ترتيب المغرب في التصنيف العالمي للتنمية البشرية يسائل القياس والمنهجية

أثارت مضامين ومعطيات عدد من التقارير الدولية، التي تعتمد تصنيف وترتيب الدول وفق مؤشرات بعينها، والصادرة حديثاً، حالة من السجال المتجدد في أوساط المتابعين وبين عدد من رواد منصات وشبكات التواصل الاجتماعي، خاصة المنتمين منهم إلى دول المنطقة المغاربية، عن “مصداقية هذه المؤشرات ومدى عكسِها واقع وجهود التنمية في كل بلد”.
الجدل احتدم بخصوص “مؤشر التنمية البشرية” الذي صنّف كلاً من ليبيا والجزائر في مرتبتين “متقدمتيْن” عن المغرب، الذي بوأه المركز الـ120 عالمياً، رغم تقدُّمه (مقارنة مع الإصدار السابق) الذي أشاد به المرصد الوطني للتنمية البشرية.
ولم تخِفّ حدة الجدل، بل استمر مُلازِماً تعليقات رافقت صدور تقرير “مؤشر السعادة العالمي”، عن “شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة”، بشراكة مع مؤسسة “غالوب” ومركز “أكسفورد لأبحاث الرفاهية”، واضعاً المغرب في مركز “متأخر” عن كل من ليبيا ثم الجزائر، بالمنطقة المغاربية.
وتثير هذه الأرقام والتصنيفات نوعا من “الاستغراب” و”عدم الفهم”، فضلا عن إثارتها تساؤلات دفعت ببعض المتابعين لشؤون التنمية وقضايا الرفاه الاجتماعي إلى التساؤل حول “مدى مصداقية تقارير الأمم المتحدة التي وضعت ليبيا والجزائر أفضل من المغرب في المؤشريْن المذكورين”.
“بيانات تقنية لا تعكس الواقع”
تعليقاً على الموضوع وقراءة في أبعاده قال إدريس العيساوي، خبير اقتصادي مغربي، إن “المملكة المغربية اختارت منذ مدة ليست باليسيرة نهجَ الشفافية والوضوح في التعامل مع جميع البيانات والمعطيات التي تُقدِّمها للهيئات الأممية، خاصة في الشق التنموي والسوسيو-اقتصادي”.
العيساوي رفض بقوة، في حديث لجريدة هسبريس، فكرة المقارنة مع دول مجاورة على أساس أن التصنيف يعكس واقعا جيدا أو سيئاً، قائلا إنه “لا يمكن أن تتم مقارنتنا مع دول أخرى؛ فالكل يُقرّ بجهود المغرب ولا يُنكر تقدُّمَه بشكل لافت إقليميا وقارياً في مجالات يشملها تقرير التنمية البشرية رغم بعض المشاكل التي تظل قائمة”.
وتابع الخبير ذاته: “هذا الترتيب يكون حسَب مجموعة من المعطيات ذات الطبيعة التقنية والعملية بالأساس؛ لكن المثير للتساؤل حقا هو أوضاع بعض الدول التي صُنفت أفضل من المغرب”.
“هي تصنيفات تستند بالمجمل إلى تقارير مبنية في الأصل على معايير وبيانات إحصائية مجتمِعة ومعطيات مركَّبة متداخلة (مثل ما يعتمده مؤشر السعادة العالمي وكذا مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي)”، يورد المتحدث ذاته، معتبرا أن “هذه المعطيات والمؤشرات الفرعية تستلزم بدورها قراءات متعددة في حد ذاتها، خاصة من حيث المنهجية والطرائق البحثية الاستقصائية”.
“لا يمكن أن نُسَلّم بهذه السهولة لنتائج من هذا النوع، ونقول إن مؤشرا معيناً عن الرفاه الاجتماعي (أو السعادة في بلد ما) في ليبيا مثلا أو بالجزائر يظل أحسن من المغرب”، يلفت المحلل الاقتصادي، معتبرا أن هذا “كلام غير مقبول ويجب أخذه بكثير من التمحيص والتفكير، مع الاعتبار أنها مجرد تقارير تركيبة ذات طبيعة تقنية صِرْفة”.
وأوصى الخبير نفسه بأنه “يجب النظر إلى المسألة بطريقة أخرى، لأن الترتيب في حد ذاته ليس ترتيباً آلياً؛ بل وجب استحضار وقراءة كل المعطيات المرافقة”، قبل أن يستدل على ذلك بـ”إشادة المرصد الوطني للتنمية البشرية بما قطعته المملكة من أشواط مميزة وناجحة في العديد من مجالات التقرير وموضوعاته”.
كما استحضر العيساوي في تصريحه للجريدة “وجوب الحذر وعدم الأخذ بالمعايير التي تظل مصطَنعة وليست واقعية”، ما ينتج عنه في النهاية “تصنيف تقني محض ليست له الأهمية من حيث الجودة والقيمة اللتين يحاول البعض إعطاءهما له”، ضاربا المثال بـ”مستوى الدخل الإجمالي في ليبيا أو الجزائر الذي تحيط به تساؤلات كثيرة عن كيفية توزيعه على الأفراد بشكل عادل”؛ هذا فضلا عن “نقطة كيفية تسيير الشؤون السياسية، وتقديرات الاستفادة الحقيقية من الإمكانيات الاقتصادية المتوفرة في علاقة بالمعطيات الديمغرافية”.
“إعادة النظر” في طرائق القياس
من جانبه لفت عبد الخالق التهامي، أستاذ باحث في التعليم العالي مختص في الإحصاء والاقتصاد التطبيقي، إلى أن “معايير احتساب وتركيب مؤشر التنمية البشرية (الصادر عن PNUD) مازالت متضمنة في عمقها بعض الإشكالات الأساسية التي وجب الانتباه إليها”، مفيداً بأن “المؤشرات والتصنيفات العالمية يتم قياسها بناء على تصورات وخلاصات اختصاصيين يعيشون بالبلد المعني، وكذا عبر نتائج استقصاءات وأبحاث لدى الأسر والأفراد”.
واعتبر التهامي أن “هذه النتائج عادة ما تتضمن جزءا كبيرا من اللايقين، ما يعطي الانطباع بعدم تطابق الترتيب مع الواقع المعيش، خاصة أنها مبنية على مؤشرات مركّبة تجميعية”، مشددا على أنها “تظل نسبية على العموم، مع إشكاليات كيفية التوصل إلى قياس مجموعة من المعطيات الدقيقة”.
وفي إفادات وشروح بسطها الخبير في الاقتصاد الاجتماعي، متحدثا إلى هسبريس، قال “إن تزايُد الناتج الداخلي الإجمالي ببعض البلدان حتى لو لم يكن هناك أي مجهود في كل ما يتعلق بقطاعات الصحة والتعليم، يجعلها تظهر متقدمة في تصنيفها”، مردفا بأن “تقدمها يأتي ارتكازاً على معطيات إنتاجية تتعلق بارتفاع أسعار بيع الثروات النفطية أو الغاز التي تُنتجها بوفرة، حتى لو شهدت تراجعاً أو توقفا في مؤشري الصحة والتعليم”.
أما بالنسبة للمغرب فأكد التهامي أن “نسبة الناتج الداخلي الإجمالي ونسب النمو تبقى ضعيفة نسبياً، أو على الأقل مقارنة بدول أخرى مجاورة، إذ إنه حتى في وجود مجهودات مبذولة بقطاعات أخرى فإنها قد تذوب أمام ضعف مستوى النمو الاقتصادي؛ وهو ما يترك المغرب متخبطاً في صفوف متأخرة بمؤشر “IDH” (بين مراتب 110 و130 منذ 25 سنة تقريبا)”.
“المطلوب هو إعادة النظر في الترجيحات والطرائق والمناهج التي يتم بها القياس، كي تشمل أيضا تراكم المجهود المبذول، خصوصا قياس هذا المجهود، وهو ما لا يحدُث حاليا”، يورد الأستاذ الباحث في كلية الحكامة والعلوم الاقتصادية، قبل أن يعتبر أن “مقارنة وضعية البلدان تتم بناء على مؤشرات نوعاً ما ثابتة، وهو ما لا يجعلها بالضرورة عاكسة لواقع الحال التنموي الشامل”.
وضرب المصرح المثال بأن “نسبة الأمية لا يمكن أن تنخفض في بلد معين بشكل سريع، إذ تنخفض بين نقطة مئوية إلى نقطتين في أحسن الأحوال”، خالصاً إلى أنه “من الصعب أن يتحسّن ترتيب المغرب ارتكازا على بنية المؤشر في صيغته الحالية”.