كيف أثرت القيود المفروضة على العملة الأجنبية سلباً على حياة المصريين؟
- Author, سلمى خطاب
- Role, بي بي سي نيوز عربي
- Reporting from القاهرة
أياماً وشهوراً قضاها أيمن (اسم مستعار) في التخطيط لرحلة علاج زوجته من مضاعفات إصابتها بسرطان الدم، بداية من اختيار المركز الذي ستخضع فيه للجراحة في النمسا، ثم الحصول على التأشيرات الضرورية، والإقامة في منزل أصدقاء لتقليل النفقات، وغيرها من ترتيبات السفر.
لكن خطط أيمن كلها تعطلت حين عجز عن توفير المبلغ المطلوب للعلاج بالعملة الصعبة، إثر أزمة النقص الحاد في النقد الأجنبي التي تشهدها مصر، والقيود المفروضة من البنوك المصرية على المعاملات بالعملات الأجنبية.
وكانت مصر قد فرضت قيوداً مشددة على معاملات الأفراد والشركات عبر البنوك بالعملات الأجنبية، تشمل وقف استخدام بطاقات الخصم المباشر في المعاملات الدولية، ووضع حدود قصوى للسحب على البطاقات الائتمانية تصل إلى 50 دولارا شهريا فقط في بعض البنوك.
أسعار العملات في السوق الموازية
تقول الحكومة المصرية إن هذه القيود جاءت لتخفيف الطلب على العملات الأجنبية، إذ تعيش مصر أزمة اقتصادية حادة، تتجلى أبرز أعراضها في النقص الحاد في النقد الأجنبي، وفاتورة ديون خارجية ضخمة تصل إلى أكثر من 165 مليار دولار.
إثر هذه القيود، أصبح من الصعب للغاية الحصول على العملات الأجنبية من البنوك، ما دفع كثيرين للبحث عنها خارج النظام المصرفي.
كما ازدهر التعامل بالنقد الأجنبي خارج الجهاز المصرفي وهو ما يعرف بالسوق الموازية أو السوق السوداء لتجارة العملة في مصر للمرة الأولى منذ سنوات، وتجاوز سعر الدولار فيها في بعض الأيام ضعف سعره الرسمي، المثبت في البنك عند 31 جنيها منذ أكثر من عام.
النقص الكبير في النقد الأجنبي يُعزى إلى تراجع عائدات مصادر الدولار في مصر، وأبرزها تحويلات المصريين في الخارج والعوائد من السياحة، فضلا عن تراجع عائدات قناة السويس مؤخرا.
تحويلات المصريين بالخارج خلال العام الماضي تراجعت بنحو 10 مليار دولار، إذ سجلت 31.9 مليار دولار في عام 2021/2022 مقابل 22.1 مليار في عام 2022/2023.
كما تراجعت عائدات قناة السويس بنحو النصف خلال الشهرين الماضيين بسبب هجمات الحوثيين على بعض السفن التجارية في البحر الأحمر.
“نشعر بالذل والعجز”
يقول “أيمن” وهو اسم مستعار لباحث مصري في إحدى منظمات المجتمع المدني، تحدث لبي بي سي شريطة إخفاء هويته حفاظا على خصوصية حالة زوجته الصحية، إن تكلفة الجراحة التي تحتاجها زوجته ومصاريف علاجها بالنمسا تبلغ نحو 12 ألف يورو، “وهو مبلغ نملك مقابله بالمصري، لكن توفيره بالدولار أو اليورو صعب للغاية”.
ويضيف: “حاولنا في البداية شراء اليورو من البنك، لكن هذا لم يكن ممكنا، فلجأت إلى السوق السوداء، لكن لم أتمكن أيضا من الحصول على المبلغ المطلوب، كنت أشتري مبالغ صغيرة على أيام متباعدة، وبسعر مختلف مع كل عملية شراء، كان الأمر مربكا للغاية”.
ويواصل قائلا: “كنت أخرج بسيارتي كل يوم بحثا عن دولار أو يورو في شركات الصرافة، أو عبر أشخاص متعاملين في السوق السوداء، أشتري من هذا 100 دولار، ومن ذلك 50، لم يكن الأمر مجديا على الإطلاق”.
أُضطر أيمن وزوجته إلى تأجيل السفر للعلاج بالخارج، وستخضع زوجته إلى جلسات علاجية لتخفيف الآلام لمدة عام في مصر، ومن ثم إعادة المحاولة لإرسالها لإجراء الجراحة بالخارج.
ويقول الباحث المصري: “نشعر بالذل والعجز، نحن نملك الأموال، ومع ذلك لا نقدر على التصرف، لأن عملتنا تقل قيمتها يوما بعد يوم”.
معاناة أخرى
عانت الطبيبة النفسية المصرية، آية البحقيري، من أجل توفير الجنيه الإسترليني لدفع مصاريف درجة علمية حصلت عليها في بريطانيا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كما اضطربت خططها للتعليم في أي جامعة خارج مصر بسبب أزمة نقص العملة والقيود المفروضة على استخدام البطاقات البنكية.
وفي حديث مع بي بي سي، تقول الطبيبة الشابة التي كانت تدرس لتحصل على شهادة في العلاج الجنسي في إحدى الجامعات البريطانية: “حين بدأت الأزمة في التحويلات البنكية، أُغلقت كل المواقع التي كنت أدفع عبرها مصاريف الدراسة، غير أن الحد المفروض على استخدام البطاقات الائتمانية، والفرق الهائل في سعر الجنيه الإسترليني في البنك مقابل سعره في السوق الموازية، كل هذا جعل من الصعب جدا أن أستمر في دفع مصاريف دراستي”.
تضاعفت مصاريف آية ثلاث مرات خلال فترة دراستها بسبب انخفاض قيمة الجنيه المصري، والفرق بين سعر البيع الرسمي في البنوك والسعر في السوق الموازية، كما كانت تجد صعوبة شديدة في التحويلات البنكية خارج مصر.
وأصدرت الحكومة المصرية في أبريل/نيسان 2023 قراراً باستثناء المصاريف الدراسية والعلاجية من حدود تدبير النقد الأجنبي، بعد تقديم المستندات الدالة على احتياجات الطلاب من النقد الأجنبي، وما يفيد قيد الطلاب في الجامعات بالخارج.
تقول آية : “هذا الاستثناء لا ينطبق على كثير من المصروفات التي ندفعها، في حالتي أنا هناك ما يسمى مصاريف إشراف ترسل على حسابات المشرف على دراستي مباشرة، كما أن هناك دورات تدريبية مع مراكز تابعة للجامعات الأجنبية وغيرها من الأمور التي ندفعها غير مشمولة في هذا الاستثناء”.
لجأت آية لمعارف لها يعيشون في بريطانيا ويحولون الأموال لعائلاتهم في مصر، وكانت تطلب منهم تحويل الأموال بالجنيه الإسترليني إلى الجامعة، وتدفع مقابله بالجنيه المصري لعائلاتهم في مصر. لكن هذا الحل لم يصمد طويلا أمام التغيرات المستمرة في سعر الصرف في السوق الموازية.
وتضيف الطبيبة المصرية: “حين بدأت الأزمة تشتد، أصبح السعر متغيرا من يوم لآخر، وبات هناك رفض من أغلب الناس في الخارج قبول الدفع بالجنيه المصري، وكانوا يطالبونني أن أدفع المبالغ التي يحولونها للجامعة بالخارج إلى أقاربهم هنا في مصر بالعملة الصعبة أيضا، وكان علي عبء تدبير العملة أيضا”.
يعتمد عمل آية بشكل كبير على دراستها المستمرة وتطورها والدورات التي تحصل عليها خاصة في الجامعات الأجنبية، وتقول: “استمراري في الدراسة بالنسبة لمجالي وتخصصي في العلاج الجنسي أمر أساسي وليس رفاهية، لأنه مجال جديد في مصر ولا توجد حوله دراسات كافية في الجامعات المصرية”.
وتواصل الطبيبة قائلة: “أصبحت أفكر 100 مرة قبل التقديم على أي دراسة جديدة في الخارج بسبب هذه القيود، فإذا تمكنت من تدبير أول قسط، بشكل رسمي دون الحاجة إلى البحث عن أقارب، أو البحث عن الدولار في السوق الموازية، كيف سأتمكن من دفع باقي الأقساط، خاصة وأن السوق الموازية لا يخلو من مخاطرة”.
وتجرم القوانين المصرية شراء أو بيع العملات الأجنبية خارج البنوك والقنوات الرسمية، وخلال الأشهر الماضية شنت العديد من الحملات الأمنية لملاحقة المتعاملين بالعملات الصعبة خارج البنوك.
السوق تنتصر دائما
يمتد أثر القيود المفروضة على المعاملات بالعملة الأجنبية عبر البنوك ليشمل تأثيرات على الاقتصاد ككل، حسب ما يقول الخبير الاقتصادي محمد فؤاد في مقابلة مع بي بي سي.
ويوضح فؤاد أنه إلى جانب التأثيرات على الأفراد ممن يريدون السفر للسياحة أو الدراسة أو العلاج، فإن الضرر الأكبر من هذه القيود وقع على رواد الأعمال ممن يعملون في مجالي التسويق الإلكتروني، وتطبيقات البرمجة، الذين خرج كثير منهم من السوق المصرية لتجاوز هذه القيود.
ويضيف: “الدولة تحاول الاحتفاظ بكل الموارد الدولارية، وهي محقة في ذلك، كي لا تتعرض لمخاطر التعثر في تسديد الديون، لكن في الوقت نفسه لا يجوز الفصل بين أولويات الدولة وأولويات المواطن، فإذا كان ما تفعله الدولة لا يعود بالنفع على المواطن ويجبره للجوء لمثل هذه التصرفات، فهذا أمر لا يفيد”.
ويرى الخبير الاقتصادي أن هذه القيود لم تقلل من الطلب على الدولار، بل “حولت معاملات كانت تتم في النظام المصرفي إلى خارجه”.
ويقول فؤاد: “الطلب لن يختفي، الناس ستجد حلولاً، لأنه لا أحد يستطيع أن ينتصر على السوق، ولا أحد يستطيع أن ينتصر على احتياجات الأشخاص، واحتياجات الأعمال، وقوانين العرض والطلب تنتصر في النهاية”.
ويؤكد فؤاد أن حل مشاكل الاقتصاد لا يمكن أن يكون “حلا منفردا” بل يجب أن يكون “حلا كلياً للاقتصاد”، يشمل عدة خطوات أبرزها “التقشف الحقيقي في الإنفاق، وتوجيه أي واردات بالدولار لسداد الدين أولا، ثم سداد احتياجات السوق، والنظر في تحريك سعر الصرف الرسمي بالشكل الذي يوفر العملة، ثم البحث عن موارد لسد الفجوة التمويلية المقدرة بنحو 18 مليار دولار”.
رأس الحكمة بادرة انفراج؟
منذ عام 2016، اقترضت مصر ما يزيد على 20 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، إضافة إلى كثير من القروض من دول خليجية وأجنبية. وخلال العامين الماضيين، خفضت مصر قيمة عملتها المحلية بأكثر من 60 في المئة.
ترجع الحكومة المصرية أسباب الأزمة الاقتصادية الحالية إلى متغيرات عالمية، مثل انتشار فيروس كورونا، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي شملت خروج العديد من الاستثمارات من مصر، في حين يقول المنتقدون للحكومة إن السبب في الأزمة هو التوسع في سياسة الاستدانة، وإنفاق الأموال على مشاريع غير ربحية، مثل بناء عاصمة جديدة والتوسع في تطوير شبكات البنية التحتية والطرق.
وفي الأسبوع الماضي، أعلنت مصر عن مشروع استثماري ضخم في منطقة رأس الحكمة على ساحل البحر المتوسط بشراكة مع الإمارات، يبلغ حجم الاستثمارات به 150 مليار دولار، بينهم 35 مليار دولار، تحصل عليهم مصر خلال الشهرين المقبلين.
وأدى هذا الإعلان إلى تراجع كبير في سعر صرف العملات الأجنبية في السوق الموازية، غير أنه أدى في الوقت ذاته إلى تراجع في حجم المعاملات في هذه السوق انتظارا لإطار تنفيذ ما أعلنت عنه الحكومة المصرية.
وتقول الحكومة المصرية إن هذا المشروع، وما يدره من أموال ستحصل عليها، يمثل بادرة انفراج، إذ من المتوقع أن تخفف هذه الأموال من حدة الأزمة الاقتصادية وأزمة النقص الحاد في العملة الأجنبية.