الدراما الأمازيغية دون المستوى .. وتجاوز الأرخبيل الإعلامي ضرورة
قال جمال أبرنوص، باحث ناقد فني أمازيغي، إن “القيمة الفنية للإنتاجات الأمازيغية لرمضان الجاري تظل متفاوتة، وهو ما يعود أساسا إلى تفاوت الجهود المبذولة في إنتاجها، في وقت يصعب فيه إيجاد عمل رمضاني متكامل من جميع الجوانب الفنية؛ الأمر الذي يجعلنا أمام إنتاج أمازيغي دون المستوى المأمول، نتيجة كذلك لعدد من التراكمات، حيث لا يمكن تحقيق النهضة بمسلسل وحيد لكل متغير لغوي”.
وأضاف أبرنوص، في الحوار التالي مع هسبريس، أن “منزع التنميط والمحافظة لا يزال حاضرا على مستوى الإنتاج الأمازيغي، وهو منزع يحاول استيهام العودة إلى القرية ونوستالجيا الماضي المفقود، في حين بدأ يظهر تيار إبداعي آخر ممانع يحاول إظهار اللغة والثقافة الأمازيغيتين في مظهرها الحيوي وفي سياق يتفاعل مع مستجدات العيش”، لافتا إلى أن مسلسل “بابا علي” يظل “مدغدغا للوجدانية الجماعية الميالة إلى السطحية في الكوميديا، على الرغم من قوة التشخيص والإخراج لديه”.
وفيما يلي نص الحوار:
كباحث ومهتم بمجال الدراما الأمازيغية، ما تقييمك لمستوى الإنتاجات الدرامية المعروضة على قناة تمازيغت خلال رمضان الجاري بالتنويعات اللغوية الثلاثة؟
لا شك أن تقصي الموضوعية يقتضي متابعة الأعمال الرمضانية المعروضة كاملة أو نصفها على الأقل. لكني أستطيع القول، رغم انتفاء هذا الشرط، أن إنتاجات هذا الموسم تتفاوت من حيث قيمتها الفنية، بتقدير العين الناقدة لا بتقدير النجاح الجماهيري طبعا، وهو تفاوت يمس غالبا عناصر الإنتاج الدرامي التلفزي الواحد، وأقصد بذلك مستوى الاجتهاد الذي يبصم عليه الأطراف المتدخلون فيه، إذ يندر أن تجد عملا رمضانيا متكاملا، بمقدار معقول، على كافة المستويات الفنية. ولا بأس من التذكير هنا بأن الإنتاج الدرامي الناجح، ولا سيما الأفلام والمسلسلات، يتشكل من تجميع تفاصيل عديدة ومركبة، قد يؤدي إهمال أقلها إلى إفقاده قدرا من قيمته الجمالية.
هل هناك تطور ملموس في القصة الدرامية والديكور والتشخيص مقارنة مع التجارب السابقة أم إن الإنتاج الأمازيغي لم يصل بعد إلى المستوى المطلوب؟
من المؤكد، في تقديري، أن الإنتاج الأمازيغي لم يصل بعد إلى المستوى المأمول. صحيح أن هنالك محاولات حثيثة للرقي بهذا الإنتاج، لكن البيئة العامة للاشتغال لا تساعد على تطويره بإيقاع معقول يتيح له تدارك مسافة تأخره على نظيره الناطق بالدارجة. وأقصد بالبيئة العامة هنا، مقدار العناية المؤسسية المادية والتشريعية التي يجب توفيرها لهذا الإنتاج، إذ لا يمكن إطلاقا، على سبيل المثال، تطوير أداء طواقم العمل في هذا الباب، ولا سيما الممثلين، من خلال مسلسل وحيد يخصص لكل متغير لغوي أمازيغي في السنة.
مسلسل “بابا علي” يصل هذه السنة إلى موسمه الرابع. في نظرك، ما السر في حفاظ هذا العمل الدرامي على الإيقاع والإقبال نفسيهما؟
أظن أن النجاح الجماهيري الذي حققه المسلسل يرجع، أساسا، إلى أن هذا العمل يمثل امتدادا عضويا لأشكال الفرجة والحكي التقليديين، فهو يعرض دراما فانتازية تستمد مجمل أحداثها وموتيفاتها من المتخيل السردي المغربي، في أحد أوجهه التي تكرس القيم “الحديدّانية”، كما يقدم مادة حكائية بسيطة على مستوى معمارها الحكائي، فارغة من كل محتوى رمزي بعيد الإيحاء، أو غائي قد يحتاج إلى بذل جهد في التلقي مهما كان يسيرا؛ بمعنى أنه مسلسل يدغدغ الوجدانية الجماعية الميالة إلى السطحي والبسيط وكوميديا التلفظ. علاوة على أنه عمل يستجيب لاستيهام العودة إلى القرية ونوستالجيا الماضي المفقود، الذي يستبد بكثير من أبناء القرى المهاجرين إلى المدن الكبرى. لكن ذلك كله لن يحول، بأي حال، دون قولنا إن العمل قد ظل يستند، منذ جزئه الأول، إلى عناصر قوة واضحة على بعض مستوياته الفنية، لاسيما الإخراج والتشخيص.
هل تمكنت الإنتاجات الأمازيغية من التحرر من النمطية وتكريس “الفلكرة” أم إن ذلك لا يزال واقعا؟
دعني أقول إن وصول سلسلة “بابا علي” إلى موسمها الرابع على التوالي يعطي الدليل اللاذع والقاسي على حضور منزع التنميط والمحافظة وقوته، سواء في وعي الفاعلين في مضمار الإبداع الدرامي الأمازيغي أو في وعي المتحكمين في سلسلة الإنتاج، وأقصد هنا منزعا أو تيارا يراهن على تكريس الوعي الجماعي القائم في مستواه الأكثر تقليدا وحفاظية، ولعل واقع الفلكرة يمثل إحدى نتائج ذلك، بحيث يتم التعامل مع الأمازيغية بوصفها تعبيرات محنطة، تكاد تتعالى على الشرط السوسيولوجي الحي والمتجدد، لكني أميل إلى الاعتقاد أيضا أن هنالك تيارا إبداعيا آخر ممانعا، يحاول، عبر أفلام ومسلسلات متميزة، إظهار اللغة والثقافة الأمازيغيتين في مظهر حيوي، بوضعهما في سياقات تتفاعلان من خلالها مع قضايا العيش ومستجداته.
أنت كذلك كاتب سيناريو مسلسل “أفاذار” بالاشتراك مع المؤلف المسرحي سعيد أبرنوص، وهو المسلسل الذي يبث باللسان الأمازيغي الريفي. ما الجديد الذي يحمله هذا العمل للإنتاج الدرامي الأمازيغي عموما؟
يحكي المسلسل قصة فتاة عشرينية، حاصلة على إجازة في علم الاجتماع، يضطرها واقع العطالة والفقر، الجاثم عليها وعلى نساء قريتها، إلى الشروع في تأسيس تعاونية نسائية، لكنها ستظل تصطدم، على امتداد حلقات المسلسل، بكثير من العراقيل، الناتجة عن هيمنة الثقافة الذكورية المحافظة، وعن مقاومة رئيس الجماعة لهذا المشروع، بسبب حرصه على إطالة واقع الفقر والهشاشة بالقرية، لاستثمار ذلك في مخططاته الانتخابوية.
وإذا كان تقديري مجروحا في مسألة الحكم على نجاح المسلسل وبيان قيمته الفنية ومقدار الجديد الذي يحمله، فإني أنتهز الفرصة لأشيد بالجهة التي أوكل لها تنفيذ إنتاج هذا المسلسل، بسبب تعاملها المهني المحايد والاحترافي إزاء مشروع السيناريو، وعدم تدخلها إطلاقا في توجيه فريق الكتابة نحو خيارات إنتاجية-تنفيذية قد تكون أقل كلفة، وإني أصر على هذه الإشادة ليقيني أن قدرا من مسببات الضعف الذي يمس الإنتاج الدرامي التلفزي بالمغرب، في سياق قانون الدعم وتفويض الإنتاج، يأتي من جشع كثير من المنتجين المنفذين، الذين يبذلون أقصى جهدهم من أجل صرف أقل نسبة من المبالغ المالية المرصودة للمشاريع التلفزية من قبل الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، كما يأتي من غياب رقابة صارمة، موازية وبعدية، لمدى التزام المنتجين المنفذين ببنود دفاتر التحملات، وهو جشع مضاعف في حالة الإنتاج الأمازيغي، يشجع عليه ضعف الرقابة الجماهيرية الناتجة عن تدني نسب مشاهدة هذا الإنتاج.
ألا ترى أن الإنتاجات الأمازيغية تظل في حاجة إلى الانفتاح على جمهور أوسع خارج نطاق القناة الثامنة، وهنا نثير نسبة 30 في المائة التي تنص دفاتر تحملات القنوات الوطنية الأخرى على تخصيصها لفائدة الأمازيغية؟
لا شك أنه أمر صحيح ومؤكد، وأنا أظن أنه قد آن الأوان لتجاوز منطق الأرخبيل الإعلامي المغربي، الذي تم بموجبه حصر مجمل الإنتاج الإعلامي الأمازيغي، الهزيل من حيث الكم، والضعيف من حيث ما يرصد له من اعتمادات مالية، في قناة واحدة ووحيدة، ولعل طريق ذلك يمر عبر الشروع الفعلي في تنفيذ ما تنص عليه دفاتر تحملات القنوات الوطنية بهذا الخصوص، لأن من شأن هذا الأمر أن يزيد من التراكم الإنتاجي الكفيل شيئا فشيئا بتحقيق الجودة المأمولة، لاسيما وأن الحكومة الحالية لا تنفك تعبر، عبر قنواتها ومؤسساتها الرسمية، عن حرصها على تجاوز وضعية الكمون التي ميزت الأمازيغية على عهد الحكومات السابقة، وعن تبنيها ورش تفعيل الطابع الرسمي لهذه اللغة، ولا بأس من التذكير هنا بأن اختبار جدية الشعارات الحكومية، في هذا الشأن تحديدا، يمر لزوما عبر معاينة تفعيل التزاماتها في قطاعين مركزيين هما: الإعلام والتعليم.