حرب غزة: عدد متزايد من سكان القطاع يدفعون آلاف الدولارات مقابل هروب قد لا يحدث
براندون درينون
مع استمرار القصف الإسرائيلي المميت والنقص الحاد في الغذاء، ومع الحديث عن اقتراب عملية عسكرية إسرائيلية في جنوب غزة، يبحث المزيد من الفلسطينيين عن سبيل للخروج من القطاع إذا تمكنوا من توفير المال اللازم لذلك.
ويتطلب هذا الخروج غير المؤكد من الناس دفع آلاف الدولارات والتعامل مع المحتالين وتقديم معلومات مضللة لإدراج أسمائهم في قائمة الأشخاص الذين تتم الموافقة على مغادرتهم عبر معبر رفح إلى مصر.
والمعبر مغلق أمام الغالبية العظمى من الناس في ظل الحصار المفروض على غزة من قبل إسرائيل ومصر. ولم يتمكن سوى بعض حاملي جوازات السفر الأجنبية وعائلاتهم من المغادرة، بالإضافة إلى بعض المصابين والذين يعانون من أمراض خطيرة والمرافقين لهم.
ومع ذلك، يوجد نظام مواز حيث يدفع سكان غزة لوسطاء مصريين كي يُدرجوا على قائمة الأشخاص الذين يمكنهم المغادرة. و تتراوح الأسعار بين 6 آلاف دولار للشخص الواحد إلى أكثر من 12 ألف دولار، وهي مبالغ باهظة بالنسبة لمعظم سكان غزة.
ومع ذلك، تحاول أعداد متزايدة من الناس جمع الأموال للفرار، بمساعدة الأصدقاء وأفراد العائلات المقيمين في الولايات المتحدة وأوروبا. ومن بينهم عبد القادر حماد وزوجته وابنه الموجودون حالياً في رفح المجاورة للحدود مع مصر والتي تستقبل حاليا أكثر من مليون نازح.
ويعاني الابن إبراهيم البالغ من العمر 15 عاماً من متلازمة داون. بالنسبة له، يعتبر القصف الإسرائيلي مؤلما بشكل خاص. ويظهر مقطع فيديو نشرته العائلة إبراهيم وهو يرتجف من الألم بعد كل دوي جراء الغارات الجوية القريبة. ويقول والده عبد القادر إنهم اضطروا إلى إنعاشه صناعياً 3 مرات بعد أن توقف عن التنفس بسبب نوبات الهلع الشديدة.
ويقول إن إبراهيم يتوسل إلى الأسرة للمغادرة قائلاً: “من فضلك يا أبي، لا أستطيع الاستمرار”.
وأضاف حماد: “خلال الأشهر الخمسة الماضية، كل ما تسمعه هو أصوات القنابل والقصف العنيف، أنت فقط تجلس في المنزل وتصلي ألا تكون الضحية التالية”.
وتُدار صفحة عائلة حماد لجمع التبرعات عبر الإنترنت من خارج غزة، مثل معظم الصفحات المشابهة.
ودشن أمجد، وهو ابن آخر للعائلة يعيش في أوروبا، الصفحة الإلكترونية.
وهذه الصفحة واحدة من بين آلاف الصفحات التي تناشد المانحين لمساعدة سكان غزة على “البقاء على قيد الحياة” و”الإخلاء” و”الهروب من الإبادة الجماعية”.
وكانت بعض الحملات ناجحة حيث جمعت أكثر من 100 ألف دولار. ومع ذلك، وجدت بي بي سي خلال حديثها مع العديد من أصحاب الحسابات الذين حتى بعد تحقيق أهدافهم في جمع التبرعات، قالوا إن محاولاتهم اليائسة لمساعدة أحبائهم كانت غارقة في الفوضى والارتباك.
كما قالت إحدى جامعي التبرعات، وهي امرأة من نيو جيرسي طلبت عدم الكشف عن هويتها من أجل عدم التأثير على فرص خروج ابن عمها: “كل يوم يمثل تحدياً مختلفا قد يحدث فيه أي شيء”.
طريق معقد للخروج
التحدي الأول هو تحديد تكلفة المغادرة. وقال أصحاب حسابات جمع التبرعات الذين تحدثوا إلى بي بي سي إن السعر الأكثر شيوعا هو 6 آلاف دولار للشخص الواحد، مما يسمح للأشخاص بالمغادرة في غضون 72 ساعة. ويقوم بعض الأشخاص بجمع التبرعات لتوفير نحو 12 ألف دولار للشخص الواحد، وهو السعر الذي يُقال إنه للخروج في غضون 24 ساعة.
وبمجرد جمع ما يكفي من الأموال، يصبح التحدي التالي هو إدخال عشرات الآلاف من الدولارات إلى غزة. ولم يتبق سوى عدد قليل من وكالات تحويل الأموال مثل ويسترن يونيون في المنطقة المنكوبة، ويستغرق التحويل أيامًا طويلة. واستخدم بعض الأشخاص عمليات تبادل العملات المشفرة، واعتمد آخرون على حسابات خدمة بايبال لتحويل الأموال في أماكن أخرى، حيث أن الشركة لا تقدم خدماتها في غزة أو الضفة الغربية المحتلة.
ومع ذلك، يقوم معظم الأشخاص بتحويل الأموال إلى شخص خارج غزة – قريب أو صديق في أوروبا – الذي يسحب الأموال بعد ذلك ويسافر إلى مصر للانتظار في طابور لمدة أيام في مكاتب شركة هلا للسفريات في القاهرة، وهي شركة تسهل السفر بين مصر وغزة، وتظهر لقطات من خارج مكاتب هلا حشودًا تتجمع في الشارع.
ولم تستجب هلا لطلبات التعليق من بي بي سي.
ومع ذلك، حصلت بي بي سي على نسخة إيصال من شركة هلا ترافيل بتاريخ 13 فبراير/شباط بمبلغ 6 آلاف دولار. ويظهر اسم الشخص الموجود على هذا الإيصال أيضًا مع 4 آخرين على بطاقة منفصلة تشير إلى أنه تم السماح لهم بالدخول إلى مصر، ويشمل هذا المبلغ أيضا كُلفة التأشيرات والسفر إلى القاهرة.
والخطوة الأخيرة هي التحقق من الموافقة عبر الإنترنت. وتنشر أماكن مثل حساب وزارة الخارجية في غزة على فيسبوك قوائم يومية تضم ما يصل إلى 250 اسمًا معتمدًا. لقد دفعوا جميعًا آلاف الدولارات للخروج، وفقًا للشخص الذي قدم الإيصال، والذي طلب عدم الكشف عن هويته.
ويجب على الأشخاص الذين تظهر أسماؤهم في القائمة الرسمية المغادرة في نفس اليوم. ومع ذلك، بسبب انقطاع خدمات الإنترنت والتيار الكهربائي في كثير من الأوقات، يفقد بعض الأشخاص نافذة الخروج ويضطرون إلى تكرار العملية بأكملها، بما في ذلك الدفع مرة أخرى، كما يقول هذا الشخص.
وقال الرجل الذي قدم إيصال هلا لبي بي سي إن أسماء الأشخاص المدرجين في القائمة الرسمية لدخول مصر تظهر فقط بعد أن يتم فحص الأسماء من قبل المخابرات المصرية.
ويقول: “هل هذا جديد؟ لا، إنه ليس جديدا حقا، لكن السعر قبل الحرب كان 600 دولار، والآن أصبح أعلى بعشرة أضعاف، فغزة ليست فقط تحت القصف، ولكن الناس يستفيدون من معاناتهم”.
كما اتهمت حركة حماس التي تحكم قطاع غزة والتي شنت الهجوم على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر تشرين الأول الماضي والذي أشعل فتيل الحرب الحالية: “الشركات والأفراد والأشخاص ذوي النفوذ باستغلال سكان غزة من خلال جعلهم يدفعون مبالغ باهظة لتنسيق سفرهم”.
وصرح وزير الخارجية المصري سامح شكري لشبكة سكاي نيوز بأن بلاده تحقق في الأمر.
وأضاف قائلا “سنتخذ كل الإجراءات التي نحتاجها لتقييد مثل هذه الممارسات والقضاء عليها على الفور”، دون أن يذكر مزيدا من التفاصيل.
وكان ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، قد نفى في يناير/كانون الثاني نفياً قاطعاً “المزاعم المتعلقة بتحصيل رسوم إضافية من المسافرين من غزة، فضلاً عن الادعاءات بأن جهة غير رسمية قامت بتحصيل رسوم المرور إلى الأراضي المصرية”.
وأضاف أن مصر تحاول مساعدة الفلسطينيين في غزة ولا تريد فرض أعباء إضافية عليهم.
مبالغ كبيرة تم جمعها
ويقود معظم عمليات التمويل الجماعي أصدقاء وأقارب يعيشون في الخارج ويشاهدون بلا حول ولا قوة القصف الإسرائيلي وهو يقتل عائلات بأكملها ويحول الأحياء إلى أنقاض.
وتقول شهد، وهي امرأة من ولاية فرجينيا الأمريكية طلبت فقط ذكر اسمها الأول: “إن الأمر يفطر القلب”.
وساعدت في تنظيم حملة لصديقيها، وهما شقيقان، تعرفت عليهما عبر تطبيق تيك توك في عام 2021. وتقول إن أقاربها في غزة قُتلوا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وشعرت شهد بأنها مُلزمة بمساعدة صديقيها بعد أن شهدت إفلاتهما بأعجوبة من الموت، ففي إحدى المرات أصيبا جراء سقوط أحجار بناء متطايرة أثناء قصف مبنى مجاور. ومنذ ذلك الحين وهما يكافحان من أجل البقاء وسط الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة.
وتقول شهد: “هناك لحظات يقولان فيها إنه لم يعد بإمكانهما الاستمرار، قد يكون من الأفضل لو قُتلا، وهما في الأساس مثل العائلة بالنسبة لي في هذه المرحلة”.
ووصلت حصيلة صفحة جمع التبرعات لأصدقاء شهد وبعض أفراد عائلتها إلى أكثر من 105 ألف دولار. لكن إرسالها إليهم كان صعبا. وتم تجميد حساب جمع التبرعات الخاص بهم لعدة أيام في فبراير/شباط، مما منعها من تحويل الأموال. وتم إغلاق حسابات الأخوين على بايبال لأسابيع دون تفسير.
وشكا العديد من المستخدمين الذين يجمعون الأموال لمساعدة الناس في غزة من تجميد حساباتهم. وقالت امرأة من نيوجيرسي لبي بي سي: “الناس يحاولون حرفياً الهروب من الموت، إنه أمر رهيب أننا نواجه في كل خطوة عقبة جديدة.”
وتقول إنها بعد أن جمعت 36 ألف دولار ضاعت الفرصة لإدراج ابن عمها وعائلته في القائمة عندما قامت الشركة بتجميد حسابها لعدة أيام في أوائل فبراير/شباط وطلبت منها المزيد من المعلومات. وقالت إن ذلك الطلب من قبل الشركة، وهو الأول من نوعه منذ عقد من استخدامها المنصة، بدا “تمييزيا”.
وقال جميع الأشخاص تقريبًا لبي بي سي إنهم مروا بنفس التجربة مع تأخير التحويلات، وقال العديد منهم إنهم اضطروا إلى اللجوء إلى التهديدات القانونية قبل الحصول على رد.
وقالت منصة غوفاندمي، وإحدى المنصات التي يستخدمها الناس لجمع التبرعات، لبي بي سي إن أولويتها هي “حماية كرم المتبرعين”.
وقال المتحدث باسم المنصة جالين دروموند: “لقد ساعدت غوفاندمي بالفعل في تقديم عشرات الملايين من الدولارات للأفراد والمنظمات التي تدعم الأشخاص في كل من إسرائيل وغزة، وسنواصل القيام بذلك بأسرع ما يمكن وبأمان قدر الإمكان”.
وأضاف قائلا: “إن أي اقتراح بالتمييز لا أساس له على الإطلاق، ولا أساس له من الصحة، ويتعارض مع القيم التي توجه برنامجنا”.
وقد حقق جوردان، من بروكلين في نيويورك، هدفه المتمثل في جمع تبرعات بلغت 50 ألف دولار ويخطط لإرسالها مباشرة إلى حساب بنك صديقه في غزة حيث يجب على عائلة صديقه المغادرة للحصول على الأدوية المنقذة للحياة.
ويعيش في رفح أكثر من 1.5 مليون شخص نزح معظمهم إلى هناك هربا من القتال، لكن أقلية ضئيلة فقط لديها علاقات مع أشخاص في الخارج يمكنهم المساعدة، وهو واقع وصفه جوردان بأنه “مظلم حقا”.
“أنا على قيد الحياة إلى حد كبير”
يقول أحمد، الذي يعيش في غزة ولكن لديه صديق في كندا يجمع التبرعات له، إنه مضطر إلى المغادرة بسبب التهاب مزمن في الركبة، والذي لم يعد علاجه متوفرًا في غزة.
وقال من فوق سطح أحد المباني في رفح بينما كانت الطائرات الإسرائيلية المُسيرة تحلق في الخلفية: “أنا وأي شخص في غزة قد نموت في أي لحظة”.
وفي وقت سابق من ذلك اليوم، في 12 فبراير/شباط، أرسل لبي بي سي صورة لطفلتين قال إنهما لقيتا حتفهما خلال الليل في غارة جوية قريبة. وقال في نفس رسالة الواتساب: “أنا على قيد الحياة إلى حد كبير، ومكتئب جدا يا أخي”.
كان الشاب البالغ من العمر 24 عامًا يجمع التبرعات منذ أسابيع، لكنه لم يجد حتى الآن طريقة للخروج من غزة.
أولاً، تم تجميد حساب جمع التبرعات الخاص به ونتيجة لذلك، اضطر إلى اقتراض آلاف الدولارات من والديه – اللذين استسلما للبقاء في منطقة الحرب – ليدفع لبعض الوسطاء الذين يثق بهم لتسهيل إدراجه على قائمة الخروج.
وقد فشلت خطته بعد أن منحهم 5 آلاف دولار، وكان عليه أن ينفق 3 آلاف دولار أخرى لحل المشكلة. لقد وعد والديه بأن يسدد لهما دينه بمجرد وصوله إلى القاهرة وتمكنه من الوصول إلى الأموال التي تم جمعها عن طريق التمويل الجماعي.
وما زال أحمد ينتظر. وقال يوم الخميس، عبر رسالة نصية، إنه يعاني من ألم عميق ويشعر بقلق كبير.
لكنه يشعر بالأمل لأنه على وشك الخروج أخيراً من غزة. وقال إن ذلك سيحدث “قريبا”.