خبير مائي يثير اختلالات بسهول الغرب
دفعت السنوات “الستُّ العِجاف” المستمرة إلى غاية الموسم الفلاحي الحالي عدداً من الخبراء المختصين في مجالَيْ الماء والفلاحة بالمغرب إلى إطلاق صرخات تحذير جدِّية بخصوص “استنزاف الطبقات المائية الجوفية”، و”التأثيرات البيئية” لأبعاد “تملّح مياه الآبار العميقة” على المنظومة الإيكولوجية برمتها.
لعل أبرز هذه الصرخات ما ورد في ورقة تحليلية مفصلة للخبير الدولي في الموارد المائية محمد بازة (حصلت جريدة هسبريس على نسخة منها)، سجل فيها أن “منطقة الغرب تعيش في السنوات الأخيرة كارثة إيكولوجية، حيث يُعيد تاريخ جهة سوس- ماسة نفسه في ظروف أكثر صعوبة”، خاصة في “المنطقة الساحلية الممتدة بين سلا والحد الشمالي لحوض سبو التي تشهد تحولا كبيرا من الناحية البيئية- الطبيعية”.
“عوامل خطر لاستغلال موارد الماء”
استعرض الخبير في الموارد المائية ما وصفها بـ”عوامل الخطر” المرتبطة باستغلال الموارد المائية في منطقة سهول الغرب، بالإضافة إلى “العواقب الرئيسية التي يمكن أن تنجم عن ذلك”، محدداً إياها في ثلاثة عوامل: أوّلها “آثار تغير المناخ”، إذ توقّع أن تكون “المنطقة الشمالية الغربية من المغرب، التي كانت حتى الآن بمنأى نسبيا عن تأثيرات تغير المناخ، أكثر تأثرا على الأقل بقدر بقية البلاد في السنوات المقبلة”. كما توقع، إلى جانب زيادة الجفاف ودرجات الحرارة، “انخفاض في هطول الأمطار وإمدادات المياه”.
ثاني عوامل الاختطار يتمثل في “تعبئة المياه السطحية والتحويلات بين الأحواض المائية”، إذ يتم بناء سد الرتبة، الذي يعد ثاني أكبر سد في البلاد (سعة 1.9 مليار متر مكعب) على أحد روافد وادي ورغة، الذي يوجد عليه، هو أيضا، أكبر سد (الوحدة بسعة 3.8 مليارات متر مكعب).
وأوضح بازة، بهذا الشأن، أن “عدد السدود على نهر سبو وروافده وسَعَتها تجعل من غير الممكن وقوع أي فيضانات في منطقة الغرب تقريبًا. كما أن تحويل المياه لتزويد مناطق أخرى بمياه الشرب سيؤدي إلى تخفيض مياه الري المخصصة لمنطقة الغرب”. وخلص إلى أن “الجفاف وانخفاض مخصصات المياه سيؤديان، من بين آثار أخرى، إلى زيادة الضغط على المياه الجوفية والتحول من الري السطحي إلى الري الموضعي”.
أما العامل الثالث فيتعلق بـ”طبيعة وخصائص الطبقات الجوفية” نظرا لغِنى المنطقة بالمياه الجوفية، مع وجود طبقات مياه جوفية كبيرة، أبرزها “طبقة المعمورة، ونظام الغرب وامتداده إلى لمْناصرة، ونظام الدرادروالسوير”. وأبرز أن “جميع هذه الطبقات الجوفية متاخمة للبحر ومياهُها ذات نوعية جيدة، عدا منسوب مياه طبقة الغرب الذي يعتبر مائلاً للملوحة نسبياً، والتلوث الزراعي الذي وصل إلى الأماكن المسقية منذ فترة (أبرزها لمناصرة)”.
وتخضع جميع الطبقات لـ”سَحب كميات كبيرة من مياهها، ورصيدها أصبح سلبيا باستثناء نظام الدرادروالسوير، الذي يعتبر أكثر أو أقل توازنا”، يُلاحِظ بازة.
وتابع شارحا “أدى استبدال الزراعات المعيشية بالبستنة التجارية خلال الثمانينيات إلى انخفاض عام في مستوى سطح المياه الجوفية يصل ما بين 2 و4 أمتار سنوياً. وعلى نحو مماثل تحول حجم المياه المتدفقة من طبقة المياه الجوفية باتجاه المحيط من 18 مليون متر مكعب في عام 1992 إلى 4 ملايين متر مكعب في عام 2006. وقد أبرزت دراسة حديثة انعكاساً في سير المياه، التي أصبحت الآن تتجه من البحر نحو الداخل بسبب الضخ المفرط”.
ولفت إلى “وجوب التأكيد على أن بعض عوامل الخطر سالفة الذكر لا يمكن السيطرة عليها من قبل البشر، وبالتالي يجب أن تؤخذ على محمل الجد”.
معطيات طبيعية “مُنذِرة”
بيّن خبير الموارد المائية أن “سهْل الغرب الكبير يتقاطع معه واد سبو ليمتد على مساحة تقدر بحوالي 4000 كيلومتر مربع، وهي مساحة منبسطة جداً ومنخفضة الارتفاع ما بين 4 و25 متراً. وتشهد المنطقة الساحلية الممتدة بين سلا والحد الشمالي لحوض سبو تحولا كبيرا من الناحية البيئية- الطبيعية”.
ويتعلق هذا التحول، على الخصوص، بـ”الشريط الساحلي الممتد إلى شرق الطريق السيار الرباط- طنجة، ويتعلق أساسا بإنشاء مَزارع لأشجار الأفوكادو المسقية بالمياه الجوفية، من خلال استبدال المحاصيل التي كانت مسقية من قبل، أو قبل كل شيء كبديل لمَزارع الأوكالبتوس والغابات الطبيعية، وعلى أراضي البور”.
“يستمر هذا التحول، اليوم، بوتيرة كبيرة”، يضيف الخبير المائي، الذي نبه إلى أن الأمر “لم يكن موضوع دراسة سابقة معلَنة”، مبرزا أن تحليله “ارتكز على زيارة ميدانية لمنطقة الغرب قادَتْه في شتنبر 2023 إلى بحث موجز عن معلومات بهدف تحديث البيانات حول الموضوع”، مستندا على خبرته الميدانية المدعومة بالمواقف المماثلة التي لاحظها في بلدان أخرى.
“تعميم التسلل البحري”.. خطر رئيسي
يشرح بازة في ورقته التحليلية أن “طبقات المياه الجوفية الكبيرة بسهل الغرب تكونت منذ زمن طويل بفضل الهطولات والفيضانات المباشرة، وقد حدث توازن هش عند الواجهة بينها وبين البحر بفضل اختلاف الكثافات”. ويضيف أنه “على مستوى كل واجهة، يتم الحفاظ على هذا التوازن ما دامت الأرصدة بين عمليات التغذية والسحب صفراً أو موجبة، مع تدفق المياه العذبة الزائدة إلى البحر، وتنكسر خلاف ذلك مع التسلل البحري للمياه الجوفية. ويبدأ هذا التسلل عمومًا من العمق (عند أدنى مستوى من السطح البيني). ويسمى الجزء من طبقة المياه الجوفية الذي تغزوه المياه المالحة “إسفين الملح”، حيث تدخل المياه البحرية تحت المياه العذبة، مما يستثني الآبار التي تكون أعماقها مخفضة”.
وتبعا لذلك، نبه الخبير المائي إلى أن “الضخ المفرط يؤدي إلى ارتفاع المياه المالحة لتعويض العجز في المياه العذبة”.
وبعد انخفاض الفيضانات الناجمة عن السدود، أصبح هطول الأمطار المباشر وترسب خسائر الري السطحي التقليدي المَصدرَيْن الرئيسيَين لتغذية المياه الجوفية. لهذا “لا يجب فقط حظر أي زيادة في عمليات السحْب من هذه الطبقات الجوفية بشكل صارم، بل يجب أيضا بذل جهد لاسترجاع موازنة أرصدتها بهدف تقليل التسللات البحرية تدريجياً”، يسجل الباحث ضمن أبرز خلاصاته.
ومع انتشار “التسلل البحري”، قرَع بازة جرس الإنذار بخصوص “زيادة ملوحة مياه الآبار التي يصل عمقها إلى مستوى سطح البحر أو يتجاوزه”، مع خطر “تأثر المنطقة الجغرافية الكائنة فوق الطبقات الجوفية المذكورة بشكل مختلف حسب الارتفاع النسبي عن سطح البحر”، مشيرا إلى أن “الأماكن ذات الارتفاعات المنخفضة أقل من 4-5 أمتار ستكون أول من يتأثر، خاصة إذا كانت بها أشجار. وتتجرد تدريجيًا من جميع النباتات، وبالتالي من كل أشكال الحياة، ثم تُغطى بتربة مسحوقية رمادية”.
“صرخة للتحرك”
أكد بازة أن “هوامش التحرك لإنقاذ منطقة السهل بالغرب ما زالت ممكنة”، غير أنه أقرّ بأنه “إذا استمرت هذه العوامل واستمرت اتجاهاتها الحالية، فإن التملُّح على نطاق واسع في كل طبقات المياه الجوفية هذه- وما قد يترتب عن ذلك من كارثة إيكولوجية- لن يكون سوى مسألة وقت. كارثة إيكولوجية لا رجعة فيها، بكل ما يترتب عن ذلك من عواقب وخيمة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للمنطقة الواقعة فوق هذه الطبقات الجوفية. وهي عواقب أكثر تدميرا بكثير مما حدث نتيجة استنزاف المياه الجوفية بسوس ماسة”.
وختم بازة ورقته التحليلية مستدركا “لكن يمكن تجنب هذا الخطر من خلال العمل على العوامل التي يمكن السيطرة عليها بهدف تجنب زيادة العجز بين تدفقات المياه الداخلة والخارجة من طبقات المياه الجوفية، دون أن ننسى ضمان حماية نوعية مواردها المائية (…) يتعين أن نتحرك في أسرع وقت ممكن لأنه كلما زاد تسرب المياه المالحة من حيث الحجم وتقدم في منسوب المياه الجوفية كلما أصبح الأمر غير قابل للإصلاح. والأسوأ أن السحب المفرط للمياه بعيدا عن السواحل يخلق تدرجات حمولة تعمل على تسريع نقل مياه البحر إلى الداخل، مما يستدعي ضرورة التحرك دون تأخير”.