذجا” يتمحور حول مفهوم جديد في حقل العلوم الاجتماعية والاقتصاد السياسي والتربية الحديثة هو مفهوم الاستثمار في الإنسان وتجلياته في أهم الوثائق المرجعية لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، وهي الخطة متوسطة المدى 2022-2025، ووثيقة التوجهات الاستراتيجية في أفق 2025، وخطة العمل الثنائية 2022-2023.
يقع الكتاب في 186 صفحة من القطع الكبير، عن مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، وهو الكتاب الخامس في سلسلة الكتب التي ألفها الأستاذ عبد القادر الإدريسي عن “الإيسيسكو”، وهي على التوالي: “الإيسيسكو، رهان على المستقبل عام 1997″، و”صناعة المستقبل.. الإيسيسكو نموذجا عام 2019″، و”ثلث قرن في يونسكو العالم الإسلامي.. وثائق ومذكرات عام 2022″، و”الإيسيسكو الجديدة.. الضمير الحضاري للعالم الإسلامي عام 2023”.
يشتمل الكتاب على مقدمة ومدخل تمهيدي وستة فصول ومبحث بعنوان “الإيسيسكو والاستثمار في القوة الناعمة”، وعدد من الملاحق. وفي مقدمة الكتاب أشار المؤلف إلى دواعي اهتمامه بدراسة قضايا الاستثمار في الإنسان، منوها بالمساعدة التي قدمها له المدير العام لـ”الإيسيسكو” الدكتور سالم بن محمد المالك من خلال تمكينه من الاطلاع على عدد من الوثائق المرجعية لـ”الإيسيسكو”. وأكد أن الكتاب شهادة على نجاح “الإيسيسكو” في أداء رسالتها الحضارية، حيث قال: “رأيت من الواجب علي الإدلاء بها وتسجيلها للتاريخ، على اعتبار أن انفراد منظمة في حجم الإيسيسكو بالتقدم المطرد والتطور المتواصل خلال فترة زمنية محددة هو إنجاز عظيم القيمة عالي المستوى حقيق بأن يدون في صفحات التاريخ” . وأعلن أنه وضع كتابه في إطار المنهج التكاملي التحليلي ليكون مصدرا من مصادر المعرفة الموثقة رهن إشارة الباحثين المهتمين بـ”الإيسيسكو”.
وفي المدخل التمهيدي تناول المؤلف الدلالات اللغوية والاقتصادية والاجتماعية لمفهوم ومصطلح الاستثمار، وقام بشرح المصطلح اعتمادا على أدبيات منظمة “اليونسكو” من خلال التعريف بحدود المصطلح، ودلالاته الإنسانية وعلاقته بالابتكار، ثم تفسير هندسة الاستثمار وعرض حلقاته المتداخلة، وشمول الاستثمار وامتداداته. وخلص في هذا المدخل التمهيدي إلى أن تجربة “الإيسيسكو” في الاستثمار في الإنسان تجربة رائدة تستحق أن تكون نموذجا يقتدى به.
وتمحور الفصل الأول من الكتاب حول الاستثمار في التربية وخصص له المؤلف حيزا وافرا من الصفحات بالمقارنة مع باقي الفصول. وقد تناول في هذا الفصل بالعرض والتحليل الأهداف الرئيسة الخمسة في قطاع التربية في “الإيسيسكو” ودورها في تحقيق الاستثمار في الإنسان، وعناصر الاستثمار في التربية، وقواعد تحويل التعليم، ومحاور توجهاتها الاستراتيجية التربوية. كما بين علاقة الاستثمار في التربية بالرقي الذهني والإبداع العقلي والتميز المعرفي، وبالتعليم المنصف. وأبرز المؤلف في هذا الفصل ملامح الفلسفة التعليمية والهندسة التربوية التي تأخذ بها “الإيسيسكو”، ودور التكنولوجيا الرقمية في خدمة الحق في التعليم من خلال تركيز “الإيسيسكو” على التعليم الإلكتروني والتعليم البديل والثقافة الرقمية، وسعيها الحثيث لبلورة الحق في تعليم جيد منصف وشامل. كما تحدث عن التربية الحديثة الجامعة بين المهارات الرقمية والقدرات الذكية، وأوضح المنحى التعاوني التشاركي للاستثمار في التربية الذي اتبعته “الإيسيسكو” في تعاونها مع الأطراف الخارجية في عملية الاستثمار. وخلص في ختام هذا الفصل إلى القول بأن الاستثمار في التربية هو نقطة الانطلاق في مشروع الاستثمار في مجالات تخصص “الإيسيسكو” الأخرى.
وفي الفصل الثاني تناول المؤلف موضوع الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا والابتكار، حيث أبرز الأبعاد المتعددة للاستثمار في العلوم وعلاقته الوثيقة بالاستثمار في التربية. واستعرض منجزات “الإيسيسكو” في قطاع العلوم والتكنولوجيا والابتكار ومشاريعها المبتكرة في استخدام التكنولوجيا، موضحا أن الاستثمار في العلوم من منظور “الإيسيسكو” يعزز جهود التنمية ويزيد في الثروة الوطنية وفي تأهيل الموارد البشرية، وبالتالي فهو مشروع رابح/ رابح لا خسارة فيه. كما تحدث عن الابتكار في الاستثمار الذكي في ضوء الوثائق المرجعية الرئيسة لـ”الإيسيسكو”، وبين كيف تدعم الابتكارات التكنولوجية الاستثمار العلمي. واستنتج المؤلف في ختام هذا الفصل أن الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا والابتكار ارتقى بـ”الإيسيسكو” إلى مرتبة عليا من التقدم، مؤكدا أن العالم الإسلامي في أمس الحاجة اليوم للاستثمار في هذا القطاع على منهج “الإيسيسكو”، وعلى ضوء رؤيتها الجديدة المتبصرة والحكيمة.
وخصص المؤلف الفصل الثالث من كتابه لعرض وتحليل رؤية “الإيسيسكو” الجديدة لقطاع العلوم الإنسانية والاجتماعية، واستهل هذا الفصل بإبراز حدود العلوم الإنسانية والاجتماعية، كما أشار إلى الأهداف الاستراتيجية لقطاع العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإلى مكونات رؤية “الإيسيسكو” الجديدة في هذا القطاع، واستعرض البرامج والأنشطة المنفذة في هذا المجال. كما تحدث عن مساهمة “الإيسيسكو” في بناء رأس المال البشري من خلال العناية بفئات الشباب والأطفال والنساء والفتيات، وتلبية الاحتياجات الإنسانية للفئات الهشة، موضحا أن “الإيسيسكو” كانت رائدة في الربط بين التنمية البشرية والتمكين الاجتماعي من أجل ترسيخ التماسك الاجتماعي والاستقرار والتنمية الاجتماعية. وتناول المؤلف في هذا الفصل بالتحليل المستفيض أهداف برنامج “بناء المجتمعات التي نريد”، الذي اعتبره نموذجا مبتكرا للاستثمار الناجح في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وأشار إلى مبادرة “الإيسيسكو” حول تفعيل الريادة في بناء السلام الإيجابي ودوره في تعزيز الاستثمار في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وتبين للمؤلف في ختام هذا الفصل أن “الإيسيسكو” تنهض بأدوار إنسانية تخدم السلام العالمي.
وفي الفصل الرابع تطرق المؤلف إلى أوجه استثمار “الإيسيسكو” في الثقافة والاتصال. وتحدث في البداية عن سمات الثقافة وخصائصها، وانتقل إلى توضيح دور الثقافة في التنمية المستدامة، مستعرضا الأهداف الاستراتيجية لـ”الإيسيسكو”، والأنشطة التي نفذتها في مجالات الثقافة والفنون والتراث والآثار والمتاحف والكتاب والنشر. وأبرز خصوصيات برنامج “الإيسيسكو” حول الاقتصاد الرقمي الاجتماعي التضامني، وتحدث عن التضامن الثقافي وعلاقته بالتكافل الاجتماعي. كما تحدث عن توظيف “الإيسيسكو” لتقنيات الذكاء الاصطناعي في مجالات التراث، مشيرا إلى أهمية التجديد الذي شهده برنامج عواصم الثقافة في العالم الإسلامي، وعناية “الإيسيسكو” بدعم السياسات الثقافية في الدول الأعضاء وتكييفها مع المستجدات. كما تناول بالتحليل علاقة التنمية الثقافية بالحفاظ على ثوابت الهوية ودور كراسي “الإيسيسكو” في خدمة أهداف هذه التنمية.
وتناول المؤلف في الفصل الخامس من كتابه موضوع الاستثمار في الشباب، واستهله بمبحث حول التكييف العلمي لمرحلة الشباب، لينتقل إلى إبراز مكانة الشباب في أولويات “الإيسيسكو”، المتمثلة في تخصيص برامج متعددة ومتنوعة لفائدتهم، ومن بينها برنامج المهنيين الشباب، وبرنامج تدريب الشباب والنساء على القيادة من أجل السلام والأمن، التي تعد في نظر المؤلف “القاعدة الصلبة للاستثمار في الشباب”. وأوضح المؤلف خصوصيات الشباب الباني لأسس الحضارة، الذي تركز عليه “الإيسيسكو” في استثمارها في الشباب، مشيرا إلى دلالات وأبعاد الاحتفال بعام “الإيسيسكو” للشباب.
وفي الفصل السادس، الذي اختار له عنوان “الاستثمار في المستقبل”، تحدث المؤلف عن ماهية المستقبل وأسس صناعته ومفهوم الاستثمار في المستقبل، مشيرا إلى أهداف مركز الاستشراف الاستراتيجي الذي أنشأته “الإيسيسكو” ضمن هيكلتها الإدارية الجديدة، ومبرزا الخطوط العريضة للرؤية الاستباقية والاستشرافية لـ”الإيسيسكو”، التي تنطلق من الحاضر، وتستند إلى الماضي، وتستشرف المستقبل. وتحدث المؤلف في هذ الفصل عن الاستثمار في علوم الفضاء، مستعرضا المنجزات التي حققتها “الإيسيسكو” في هذا المجال. كما أبرز الدلالات العملية للاستثمار في المستقبل، واختتم هذا الفصل بالإشارة إلى مبادرة “الإيسيسكو” حول “طرق الإيسيسكو للمستقبل”، وقال عنها إنها أحد المقومات القوية والأدلة المؤكدة على أن “الإيسيسكو” ماضية قدما في الاستثمار في المستقبل.
وأفرد المؤلف مبحثا لموضوع “الإيسيسكو والاستثمار في القوة الناعمة” استهله بالتعريف بدلالة مصطلح القوة الناعمة، موضحا أن “الإيسيسكو” تستثمر في القوة الناعمة من خلال الاستثمار في التربية، واستنتج أن استثمارات “الإيسيسكو” في القوى الناعمة تدعم التنمية الشاملة والمستدامة في دول العالم الإسلامي. وبعد ذلك استعرض مكونات خريطة “الإيسيسكو” حول الاستثمار في القوة الناعمة.
وفي خاتمة الكتاب طرح المؤلف أسئلة جوهرية حول أهمية الاستثمار الذي تقوم به “الإيسيسكو” في مجالات تخصصها. كما استعرض مدلولات استثمارات “الإيسيسكو”، وحدد خصائصها في سبعة عناصر هي: الحرص على ازدهار الحياة في الدول الأعضاء، والانفتاح على عوالم جديدة وفضاءات حديثة، والمضي قدما نحو المستقبل، وتحقيق الأهداف الإنسانية النبيلة، وتعزيز التضامن والتعاون، وإعطاء الأسبقية للمنحى المعنوي، والعمل برؤية شاملة ومتجددة ومتبصرة وشفافة.
وخلص المؤلف إلى أن الهدف الاستراتيجي لـ”الإيسيسكو” هو بناء السلام العالمي، وإرساء القواعد لتعميق الإخاء الإنساني من خلال تجديد البناء الحضاري. واستنتج أن برامج وأنشطة خطة عمل “الإيسيسكو” في مجالات التربية والعلوم والثقافة والاتصال هي في مجملها ذات طابع استثماري وليست تصنيفات برامجية وتفريعات لمشاريع محددة وضعت لأغراض عابرة غير ثابتة، وبالتالي فهي خطة استثمارية بالمفهوم العملي العميق للاستثمار.
من خلال قراءة متأنية لمحتويات هذا الكتاب تبين لي أن مؤلفه الأستاذ عبد القادر الإدريسي اعتمد المنهج التحليلي بطريقة علمية رصينة تساعد على الاستيعاب الجيد للرؤية الاستراتيجية الجديدة لـ”الإيسيسكو”، والإلمام الشامل بأوجه الاستثمار في الإنسان تربويا وعلميا وثقافيا. لقد كان موفقا في اختيار عنوان كتابه الجديد، والتزم بخطوات منهجية واضحة ومنسجمة في عرض وتحليل مظاهر الانتقال من التنظير إلى التطبيق في موضوع الاستثمار في الإنسان. وعلى هذا الأساس المنهجي نجده في كل فصل من فصول الكتاب ينطلق من الإطار العام النظري التأصيلي لمفهوم الاستثمار في الإنسان كما حدده خبراء باحثون أو مؤسسات ومنظمات دولية مثل “اليونسكو”، ثم ينتقل إلى كشف البعد التطبيقي لهذا المفهوم في الوثائق المرجعية لـ”الإيسيسكو”، ومناقشته وتحليله، واستخلاص خصوصياته، وإبراز تميزه وابتكاره. لذلك لم يكن الكتاب انطباعات وخواطر ومشاعر لحظية للأستاذ عبد القادر الإدريسي، الذي قضى زهرة عمره في خدمة “الإيسيسكو” موظفا مواظبا غزير الإنتاج، وناكرا للذات على مدة 32 سنة في خدمة الرسالة الحضارية لـ”الإيسيسكو”. ولم يسقط في التمجيد والإطراء والتلميع، بل قام بدراسة علمية بالغة الأهمية تتيح للباحثين والمهتمين ولجهات الاختصاص في الدول الأعضاء، بل ولموظفي “الإيسيسكو” القدامى والجدد، زادا كبيرا من المعلومات، وفيضا غنيا من التحليلات الشاملة والعميقة حول الرؤية الاستراتيجية الجديدة والمتجددة لـ”الإيسيسكو”، التي ابتكرها مديرها العام الدكتور سالم بن محمد المالك، وتابع وما زال يتابع مع معاونيه من القيادات والخبراء وباقي أصناف الموظفين مراحل تنزيلها بصبر وابتكار وتجديد يستحق كل التشجيع والتنويه، ويبعث على الثقة في أن “الإيسيسكو” تسير في الاتجاه السليم، وتعمل بجدية وإخلاص من أجل الاستثمار النافع في الإنسان والمساهمة في تحقيق التنمية والازدهار لدول العالم الإسلامي.