الضفة الغربية: “رغم محاولتي حماية طفلي إلا أنه قُتِل”!
في بداية الفيديو تضع سماح ذراعها حول شقيقها عمرو.
ترفع الهاتف المحمول للحصول على أفضل زاوية للتصوير، ثم تبدأ قائلة: “أهلا ومرحبا بأجمل الناس. اليوم نحن في القرية وأردنا أن ننقل الأجواء المدهشة. أقسم بالله إنها رائعة!”
سماح وعمرو كانا يلتقطان فيديو لنفسيهما في يوم ربيعي. يتجولان في حديقة منزل العائلة. عمرو أقل تحدثاً من شقيقته الصغرى، التي يسعده أن تصف ما يمكنهما رؤيته. وفي الخلفية، تظهر والدتهما (سلام) وهي تحرق أوراق الشجر والعشب، في مشهد يُظهر عائلة مترابطة تعيش في المكان ذاته منذ أجيال.
تقول سماح: “الجو لطيف ودافئ. انظروا، انظروا! الشمس تبدو جميلة، والنار… ويمكنك القيام بما تشاء”.
والآن تعيش سماح حالة حداد على أخيها الذي يكبرها بسنة واحدة.
قُتل عمرو، البالغ من العمر عشر سنوات، بالرصاص يوم الاثنين 4 مارس/آذار، حين كان يجلس في المقعد الأمامي بشاحنة والده الصغيرة. اخترقت الرصاصة الزجاج الأمامي، وسقط عمرو أمام والده محمد وشقيقه الأصغر أحمد. تدفقت الدماء من رأسه، ولم يكن من الممكن أن ينجو من طلقة كهذه.
لمعرفة ظروف مقتل عمرو النجار، لا بد من معرفة الزمان والمكان الذي عاش فيه؛ فطوال سنوات حياته التي لا تتعدى أصابع اليدين، عاش عمرو في (بورين) شأنه في ذلك شأن والديه وأجداده. كان طالباً مجتهداً وطفلاً هادئاً، لكنه نشأ في مكان يقع في إحدى أكثر بؤر الصراعات استعصاءً على الحل في العالم.
تقع القرية شمالي الضفة الغربية المحتلة جنوب جنين، وتطل على المستوطنات اليهودية التي تعد غير قانونية بموجب القانون الدولي، الأمر الذي ترفضه إسرائيل.
لقد كانت بورين بؤرة ملتهبة منذ فترة طويلة، لكن ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، عندما بدأت الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة بعد أن شن مسلحو حماس هجوماً غير مسبوق على إسرائيل، تصاعدت التوترات في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة. ووفقاً للأمم المتحدة، قُتل أكثر من 400 فلسطيني، من بينهم 107 أطفال، كما قُتل 15 إسرائيليا.
وفي بورين، يقول أهل القرية إن عنف المستوطنين لا يعرف الرحمة. وقد أدانته الولايات المتحدة، التي فرضت مؤخراً عقوبات على عدد من زعماء المستوطنين بسبب ما تسميه “العنف الذي لا يُطاق”.
ويتّهم أهالي القرية الجيش الإسرائيلي بالانحياز للمستوطنين وعدم توفير الحماية للفلسطينيين. وتقول منظمات حقوق الإنسان في إسرائيل والضفة الغربية إن هناك نهجاً طويل الأمد من العنف الذي مكنته القوات الإسرائيلية، لكن الجيش ينفي ذلك.
وتصف “سلام” والدة عمرو نجار، حياة الحذر المستمر التي ثبت في النهاية عدم جدواها، قائلة: “لا أسمح لأطفالي بالخروج من المنزل خوفاً من أن يَقتلوهم، وأصطحبهم بنفسي من المدرسة كي لا يُقتلوا، ثم كان مصير طفلي أن يُقتل هنا في البلدة. رغم محاولتي حماية طفلي، إلا أنه رحل عني”.
في يوم مقتله، صعد عمرو إلى شاحنة والده الصغيرة ليقطعوا مسافة قصيرة إلى بورين من منزل العائلة الواقع على مشارف القرية. يتذكر والده محمد أن الساعة كانت تقريباً (16:30)، فلم يبق على غروب الشمس سوى ساعة تقريبا، وكان عليهم أن يحصلوا على بعض المواد من البقالة ويستلموا هاتفاً بعد إصلاحه، حيث كان الأطفال بحاجة إليه كي يتمكنوا من حضور الدروس عبر الإنترنت عبر “مايكروسوفت تيمز”.
قال الجيش الإسرائيلي لبي بي سي قد كان هناك من يقذف الحجارة في القرية بينما كانت قواته تنفذ عملية لمكافحة الإرهاب؛ لكن جمال نجار، أحد السكان المحليين، قال إن الوضع كان هادئاً عندما دخلت شاحنة عائلة النجار إلى بورين وواجهت دورية عسكرية.
وأوضح قائلاً: “لاحظ [والد عمرو] الجنود وأحس أن هناك أمراً ما. لم يتحرك على الإطلاق، وأوقف السيارة وهو وأطفاله بداخلها… في ذلك الوقت، لم يكن هناك أحد حوله، لا من أهل البلدة ولا من الشباب. بل لم يكن هناك حتى أي أناس يُلقون الحجارة”.
يتذكر محمد، والد عمرو، أنه بينما كان يقود شاحنته، سمع طلقات نارية قادمة من الناحية الغربية للقرية، لكنه لم يتمكن من تحديد موقعها بالضبط، ثم “فوجئ” بالجيش أمامه.
وقال محمد: “في تلك اللحظة أطلقوا النار علينا بشكل مباشر. بلا أي تحذير لي بالتوقف أو القيام بأي شيء… كنا في السيارة عندما فوجئنا بالجنود الذين استهدفونا بشكل مباشر. أطلقوا النار علينا بشكل مباشر، فقتل ابني على الفور، ولم يُجرح، بل قُتل على الفور بعد إصابته برصاصة في الرأس”.
كل هذا شهده أحمد شقيق عمرو، البالغ من العمر سبع سنوات. لقطات الفيديو التي التقطت في أعقاب الحادث، والدماء التي تملأ الأرض بين المقاعد، والمتناثرة على الحائط خلف المقاعد، تعطي لمحة عن التجربة المؤلمة التي عاشها من حضر ذلك المشهد.
يتذكر الطفل أحمد قائلاً: “لم أر الجنود، لكني رأيت دبابتهم وكانت تحمل أعلامهم”.
وأضاف: “كنت معهم في الشاحنة عندما أطلِق الرصاص على عمرو. نزلتُ من الحافلة وهربت. ساعدني والدي على الهرب”.
وتقول الأمم المتحدة إن رجلاً فلسطينياً حاول مساعدة عمرو أصيب أيضاً بالرصاص، وتوفي في المستشفى بعد يومين.
طلبنا من الجيش الإسرائيلي الرد على ما قالته العائلة بأن عمرو أصيب بالرصاص على الرغم من أنه لم يشكل أي تهديد للجنود، فقالوا لنا: “خلال عملية مكافحة الإرهاب التي قام بها الجيش الإسرائيلي في بلدة بورين، قام عدد من المشتبه بهم بإلقاء الحجارة على الجنود، الذين ردوا بإطلاق النار الحي. وبعد فترة وجيزة، ورد بلاغ بشأن إصابة قاصر فلسطيني. ملابسات الحادث قيد المراجعة”.
وتقول منظمات حقوق الإنسان في الضفة الغربية وإسرائيل، إن الجيش لديه تاريخ طويل من استخدام القوة المميتة غير الضرورية.
وقالت منظمة (بتسيلم) الإسرائيلية لبي بي سي: “منذ بداية الحرب في قطاع غزة، واصلت إسرائيل تنفيذ سياسة إطلاق النار المميتة في الضفة الغربية. ومن بين ما يقرب من 400 فلسطيني قتلوا على يد القوات الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، العديد منهم لم يشكلوا تهديداً بالقدر الذي يسوّغ استخدام القوة المميتة”.
وأضافت المنظمة “باستثناء الحالات النادرة التي عادة ما تستهدف جنوداً من ذوي الرتب الصغيرة، لم يُقدَّم أحدٌ إلى العدالة بسبب قتل الفلسطينيين… [وهذا] يعكس تجاهل إسرائيل العميق لحياة وأجساد الفلسطينيين”.
يقول الجيش الإسرائيلي إنه يرد على تصاعد الهجمات الإرهابية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، وإنه “لا يستهدف غير المقاتلين أو الأطفال”، مستخدماً القوة المميتة فقط عندما يستنفد جميع الخيارات الأخرى، مؤكداً أن الجيش يلتزم بالقانون الدولي.
وقد واجهت هذه التصريحات رفضاً من مدير الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين. ويعتقد الدكتور خالد قزمار أن توجيه الاتهامات من قبل المحكمة الجنائية الدولية من شأنه أن يغير سلوك الجنود.
وقال: “بالطبع، يتمتعون بحماية حكومتهم، ويعيشون في ظل حصانة كاملة.. لست متأكداً من أن جميعهم سيتوقفون عما يقومون به، لكن ما أعرفه على الأقل أن الأمر سيكون مختلفاً عما هو عليه الآن”.
بالنسبة لعائلة عمرو النجار، فهم لا يتوقعون تحقيق العدالة، بل يتحدث “محمد” الأب عن الانتقام. “لقد احتلونا وقتلونا واغتصبوا أرضنا… ليس هناك سلام على الإطلاق. نحن لا نفكر في ذلك”.
خلال تشييع جنازة عمرو، غطت ألوان الفصائل الفلسطينية المختلفة، ومنها حماس، جثمان الطفل الذي تحول إلى رمز للأوقات العصيبة الغاضبة التي عاش ومات فيها. بعد ذلك، وضع أصدقاؤه ملصقات في بورين تحمل وجهه الذي يعكس طفولة حزينة وغاضبة لجيل محاصر في مكانه وزمانه.
شارك في التغطية علاء بدارنة وأليس دويارد وحنين عابدين.