القصة المذهلة لرجل حطّم الرقم القياسي بالعيش أكثر من سبعين عاماً في رئة حديدية
- Author, كاثرين سنودون
- Role, بي بي سي نيوز
كان بول ألكسندر في السادسة من عمره عندما استيقظ مذعوراً ليجد نفسه داخل أنبوب معدني كبير، لا يبرز منه سوى رأسه.
لم يكن يستطيع الحركة ليشعر بما يحيط به، وعندما حاول طلب المساعدة اكتشف أنه لا يستطيع حتى إصدار صوت.
نجا بول في طفولته من نوبة خطيرة من شلل الأطفال، لكنها أصابته بالشلل الرباعي. فقد تمكن الأطباء من إجراء عملية طارئة لإزالة جزء من القصبة الهوائية، لكنه لم يتمكن من التنفس بدون جهاز الرئة الحديدي الذي يغطي جسده الصغير حينها.
وعندما توفي مؤخرا، كان عمره يناهز 78 عاماً، أي أنه أمضى أكثر من سبعة عقود مستخدما رئته الحديدية، وهي أطول فترة يقضيها شخص في التاريخ.
ولكن ما الذي ميزه عن الكثير من أقرانه، وجعله يعيش لهذه المدة؟
انتشر مرض شلل الأطفال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ما أسفر عن تشوّه عشرات الأطفال ووفاتهم.
في عام 1952 وفي مستشفى في تكساس، كان بول محاطاً بأطفال آخرين يعانون من نفس المشكلة. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن واحدة من كل 200 حالة إصابة بشلل الأطفال تؤدي إلى شلل لا شفاء منه. ومن بين المصابين بالشلل، يموت 5-10 في المئة لأن عضلات التنفس تصبح غير قادرة على الحركة.
مستقبل غير معروف
بعد أن قضى بول عامين في المستشفى، بدأ الأطباء بالتشكيك في مستقبله.
ودفع ذلك والديه إلى اتخاذ القرار الشجاع بأخذه مع رئته الحديدية إلى المنزل، ليعيش باقي أيامه بسلام كما قال له الأطباء. ولكن بدلاً من الاستسلام للموت، تحسنت نفسية وصحة بول وأصبحت عزيمته أقوى، بمجرد أن عاد إلى المنزل تحت رعاية والديه.
تستخدم الرئة الحديدية نظام الضغط السلبي. إذ يعمل منفاخها بمحرك كهربائي، يمتص الهواء من الأسطوانة، ما يخلق فراغاً حول جسم المريض ويجبر الرئتين على التمدد واستنشاق الهواء. وعندما يتم السماح للهواء بالدخول مرة أخرى، فإن نفس العملية العكسية تجعل الرئتين تنكمش.
ولأن الجهاز يحتاج إلى مصدر للطاقة ليعمل، فإن المنفاخ يتطلّب تشغيله يدوياً عن طريق الضخ عند انقطاع التيار الكهربائي، وكان الجيران يهبون للمساعدة في المهمة. وقد صمم والد بول جرس إنذار يمكن لبول أن يقرعه باستخدام فمه إذا كان بحاجة إلى رعاية عاجلة.
وبمرور الوقت، تعلم بول أن يتنفس عن طريق ابتلاع الهواء، مستخماً عضلات حلقه لدفع الهواء إلى رئتيه. وقد أطلق على هذا النوع من التنفس اسم تنفس الضفدع.
وأوضح شقيقه الأصغر، فيليب، لبي بي سي، أن الوعد الذي قطعه والداه له بشراء جرو صغير، أعطى بول الحافز ليكون شجاعاً، ولمحاولة قضاء بعض الوقت خارج الرئة الحديدية لتعلم تقنية التنفس البلعومي اللساني المعقدة، وهو المصطلح الطبي للتنفس الضفدع.
يقول فيليب “كان خائفاً بالطبع من الاختناق حتى الموت. لكنهم قالوا له إذا بقيت ثلاث دقائق، فسوف تحصل على الكلب الصغير الذي تريده”. وقد نجح بالفعل.
ومع نمو ثقته وقوته، أصبح قادراً على قضاء فترات أطول بشكل متزايد خارج الرئة الحديدية. وقد سمح له هذا بالبدء في تجربة الحياة الطبيعية. وسمح له أيضاً بالمغامرة بالتجول في الحي على كرسيه المتحرك مع أصدقاء الطفولة، ليعود إلى الرئة الحديدية عندما يشعر بالتعب.
يقول فيليب “لقد كان مجرد أخ عادي بالنسبة لي. لقد تشاجرنا، ولعبنا، وأحببنا، واحتفلنا، وذهبنا إلى الحفلات الموسيقية ماً – لقد كان مجرد أخ عادي بالنسبة لي”.
أنهى بول دراسته في المنزل وحصل على شهادة جامعية قبل أن يضع نصب عينيه الالتحاق بكلية الحقوق.
يتذكر فيليب الوقت الذي قضاه بول في جامعة تكساس في أوستن ويصفة بـ”المذهل”. فقد ساعده والداه على الانتقال للعيش بمفرده في الجامعة بالرئة الحديدية، بمساعدة محدودة في البداية من مقدمي الرعاية.
يقول فيليب “لم يرافقه فعلياً أي مقدم رعاية. لقد بقي في السكن الجامعي واعتنى به أشخاص مختلفون”.
مارس بول المحاماة في وسط مدينة دالاس. كان عليه أن يتعامل مع مفاجأة العملاء عند دخولهم مكتبه ورؤيته داخل الرئة الحديدية.
يقول فيليب: “لم يكن الأمر سهلاً على من يراه، مجرد رأس بارز من أسطوانة معدنية. كان الأمر يصيب الناس بالصدمة على الفور. لقد رأيت ذلك يحدث كثيراً”.
عاش بول بمفرده معظم حياته البالغة، وهذا ليس بالأمر الهين بالنسبة لشخص غير قادر على رعاية احتياجاته الإنسانية الأساسية مثل استخدام المرحاض أو الحصول على مشروب بمفرده.
يقول فيليب إنه أصبح سيد وضعه الخاص، ما ساعد الناس على مساعدته.
يتحدث فيليب عن المسؤولية الضخمة التي صاحبت الحالة الصحية لشقيقه: “لقد كان بحاجة إلى نوع فريد من الرعاية. حتى أن المتخصصين غير مدربين على رعاية شخص مصاب بالشلل الرباعي داخل رئة حديدية”.
ويضيف “كانت معظم الرعاية أساسية – الحلاقة والتغذية على سبيل المثال. ولكن لتحريكه كان عليك توخي الحذر حتى لا تتسبب في إصابة أو إيذاء أصابعه وما إلى ذلك.”
لم يكن هناك دليل تعليمات لأولئك الذين تقدموا لإعلانات وظيفة تقديم الرعاية لبول.
يقول فيليب: “لقد عرفوا ما يجب عليهم فعله أثناء لقائهم بول. وغادر الكثيرون منهم بعد يوم أو يومين. أتذكر أنني ذهبت ذات مرة وسألت شخصين يعملان في مراكز المعيشة المدعومة عما إذا كان بإمكانهم الاعتناء به، وكانت النظرات على وجوههم لا تقدر بثمن”.
بقي بول مع مقدمة رعاية واحدة استمرّت في حياته لعقود. وعندما ماتت كاثي غاينز، تركت وفاتها بول محروماً.
يقول فيليب إنه كان يرى نفسه دائماً كمقدم رعاية احتياطي لأخيه، لكنه أعجب بنظام الدعم الذي أنشأه بول: “كان لديه الكثير من الأصدقاء الرائعين، وبعض الأشخاص الرائعين حقاً في حياته”.
المساعدة مطلوبة
لقد جاء أحد هؤلاء الأشخاص إلى حياة بول في لحظة حاجة ماسة إليه.
ففي عام 2015، بدأت رئته الحديدية بالتسريب. ونظراً لأن الآلات من هذا النوع أصبحت الآن نادرة للغاية، دخل بول في سباق مع الزمن للعثور على شخص قادر على تنفيذ مهمة إصلاح الرئة الحديدية لجعلها محكمة الإقفال مرة أخرى.
وبعد نشر المناشدة على وسائل التواصل الاجتماعي، جاءت الردود من جميع أنحاء العالم. ولكن تبين أن الحل كان قريباً جداً.
فعلى بعد عشرة أميال من شقة بول في دالاس، كان هناك مختبر بيئي تابع لشركة المتانة الميكانيكية، يملكه برادي ريتشاردز.
وقد حصل ريتشاردز على جهازي رئة حديديين عند إخلاء المبنى، ويتذكر كيف دخل أحد المسعفين ذات يوم وسأل: “هل هذا هو المكان الذي يمكنني أن أجد فيه رئتين حديديتين؟”
كان المسعف ينقل بول من وإلى المستشفى، بينما كان مقدمو الرعاية يبذلون قصارى جهدهم لإبقائه على قيد الحياة في الرئة الحديدية المعطلة. حتى وصل الخبر إلى ريتشاردز.
يقول ريتشارد “لم تكن لدي أي فكرة عن بول ألكسندر في ذلك الوقت. وعندما علم بحالة الطوارئ، شرع على الفور في إعادة بناء إحدى الآلات المكسورة التي كانت لديه في مستودعه.
لقد بنى بعض الأجزاء من الصفر واستخرج أجزاء أخرى من أجهزة أخرى، واكتسب خبرة وهو يعيد البناء. فالرئتان الحديديتان عبارة عن آلات قوية جدا صممت لتدوم.
ويضيف “إنها آلة بسيطة لذا تمكنت من إعادة بنائها. يمكنك زيادة وتقليل معدل التنفس والضغط. كان بول دائما يحب أن تكون الرئة الحديدية مصممة بشكل متقن”.
وبمجرد أن أصبحت الآلة المجددة جاهزة، استبدلها ريتشاردز بالآلة التالفة في شقة بول. ورفض اخذ أي أموال مقابل عمله.
لكن ذلك لم يكن نهاية القصة. ففي وقت لاحق من تلك الليلة، تلقى ريتشاردز مكالمة هاتفية من مقدم رعاية بول ليخبره أن الجهاز لا يعمل.
عاد ريتشاردز إلى شقة بول وأدرك بسرعة أن طوق الرقبة لم يكن مربوطاً بشكل صحيح وقد انفك.
ويتذكر ريتشاردز قائلاً: “كان بول يقول: أنا بخير، أنا بخير، بينما كنا نعمل على تصحيح المشكلة. والحقيقة هي أن لونه كان يتحول إلى اللون الأزرق”.
وفي لحظات اليأس هذه، تمكن بول من الوصول إلى المزيد من أجهزة التنفس المحمولة، والتي تستخدم نوعاً مختلفاً من التكنولوجيا المستخدمة في الرئة الحديدية.
ويوضح الدكتور باتريك ميرفي، المستشار السريري الرئيسي في وحدة لين فوكس للجهاز التنفسي في مستشفى سانت توماس، في لندن: “يمكن لأجهزة التنفس ذات الضغط الإيجابي أن تجعل المريض يشعر وكأن رأسه خارج نافذة السيارة. والجميع لا يحب هذا الإحساس”.
لم يستخدم بول أبداً تلك الأجهزة المعتمدة على الأقنعة.
إلا أن ناج آخر من شلل الأطفال، يعيش في يورك، شمال إنجلترا، تمكن من التحول لاستخدام هذه الأقنعة بشكل دائم.
أصيب جيمس بورتيوس، 78 عاماً، بشلل الأطفال في نفس العام الذي أصيب فيه بول. وقد وضع في البداية داخل الرئة الحديدية.
لكنه تعافى إلى حد أنه تمكن من عيش حياته من دون دعم كبير للتنفس، ولكن كما هو الحال غالباً بالنسبة للناجين من شلل الأطفال، بدأ يحتاج إلى المزيد من المساعدة مع تقدمه في السن.
ويستخدم الآن قناعا للتنفس لمدة 17 ساعة في اليوم تقريباً. ويقول بورتيوس، الذي يعمل رئيساً إقليمياً للزمالة البريطانية لشلل الأطفال “لا أتذكر الكثير عن الوقت الذي قضيته داخل الرئة الحديدية. فقد وضعت في البداية في قالب جبس من الرأس إلى أخمص القدمين، وكان يُعتقد أن هذا من شأنه أن يمنعني من التنفس”.
وكان لبورتيوس مسيرة مهنية طويلة، في البداية في مجال الأوراق المالية ثم في العديد من المناصب الرفيعة في شركة راونتري، التي أصبحت جزءاً من شركة نستله. وهو متزوج وله أربع بنات. وسافر حول العالم وفي عام 2001 حصل على وسام عضوية الأمبراطورية البريطانية MBE للخدمات المقدمة للمجتمع.
يقول: “كان بإمكاني الجلوس على كرسي طوال حياتي وسجادة فوق ركبتي، لكنني قررت الاستمرار والمضي قدماً. أنا متعب هذه الأيام ولم أعد أخرج كثيراً، لكن الحياة جيدة. لدي عائلة لطيفة وأصدقاء جيدين. الشيء الوحيد الذي ما زلت أرغب في تحقيقه في حياتي هو القضاء التام على شلل الأطفال في جميع أنحاء العالم”.
كان القضاء على شلل الأطفال على مستوى العالم طموح بول أيضاً. لقد كتب عن ذلك في مذكراته عام 2020، التي كتبها بنفسه، باستخدام قلم رصاص مثبت على عصا يمسكة في فمه للوصول إلى لوحة مفاتيح الكمبيوتر.
يقول فيليب إنه بعد نشر الكتاب أدرك تماماً مدى الإلهام الذي يمنحه شقيقه للناس في جميع أنحاء العالم: “كان لشخصيته علاقة كبيرة بمدى الإعجاب الذي كان يحظى به. كانت لديه تلك الابتسامة الكبيرة الرائعة وكان رائعاً جداً. لقد كان شخصاً ودوداً ومرحاً. لقد جعل الناس يشعرون بالراحة”.
ظل برادي ريتشاردز جزءاً من حياة بول على مر السنين التي عرفه فيها. لقد ساعد بول في التنقّل من سكنه عند الحاجة، وعمل على صيانة الرئة الحديدية بانتظام. وقال “كان من دواعي سروري دائماً أن أكون بالقرب من بول – كان متفائلاً وإيجابياً للغاية”.
يقول الدكتور مورفي، الذي عبر عن إعجابه بالأشخاص الذين اهتموا ببول “أخذه والداه إلى المنزل باستخدام آلة كانت في ذلك الوقت ذات تكنولوجيا متطورة نسبياً. كما خضع أيضاً لعملية إزالة جزء من القصبة الهوائية، الأمر الذي يتطلب رعاية خاصة. وكان عليهم أن يكونوا مهندسين وممرضين وأطباء”.
ويضيف: “إذا تحدثتَ إلى الكثير من الأطباء أو الممرضات المدربين، فلن يكونوا واثقين من طريقة العناية بمريض يعاني من فشل تنفسي معقد، ومع ذلك فإن المرضى مثل بول وعائلاتهم يقومون بذلك في المنزل بمفردهم. لا يمكن الاستهانة بشجاعتهم”.
رقم قياسي عالمي
في العام الماضي، دخل بول موسوعة غينيس للأرقام القياسية باعتباره الشخص الذي عاش أطول فترة في رئة حديدية.
قال فيليب بعد رحيل بول: “لقد رأيته يمر بالكثير من الصراعات في حياته. سأفتقده. كنت اتصل به عندما كنت بحاجة إلى التحدث إلى شخص ما حول أي نوع من المشاكل التي أواجهها”.
ويضيف: “في حين أن العالم كله قد يندهش من المدة التي ظل فيها شقيقي على قيد الحياة في رئته الحديدية، إلا أن والدَي لم يكونا كذلك. لقد آمنا به. لقد أعطياه الكثير من القوة والحب. ولم يندهشا من بقائه في الرئة الحديدية لتلك المدة”.