تعرف على رحلة الجنيه المصري من الذهب إلى التعويم
كيف اختفى بريق الجنيه المصري، ولم يعد يقوى على سد احتياجات المواطن البسيطة؟ الجنيه الذي كان يوما يقف شامخا أمام الدولار عندما كان يعادل خمسة دولارات.
فقد سمح البنك المركزي المصري مؤخرا بتحديد سعر صرف الجنيه وفق آليات السوق، إلى جانب زيادة كبيرة في أسعار الفائدة بنحو 6 في المئة دفعة واحدة، مبررا ذلك بحماية متطلبات التنمية الدائمة والقضاء على تراكم الطلب على النقد الأجنبي، وإغلاق الفجوة بين سعر صرف السوق الرسمية والسوق الموازية.
وخلال ساعات من اتخاذ القرار تجاوز سعر صرف الدولار الأمريكي مُقابل الجنيه المصري داخل البنوك المصرية الـ 50 جنيهًا مصريًا مُقابل الدولار الواحد.
البداية “ذهبية”
تاريخ الجنيه المصري كان ذهبيا، فقد ولد في عام 1836، إذ لم يكن حتى عام 1834 في مصر وحدة نقدية تمثل أساسًا للنظام النقدي في البلاد. وفي عهد والي مصر محمد علي باشا صدر مرسوم ينص على إصدار عملة مصرية مدعومة بالذهب والفضة، وبموجبه وُلد الجنيه الفضي والذهبي.
وطرح الجنيه الجديد للتداول في عام 1836، وكان مُقدرا بوزن 8.5 غراما من الذهب، بحسب موقع البنك المركزي المصري.
وفي أعقاب الأزمة المالية الناجمة عن تراكم الديون الخارجية على مصر، صدر قانون الإصلاح النقدي في عام 1885. وبموجبه أصبح معيار الذهب أساسًا للنظام النقدي المصري، واعتمد الجنيه الذهبي المصري عملة موحدة. وتخلت مصر رسميًا عن معيار المعدنين.
ونظرا للعجز عن تلبية احتياجات المعاملات الكبيرة والتجارة الخارجية، وبسبب استخدام العملات الأجنبية في تلك التعاملات، حُددت بالقانون أسعار الصرف للعملات الأجنبية المقبولة في تسوية المعاملات الداخلية.
ومع تزايد النفوذ الإنجليزي في مصر الذي وصل إلى حد الاحتلال في عام 1881 بدأ التوجه إلى الارتباط بالنظام المالي البريطاني.
وبسبب نقص الإصدارات الجديدة من الجنيه الذهبي المصري، سُمح باستخدام بعض العملات الذهبية الأجنبية، خاصة الجنيه الإسترليني، بأسعار صرف ثابتة، وكانت مصر حينها تحت الاحتلال البريطاني.
الجنيه الإسترليني
شملت العملات المتداولة في مصر الجنيه الإسترليني الذهبي والجنيه الذهبي المصري، وكان الجنيه الإسترليني يمثل الوسيلة الرئيسية للتبادل، وكانت قيمته تقدر بأكثر من محتواه الذهبي مقارنةً بغيره من العملات الأجنبية الذهبية الأخرى.
واعتمد النظام المالي المصري على المعيار الذهبي الإسترليني بدلا من الاستناد إلى معيار الذهب المعتاد.
يُذكر أن العملة المصرية حملت اسم الجنيه نسبة إلى العملة التي كانت تُستخدم في بريطانيا قبل التحول إلى الباوند. وكلمة جنيه أتت نسبة إلى غينيا التي اُستخدم ذهبها في سك العملة البريطانية. إذ يوثق التاريخ أنه في نهاية عصر النهضة دأب الأوروبيون على جلب ثروات أفريقيا والأمريكتين إلى أوروبا، وخاصة الذهب الذي كان يجلب من غينيا الواقعة في غرب أفريقيا، إلى دور سك العملة في انجلترا، فحملت العملة اسم البلد الذي جاءت منه.
متى طُرح الجنيه الورقي لأول مرة في مصر؟
تأسس في عام 1898 البنك الأهلي المصري ومنحته الحكومة امتياز إصدار الأوراق النقدية القابلة للتحويل إلى ذهب، وأصدر البنك في عام 1899 لأول مرة العملة الورقية التي حملت على أحد وجهيها زخارف هندسية يتوسطها اسم البنك الأهلي وفئة العملة النقدية. أما الوجه الآخر فقد حمل صورة لجملين في صحراء مصر. وكان الجنيه الورقي مقدرا بـ 7.43 غرامات من الذهب، ونظرا لقيمته الكبيرة فقد قسم إلى عدد من الفئات الأصغر مثل القرش والمليم.
وهكذا، أصبحت العملات المتداولة في مصر تضم الجنيه الإسترليني الذهبي وأوراق النقد المصرية القابلة للتحويل إلى ذهب.
واستمر هذا الوضع حتى 2 ديسبمر/كانون الأول من عام 1914 مع بداية الحرب العالمية الأولى وإعلان بريطانيا الحماية على مصر وربط الجنيه المصري الورقي بالجنيه الإسترليني، وكان حينها أقوى من الجنية الإسترليني.
كما صدر قانون بوقف تحويل العملة الورقية إلى ذهب. ومنذ عام 1930، بدأت مصر تستخدم علامات مميزة لمنع التزييف والتزوير مثل العلامة المائية على الأوراق النقدية والأشرطة المعدنية وإضافة الصور المجسمة إلى فئات الأوراق النقدية الكبيرة.
وأصبح الجنيه المصري (الورقي) هو الوحدة الأساسية للعملة، فتغيرت قاعدة النظام النقدي المصري إلى الجنيه الورقي ولم تعُد العملات الذهبية تُستخدَم في التداول.
وقد أسست مصر البنك المركزي في عام 1961 وصارت له السلطة والسيطرة على تداول الجنيه المصري. وربطت مصر الجنيه في عام 1962 بالدولار الأمريكي.
وتوسعت بذلك مسيرة الجنيه المصري، فبعد ربطه عند ولادته بمعيار ثنائي المعدن من الذهب والفضة، رُبط بالذهب فقط، وبعدها بالجنيه الإسترليني، وأخيرا رُبط بالدولار.
ومنذ أن أطاح الجيش بالنظام الملكي في مصر في عام 1952 وحتى عام 1967 سجل سعر صرف الدولار قفزة كبيرة مقابل الجنيه، إذ ارتفع من نحو 0.25 إلى نحو 0.38 من الجنيه.
وواصل الجنيه لعقود تراجعه أمام الدولار في السبعينيات بعد سياسة الانفتاح والاعتماد على اقتصاد ربحي وليس إنتاجي.
وصدم المصريون عندما سجل سعر صرف الدولار في نهاية عام 2011 نحو 13.25 جنيها.
لكن تراجع الجنيه لم يتوقف فقفز سعر الدولار مقابل الجنيه مع قرار التعويم في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2016 ليصل إلى 19.60 جنيها.
وواصل الدولار ارتفاعه مقابل الجنيه منذ عام 1939 وحتى عام 2023، إذ قفز من نحو 0.2 جنيه في عام 1939 ليسجل نحو 30.85 جنيه في البنوك في العام الماضي، مما يعني أن سعر الدولار تضاعف مقابل الجنيه بأكثر من 150 مرة في السوق الرسمية خلال تلك الفترة.
وكان الدولار يباع عند تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي رئاسة مصر، وبالتحديد في 2014 بـ 6.9 جنيهات مصرية مقارنة مع 5.8 جنيهات قبيل ثورة يناير/كانون الثاني من عام 2011.
وفي تلك الفترة اتجهت الدولة إلى الاقتراض لمواجهة المصاعب الاقتصادية. وواصل الجنيه المصري التراجع الواضح والمستمر خلال 2015 و2016، ونشطت السوق السوداء، وبلغ الدولار 22 جنيها مقارنة مع 8.8 جنيهات في السوق الرسمية.
واضطرت الحكومة المصرية حينها وفي ظل أزمات اقتصادية عديدة، إلى الموافقة على شروط صندوق النقد الدولي لتعويم الجنيه للحصول على حزمة من القروض.
لكن كيف بدأ الارتباط بالدولار الأمريكي؟
كان لظهور الولايات المتحدة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كقوة اقتصادية مهيمنة تبعات هائلة على الاقتصاد العالمي. وفي وقت من الأوقات، كان الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة يمثل 50 في المئة من الناتج الاقتصادي العالمي.
وكان من المنطقي نتيجة لذلك أن يصبح الدولار الأمريكي احتياطي العملة العالمي. وقد توصل مندوبو 44 دولة في عام 1944 لاتفاقية بريتون وودز التي أقرت رسميا اعتماد الدولار الأمريكي كعملة احتياطية رسمية.
ومنذ ذلك الحين، ربطت الدول الأخرى أسعار صرف عملاتها بالدولار، الذي كان قابلا للتحويل إلى الذهب في ذلك الوقت، ونظرا لأن الدولار المدعوم بالذهب كان مستقرا نسبيا فقد مكن البلدان الأخرى من تثبيت عملاتها.
واستفاد العالم في البداية من الدولار القوي والمستقر. وانعكس هذا إيجابيا على الاقتصاد الأمريكي. لكن هناك مساع في العالم للتخلص من هيمنة الدولار، لكن هذه المحاولات لاتزال متواضعة.