العلوي يفكك الأساطير المؤسسة للصهيونية في أفق حل القضية الفلسطينية
ذكّر إسماعيل العلوي، الوزير السابق القيادي التاريخي لحزب التقدم والاشتراكية، في مقاله له بعنوان “تفكيك الأساطير المؤسسة للإيديولوجيا الاستعمارية الصهيونية وآفاق إيجاد حل للقضية الفلسطينية”، بمجموعة من المراحل المهمة في تاريخ الشرق الأوسط، والأحداث التي عاشتها وتعيشها الأراضي الفلسطينية، محاوٍلا تسليط الضوء على تطوّر تاريخ البشرية في شموليته بمنطقة الشرق الأدنى حتى يصل إلى تقديم تفسير، ولو جزئي، لظاهرة الكولونيالية السائدة في فلسطين منذ مطلع القرن العشرين.
نص المقال:
إن الأحداث المؤلمة التي تشهدها فلسطين السليبة على إثر العدوان الغاشم الذي يقترفه الكيان الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني، والذي تجاوز قطاع غزة ليشمل الضفة الغربية وجنوب لبنان لتقدم الدليل مرة أخرى على الطبيعة الاستعمارية والعنصرية المقيتة لدولة إسرائيل.
إن الجرائم التي ارتكبها هذا الكيان ومازال يرتكبها كيان الفصل العنصري في حق آلاف المدنيين وتقتيل الأطفال والنساء والشيوخ، والتي أصابت الضمير العالمي بالذهول باعتبارها تعتبر جرائم في حق الإنسانية جمعاء، لتكشف عن حقيقة المشروع الصهيوني الهادف للإبادة الجماعية للسكان الأصليين لأرض فلسطين.
وهكذا ترد علينا، يوميا، أخبار تذكرنا بأن الشعب الفلسطيني يؤدي ثمنا باهظا من خلال تضحيات أبنائه وبناته. ولا تقتصر مآسيه في تقديم الأرواح بل نرى أن أراضيه، هي بدورها، تسلب منه ظلما وعدوانا.
ولا ينبغي علينا أن نتساءل فقط: لماذا يحصل ذلك؟ بل لا بد أن نضيف: لماذا يخيم صمت رهيب، على مستوى ما يسمى “بالمنظومة الدولية”؟، إذا ما استثنينا بعض الشرفاء الذين يرفعون عاليا راية التضامن مع الشعب الفلسطيني ويحثون إلى مقاطعة المنتوجات الإسرائيلية ويعطون المثل في هذا الميدان احتجاجا على الاحتلال الصهيوني وعلى السلوك الإسرائيلي العنصري ورافضين -في ما يهم الوطن العربي- أي نوع من التطبيع مع النظام الصهيوني الغاشم.
فباستثناء هؤلاء الشرفاء نلاحظ أن دول الغرب كأجهزة حاكمة اجتمعت، في معظمها، في صف واحد ضد فلسطين وشعبها. ومما يزيد من ألمنا وغضبنا أننا أصبحنا نسمع ونشاهد في عالمنا العربي عددا من التصريحات والتصرفات يندى لها الجبين. فحتى بعض المشايخ الذين يدعون الدفاع عن الإسلام، يتفوهون بكلام لا يمكن أبدا أن نقبله، مدعين أن الصهاينة فوق أراضيهم لأنها هي “أرض الميعاد” التي وعد الله بها بني إسرائيل”، وبالتالي وعد بها الصهاينة وكأن اليهود والصهيونية شيء واحد!
لذا يستوجب لإدراك ما يحصل لهذا الشعب الشقيق الجريح والسليب في مجمل أراضيه، التعرف على أسباب المآسي التـي يعاني منها. إذن لا بد، أن نقوم بمراجعة بعض المعطيات، ونبدأ بالتذكير بتطور تاريخ البشرية في شموليته بمنطقة الشرق الأدنى حتـى نصل إلى تقديم تفسير، ولو جزئي، لظاهرة الكولونيالية السائدة في فلسطين منذ مطلع القرن العشرين.
قبل أن نتعرض، ولو بإيجاز، إلى تاريخ الشرق الأوسط، لا سيما التاريخ الديني منه، وبزوغ فكرة “وحدانية الإله” قبل أن تهيمن على الفكر البشري عموما، علينا أن ننظر إلى محاولة استغلال هذه الظاهرة من قبل الصهاينة وإدراجها في أسطورتهم الخسيسة، سعيا منا إلى دحض كل التضليلات الصهيونية التي تغمر وسائل الإعلام بشكل مذهل، ويتأثر بها العديد من الناس.
يعلم الجميع أن الأزمة التي يعيشها الشرق الأدنى مذ قرن ونيف تجد أصولها وأسسها في الانتشار الكولونيالي الأوروبي؛ كما تجد جذورها، في آن واحد، (وهذه مفارقة يجب أن نسطر عليها) في سلوك عنصري معادٍ لليهود في كافة المجتمعات الغربية بما فيها الطبقات “المتنورة” الحاكمة.
فمع الإلحاح على هذه التوأمة وهذا التزامن الذي حصل بين التوسع الاستعماري الكولونيالي والعنصرية المعادية لليهود، يجب علينا التذكير كذلك، ولو في إشارة سريعة، بما عانته البشرية في قارتنا الإفريقية وفي “العالم الجديد” (أمريكا بشمالها وجنوبها) من استعباد وتنكيل وحتى من إبادة، منذ القرن 16، مختلف الأنظمة التي حكمت. في السياق نفسه لا بد من الإشارة إلى مؤتمر برلين (سنة 1878) الذي جزأ إفريقيا، شطرا شطرا، بشكل يكاد يكون هندسيا ووزعها على البلدان الاستعمارية كفرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال. فكل دولة من هذه الدول وجدت نصيبها في هذه “الوزيعة” التي تمت ضدا على حقوق الشعوب وفي غفلة من هذه الأخيرة، ثم وبشكل يكاد يكون موازيا لهذا الحدث، في سنة 1897، (ما يربو عن 20 سنة بعد مؤتمر برلين)، انعقد مؤتمر آخر (في مدينة “بال” السويسرية) أسس للحركة الصهيونية بقيادة “هرتزل” (Herzl) من أجل الرد على العنصرية السائدة في أوروبا آنذاك، فاقترِحَ “إنشاء” موطن لليهود الأوروبيين قبل غيرهم من اليهود طبعا. وجعل هذا السعي الخسيس أتباع “هرتزل” يفكرون، أولا، ولأنهم كانوا متشبعين بالفكر والإيديولوجيا الاستعمارية الأوروبية، في احتلال أرض من أراضي إفريقيا: (أوغندا ثم مدغشقر) قبل التفكير في حط الرحال بالأرجنتين. لكن كل هذه المشاريع لم تتحقق فحدث تلاقٍ بين، من جهة، فكر صهيوني متطرف، مبني على “أساطير الأولين” ويعتمد معطيات لا تمت بصلة للوقائع التاريخية الحق، ومن جهة ثانية، ووصول “بلفور” (Balfour) إلى منصب وزير خارجية بريطانيا. كان “بلفور” هذا ينتمي إلى تيار مسيحي، عنصري، مناصر لفكرة منع اليهود من الدخول إلى بريطانيا وتهجيرهم إلى “الأرض المقدسة”، اعتقادا منه ومن العديد ممن كانوا ينتمون إلى كنائس بروتستنتية في بريطانيا، بأن استيطان اليهود بالأرض المقدسة أو ما كان يلقب في أسفار “الوعد القديم” (l’Ancien Testament) بـ”أرض الميعاد” سيُمَكِّنُ، بعد تنصيرهم ولو بالسيف، من “نزول المسيح من السماء إلى الأرض” قبل حدوث القيامة. فاستقر بالتالي رأي الحكومة التي كان بلفور عضوا فيها وبإيعاز منه، على إصدار الإعلان سيئ الذكر الذي يحمل اسمه، سنة 1917. وهنا علينا أن نشير إلى أن هذا التلاقي الحاصل بين الصهاينة و”بلفور” لم يكن مبنيا على معتقدات الطرفين فقط، بل كان يرتكز إضافة إلى ما كان بعض اليهود يمثلونه على المستوى المالي وعلى ما كان يمثله بعض القادة الصهاينة، كـ”حاييم وايزمان” الألماني الأصل (الذي سيصبح رئيسا للكيان الإسرائيلي في ما بعد)، من أهمية على المستوى العلمي إذ كان كيميائيا وهاجر إلى بريطانيا وكان من مبتكري إنتاج واستعمال الغازات السامة خلال الحرب العالمية الأولى. وتجدر الإشارة إلى أن موقف بلفور الوزير “المسيحي” المنتمي إلى طائفة “بروتستانتية”، كان مبنيا على اقتناعه الراسخ بأن اليهود، “بصلبهم” عيسى بن مريم، تحولوا إلى قتلة الإله (des déicides). وبالتالي فتصرفه بالإعلان عن تصريحه المشؤوم ليس سوى تصرف شخص، عنصري متعصب لمعتقده، يريد تخليص بلاده من جميع اليهود، فاعتبر أن منح هؤلاء القوم مأوى خاصا بهم في أرض يحتلها أبناء جلدته، البريطانيون، قرار “رابح” على جميع الأصعدة.
وما هو أهم من كل هذه المعطيات هو أن “وعد بلفور” اندرج كذلك في سياق السياسة الاستعمارية الإمبريالية (البريطانية-الفرنسية) التي ما فتئت تسعى، منذ القرن 19 زمان محمد علي باشا، حاكم مصر آنذاك، إلى عرقلة كل تيارٍ وحدوي عربي بالمشرق. وتبلور هذا التحالف، الامبريالي-الاستعماري العنصري، خلال الحرب العالمية الأولى بإبرام اتفاق ثنائي بين بريطانيا وفرنسا عرف باسم مُوقعيه “سايكس” (Sykes) البريطاني و”بيكو” (Picot) الفرنسي.
تقرر في هذا الاتفاق تجزئة المشرق إلى منطقة نفوذ بريطانية تضم حقول النفط بالعراق وكذلك فلسطين والأردن، بجوار أخرى تخضع لنفوذ فرنسي. “بالشام الشمالي” (سوريا ولبنان).
بتفعيل هذا الاتفاق وبعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية وتفكيكها أصبح وعد “بلفور” قابلا للتحقيق بفضل احتلال بريطانيا لفلسطين والتنكر للوعود المعسولة التي قُدِمت للعرب والرامية إلى إنشاء مملكة عربية تضم المشرق العربي (باستثناء مصر والجزيرة) تحت إمرة الهاشميين. وساعد هذا الواقع السياسي الجديد على نمو فكرة تحقيق استعمار صهيوني استيطاني بفلسطين، يعطي الأسبقية إلى المهاجرين الآتين من أوروبا الشرقية والوسطى أساسا.
يركز أنصار الصهيونية المعاصرون (وليسوا كلهم يهودا كما رأينا) على فكرة “أرض الميعاد” أولا.
وعلينا، عند معالجتنا لهذا الجانب، أن نتحلى بكثير من الموضوعية التاريخية بعيدا عن كل التمثلات الأسطورية حيث أن فكرة “أرض الميعاد” تجد أصلها في الواقع في التاريخ القديم لمنطقة “الهلال الخصيب” الذي يضم كل من دلتا النيل وسهل الرافدين (دجلة والفرات) وهوامشه.
فطيلة الألفية الثانية قبل الميلاد، عرفت هذه المنطقة تحركات بشرية كثيرة قامت بها أقوام مختلفة يجمعها الأخصائيون تحت لقب “الساميين”(sémites). أسس أولئك الأقوام دولا كان لها باع طويل في المنطقة وأثرت بشكل كبير في تطوير الإنسانية ماديا وعلى مستوى الأفكار لاسيما منها الدينية.
وما كان يميز هذه الأقوام، من أكّادِيين (Akkadiens) وآشوريين(Assyriens) وبابليين (Babyloniens) وكنعانيين (Cananéens) وآراميين (Araméens) وعرب (العاربة منهم والمستعربة) أنهم رحل في الأصل، يقطنون مناطق صحراوية محادية لمناطق رحبة (وادي النيل وسهل الرافدين) قبل أن يؤسسوا دولا (États) وأسرا حاكمة (dynasties) تعاقبت على المنطقة.
ويمكن أن نعتبر أن ما يُروى عن حياة إبراهيم عليه السلام يمثل ملخصا لما عاشته هذه الأقوام- في تنقلاتها التَّرحالية. فترد علينا القصص الخاصة بإبراهيم (الذي تكون اسمه من كلمتين “أب ورم” معناهما “أبو الكُثْر” أي البشر الكثير) بأنه، غالب الظن، نشأ بـ”أُور” (جنوب العراق الحالي) بالقرب من مصب الرافدين، قبل أن ينتقل نحو الشمال إلى “حران” (جنوب تركيا حاليا)، ويصل بعد ذلك إلى أرض كنعان. وهنا عهد له بأن هذه الأصقاع له ولوارثيه لكنه لم يستقر هناك فزار مصر وتزوج إضافة إلى بنت جلدته سارا من جارية مصرية وهي “هاجر”.
وما هذه السيرة إلا ملخص لترحال كل هذه القبائل “السامية” كما حددت مجال تنقلاتها. وإذا كانت تمثل سيرة إبراهيم ملخصا لتنقلات هذه الشعوب “السامية” كلها، فإنها تعبر بالخصوص عما حدث مع “تدفق” من أَطلق عليهم المصريون القدامى اسم “هيقة خسوت” أي “أمراء (بلدان) العجم” تلكم الكلمات التي كيفها الإغريق مع لهجتهم وحولوها إلى “هيكسوس” (Hyksos). وحدث هذا التسرب الذي أدى إلى استيلاء هذه الأقوام على الحكم بمصر خلال الفترة ما بين 1780 و1530 قبل الميلاد، أي على مدى قرنين ونيف من الزمن.
ونجد هذه المرحلة مجسدة في “قصة يوسف” وإخوته وأبيه يعقوب وكلهم من “حفدة” إبراهيم، إذ أصبح يوسف وزيرا لفرعون، مما يعني أن جزءا من هؤلاء الرحل استطاع أن يصل إلى سُدَّة السلطة وجعل جميع أفراد “القبيلة” بمن فيهم “إخوته” الذين أساءوا إليه يستفيدون من “بيت مال” مصر وخزائنه، من حبوب وغيرها في فترات الجفاف وما يتلوها عادة من مجاعات وأوبئة. وإذا عدنا إلى التسلسل التاريخي الوضعي المضبوط نسجل أن أهم ما طبع تاريخ مصر بعد انتهاء مدة حكم “الهكسوس” (حوالي 1550 قبل المسيح) وتدهور مكانتهم سياسيا واجتماعيا طيلة قرنين، هو ما حدث على يد الفرعون “أخناتون” (Akhnaton) الذي تأثر ببعض تقاليد وطقوس “الهكسوس” الرحل الذين كانت قبائلهم وعشائرهم تخصص، كل واحدة على حدة، ولاءها إلى إله واحد مرتبط ارتباطا متينا بها، ففضل أن ينهج نهجهم وقرر أن “إلهه” سيكون واحدا وأنه سيعمم الفكرة على بلاده كلها وشعبها. هكذا أسس لدين لم يقبل تعدد الآلهة، آخذا من الشمس رمزا لإلهه “أتون” (Aton).
لكن هذه الثورة “التوحيدية”، بمصر، لم تعمر كثيرا نظرا لعمق تشبث عموم الشعب بالنظام الديني السابق مما أرغم المسؤولين الذين كانوا من المقربين “لأخناتون” كالوزير “آي” (Ay) أو القائد العسكري “حُرمحب” (Horemheb) الذي سيصبح فرعونا بعد وفاة “آي” (الذي تربع على كرس الحكم بعد موت، أو اغتيال ابن “أخناتون” الذي سبق له أن اختار كلقب ونعت له اسم “توتنخامون” (Toutankhamon) تأكيدا على إعلان الردة عن اختيار الدين التوحيدي الذي حاول فرضه أبوه الفرعون الأسبق.
لا شك أن هذه الردة لم يقبل بها الجميع. وهنا تأتي قصة موسى عليه السلام. إن اسم “موسى” “Moses” كما يعلم الكثير اسم مصري لا شك في ذلك. كما لا ريب في أن موسى كان ينتمي إلى وسط محظوظ اجتماعيا إذ يحكى أن أميرة من القصر الفرعوني قد احتضنته بعد انقاذه من الغرق وهو رضيع وبقي هذا الشاب متأثرا بأفكار “أخناتون” كما بقي يحن لهويته “الهكسوسي” الأصلية، مما جعله من المتمردين على المرتدين بل قائدا لعملية رفض الردة التي حصلت بعد وفاة “أخناتون” وترأس مجموعة من بقايا قبائل الهكسوس الذين فضلوا مغادرة مصر بعدما أصبحوا منبوذين من عامة سكان مصر.
فتنقل معهم مدة طويلة في صحراء سيناء، قبل أن يعودوا إلى المنطلق الذي أتوا منه أصلا أي إلى هوامش مصر شرقا.
إن هؤلاء “المهاجرين” لُقِّبُوا، حسب تأويلات البعض، “بالعبريين” بعد عبورهم صحراء سيناء ثم صحراء النقب فوادي الأردن وأخذوا يفرضون هيمنتهم على أبناء عمومتهم، الكنعانيين، معتبرين الأرض التي دخلوها وقرروا الاستقرار بها عُنْوَةً “أرض الميعاد” التي عهد بها إلى جدهم حفيد يعقوب “أبي البشر” “أب رم”؛ إبراهيم.
ورغم العنف الذي طبع دخول “العبريين” المنطقة، فالذين استقروا في أرض كنعان اندمجوا مع من سكن هذه الأرض قبلهم، ثم تأسست أسرة حاكمة حكمت المنطقة قبل أن تخلفها أسر أخرى وأن تتعرض المنطقة هي نفسها إلى غزوات شعوب مختلفة أتت من جميع الأصقاع، من الغرب ومن الشرق ومن الشمال ومن الجنوب، منذ نهاية الألفية الثانية قبل المسيح إلى زمننا. كما عرفت المنطقة وسكانها تقلبات همت الميدان العقائدي. فبعد تعايش ديانات ومذاهب مختلفة وبعد بلورة الديانة اليهودية وتطوراتها، هيمنت في المنطقة قبل الفتح الإسلامي المسيحية بمفهومها “البُوْلسي” (Paulien) (بالرجوع إلى “القديس بولس” (Paul) واسمه الحقيقي “ساؤول” المؤسس الحقيقي للمسيحية كما نعرفها اليوم).
إن المنطقة التي نلقبها في زمننا باسم “فلسطين” كانت، على الدوام، منطقة توافد أقوام وشعوب مختلفة، كما هاجر الكثير من سُكانها إلى بلدان تحيط بالبحر الأبيض، إما قهرا أو عن طيب خاطر، بحثا عن العلم أو للإتجار… وهذه الظاهرة الأخيرة تدحض أسطورة “الشتات الناتج عن تهجير قسري” التي يدعيها الصهاينة وأنصارهم.
فما يحاول أصحاب هذه الأطروحة هو توهيم الجميع بأن اليهود المعاصرين يتحدرون كلهم من أرض كنعان، مما يفسر “عودتهم إلى أرض الأجداد!
في حين أن عددا ممن غادر أرض كنعان غادرها عن طيب خاطر كما سبق الإشارة إلى ذلك. كما أقدم بعضهم بعمليات تبشيرية مما أدى إلى ظهور ممالك يهودية في اليمن الحالي مثلا، مع دولة حِمير وحاكمها “ذو النواس” والتي ازدهرت في القرن السادس بعد المسيح، أو مملكة الخزر التي تكونت عند مصب نهر “فولكا” وعلى شواطئ البحر الأسود وخصها “أرتور كيسلر”Arthur Koestler) ) بكتاب سماه، “القبيلة الثالثة عشرة”.
فسكان هاتين المملكتين كانوا عربا في اليمن، وأتراكا في مصب نهر فولكا ولا علاقة لهم بأرض كنعان أو فلسطين بتاتا.
كما علينا أن نذكر بأن المهاجرين الذين غادروا أوطانهم زمن الاحتلال الروماني في القرنين الأول والثاني بعد المسيح والذين كانوا يدينون بدين موسى، عليه السلام، استطاعوا أن “يهوّدوا” بعض القبائل في شمال إفريقيا (بتونس والجزائر والمغرب حسب التسمية الحالية لأقطار هذه المناطق) وفي غير شمال إفريقيا داخل الإمبراطورية الرومانية وخارجها (انظر كتاب -لكاسين- -lacassagne- كوهن COHEN في الموضوع) مخصص ليهود شمال إفريقيا وأصولهم.
إذن فلا فكرة “أرض الميعاد”، تبرر الأطروحة الصهيونية، ولا خرافة “الشتات القسري” لها نصيب من الصحة. فحتى ما أقدم عليه “نبوخذنصر” الثاني (Nabuchodonosor) [605 و562 قبل الميلاد، من ترحيل بعض اليهود إلى بابل (Babylone) عاصمة ملكه، لم يهم إلا البعض من سكان القدس آنذاك الذين أخذهم كرهائن تاركا معظم باقي السكان (من فلاحين وسكان حواضر وقرى) في مكانهم وأوطانهم علما أن حتى الرهائن الذين أتى بهم نبوخذنصر إلى بابل عادوا إلى أوطانهم بعد انهيار بابل على يد الفرس، خمسين سنة بعد تهجيرهم.
وتجدر الإشارة إلى ما تركه من كتب وقصص الكهنة من بين الأعيان الذين احتجزهم البابليون كرهائن تأثر كثيرا بالطقوس البابلية التي أدرجت في الكتب الدينية التي أصبحت مراجع أساسية لدى معتنقي الديانة “اليهودية”.
أما الأسطورة القائلة بأن جميع اليهود الموجودين في زمننا هذا يتحدرون من أرض كنعان (فلسطين الحالية) أؤكد إنما هي سوى أسطورة كما ترهن الدراسات التاريخية الجادة على ذلك.
وبعد هذه التدقيقات المثبوتة تاريخيا لنعد إلى التاريخ المعاصر.
فبعد مؤتمر بال، بسويسرا ومبادرة العنصريين البريطانيين البروتستانت كبلفور وإقدامهم، لحسابات سياسية وعقائدية في آن واحد، على تقديم ما سمي “بوعد بلفور”، تمكن الصهاينة، بعد تردد من الاندراج في المخطط الإمبريالي الاستعماري فقاموا بالنداء إلى الهجرة إلى أرض فلسطين تحت شعار تعمير “أرض بدون شعب من قبل شعب بدون أرض” أي أنهم استعملوا ضمنيا المنطق نفسه، الذي دفع بالآلاف من الأوروبيين إلى الهجرة إلى ما سموه بالمستعمرات منذ القرن 16 بـ”العالم الجديد” أي “الأماركة” (les Amériques) قبل اكتساح أو شبه اكتساح المعمور برمته.
إن توافد مهاجرين أوروبيين يدعون التدين بدين موسى ومتشبعين بالإيديولوجيا الصهيونية وأساطيرها وخرافاتها لم يقبله سكان المنطقة التي قررت الإمبريالية منحها لهؤلاء المهاجرين.
فمنذ البدء شعر الورثة الحقيقيون لمن عاش احتلال أرض كنعان من قبل العبريين وعاشر داوود وسليمان علهما السلام ولمن عرف احتلال المصريين بمن فيهم من دخل المنطقة من قبائل “الليبوا” الأمازيغ ثم من “الآشوريين والبابليين” الساميين فالفرس “الكرش” قبل مجيء “إسكندر” ذي القرنين فالرومان، وقاوموا هؤلاء الغزاة كلهم. قلت، شعر هذا الشعب بخطورة هذا الغزو الجديد، الحديث، الصهيوني وعارض تفويت أي شبر من أرضه إلى الصهاينة حتى وإن استسلم بعض الأثرياء الخونة أمام الأموال التي أغدق عليهم بها القادة الصهاينة. وعندما استفحل الأمر في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي انتفض الفلسطينيون في ثورة عارمة ضد المعمرين الصهاينة وضد جيش الاحتلال البريطاني فاستعملت بريطانيا كل طاقاتها واستطاعت قمع المقاومة الفلسطينية التي فقدت رموزا وقادة كبارا في العملية. ثم مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وما صاحبها من أعمال وحشية أقدم عليها النظام الألماني النازي ضد من كان يعتبرهم، طبقا لإيديولوجيته العنصرية، غير آريين (non aryens) من غجرٍ ويهود ارتفع مستوى عطف حكام الشعوب الغربية في أوروبا وأمريكا نحو “الشعب اليهودي” فخلصت الأوضاع إلى قرار التقسيم الجائر لأرض فلسطين واندلاع الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى، التي انتهت بانهزام الجيوش العربية وإرغام مئات الآلاف من الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم بل وحتى وطنهم. فكانت النكبة الأولى. يبقى أن الكيان الدخيل، دولة إسرائيل، كان وليد هذه الظروف كلها. فتسلسلت أحداث مؤلمة، كما أخذت تمثل هذه الدولة تجلٍ آخر للظاهرة الكولونيالية وبدأت دائما تحت المظلة الامبريالية الامريكية تعلن بشكل تدريجي عن طابعها العنصري. وإذ تكبدت الجيوش العربية هزيمة نكراء فلقد تعرض الشعب الفلسطيني إلى تنكيل وتقتيل ممنهجين من قبل العصابات الصهيونية (شترن Stern وإيرگون Irgoun وهاگدا Hagadah) وتحول جزء غير يسير من هذا الشعب الجريح إلى لاجئين ببلدان الجوار (كسوريا ولبنان والأردن بالخصوص).
وكان لحدث هزيمة الجيوش العربية آنذاك، كما يعلم الجميع، أثره الكبير على معنوية الشعوب العربية في المشرق، وحتى في المغرب الكبير الذي كان آنذاك في خضم معركة التحرير من قبضة الاستعمار. ففي المشرق أدت الأوضاع إلى ظهور “حركة الضباط الأحرار” في مصر، ثم في العراق، ثم إلى حدوث ثورات شعبية قوية.
فهذا الأمر وهذا الاختمار الذي حصل ما بين 1948 و1962 في المشرق وفي المغرب تزامن مع نشوب حرب ثانية بين الكيان الإسرائيلي والعرب سنة 1956 حيث حصل “تكالب” البريطانيين والفرنسيين مع الإسرائيليين، كل واحد منهم انطلاقا من حساباته الخاصة: الرد على عملية تأميم القناة بالنسبة للبريطانيين والانتقام من عبد الناصر الذي أذكى الشعور الوحدوي العربي وكان يساند الثورة الجزائرية المناهضة للاستعمار بالنسبة للفرنسيين وأما بالنسبة للإسرائيليين فكان الحافز هو التوسع الترابي على حساب أراض عربية، فلسطينية.
لكن تدخل السوفيات آنذاك، وتدخل الأمريكان جعل البريطانيين والفرنسيين والإسرائيليين يتخلون عن “المكاسب” التي حققوها ميدانيا؛ لكن إذا أرغم الغزاة على التراجع فهذا لا يعني أن إسرائيل جعلت حدا لعدوانيتها فنشبت بالتالي حرب ثالثة سنة 1967، حرب هجومية عدوانية بشهادة “دوغول” (De Gaulle) الذي قال بأن “الظالم في الأصل هو إسرائيل وليس العرب”. ومع كل أسف لم يكن العرب على أتم الاستعداد واليقظة آنذاك، فحصل ما حصل وانهزم العرب مرة أخرى هزيمة نكراء رغم بطولة الجندي العربي ثم تلت هذه الحرب الثانية حرب رابعة سنة 1973.
لهذه الحرب الرابعة التي ساهم فيها المغاربة وببطولة، في معركة جبل الشيخ مثلا، دلالة خاصة وهي أن الشعوب العربية أصبحت أكثر شعورا بأهمية المعركة ضد الصهيونية؛ وفي المقابل أخذت شعوبنا وجميع الأحرار في العالم يلاحظون أن الولايات المتحدة زادت في دعمها ومساندتها لإسرائيل أمام ما تعتبره تمردا عربيا شعبيا ضدها.
لكن السبب في ما نحياه اليوم لا يكمن في دور الإمبريالية الذي (ولا غرابة في ذلك) ما زال مستمرا، فقط، بل يعزى كذلك إلى مسؤولية الدول العربية. ففي هذا الباب علينا ألا ننسى أن بعد الحرب الرابعة التي استبسل خلالها الجنود العرب في الجبهتين المصرية والسورية، حصل رغم ذلك استسلام غير مشروع وغير مقبول حيث أبان القادة العرب عن انبطاح تام أمام الكيان الصهيوني المدعم من قبل عرابه، الإمبريالية الأمريكية وذيولها الأوروبية. فحصل التطبيع بين مصر وإسرائيل ثم بين الأردن وإسرائيل ولم تتوقف عملية التطبيع هذه، بل هي في استمرار خطير. وأفظع من هذا كله، لم تكتف بعض الأنظمة العربية بالانبطاح بل أخذت تنصب نفسها عرّابا للصهيونية ووصيا على القضية الفلسطينية كل نظامٍ حسب مراميه وحسب أهدافه وحسب تصوراته ويسعى إلى احتضانها واستعمالها (أي القضية الفلسطينية) من أجل الوصول إلى أهدافه الخاصة الخسيسة.
لكن إذا كنا نعتبر أن الشعب الفلسطيني بجميع مشاربه وتلويناته هو صاحب القرار فلا مناص من أن يقوم وفصائله السياسية بنقد ذاتي يقوي مكانته بين الأمم ويمكنه من الرد بنجاح على مخططات الصهيونية وحليفها الأساسي، المتمثل في القوات الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
وعندما نقول هذا الكلام لا ننصب أنفسنا ناهيا ولا بالأحرى آمرا على شعب أبان عن نضجه وبسالته واستماتته في وجه أعدائه، لكن نريد فقط أن نثير الانتباه، وبكل تواضع، إلى بعض الجوانب الملفتة للنظر والتي يمكن لأي ملاحظ أن يشعر بها عندما يتأمل في مسيرة نضال هذا الشعب الباسل. فبالإضافة إلى ظاهرة التشرذم السلبي والمضر الحاصل داخل المجتمع السياسي الفلسطيني، هناك (وهذا هو مقصد كلامنا) ميدان ثان يجب الإقدام عليه في عملية النقد الذاتي التي نشير إليها وهو القاضي بالعودة إلى التاريخ (لا الآني ولا الحديث) بل التاريخ القديم الذي يسعى الصهاينة في جشعهم، إلى احتكاره في عمليتهم التضليلية للرأي العام الدولي وحتى للرأي العام الخاص بالذين يدينون بدين موسى عليه السلام.
لماذا أؤكد على هذه النقطة؟ أؤكد عليها لأنني أرى أن شعبنا الفلسطيني وكأنه يتنكر إلى ماضيه القديم المُثبَت موضوعيا ووضعيا والذي يجعله “وهو بعيد عن الأساطير” كفيلا بأن يعلن أنه هو الوارث الشرعي والوحيد لمن عاش غزوات من سماهم المصريون القدماء بـ “شعوب البحر” في القرن 12 قبل الميلاد لا سيما أن قوما من هؤلاء هو الذي أعطى اسمه إلى هذا الجزء من أرض كنعان الملقب بفلسطين. وهذا الشعب المعروف تحت لقب الفلسطيني هو الوارث لشعب داوود وسليمان وابنه الربيع وهو الذي عاش أجداده بعد ذلك احتلال البلاد من قبل الفرعون “شيشوق” الأول، الأمازيغي الأصل (القرن 10 قبل المسيح). وهو الوارث لأولئك الذين عاينوا مجيء جيوش “نبوخذ نصر الثاني” “Nabuchodonosor” في القرن 6 قبل الميلاد والذي أمر كما سبق ذكره، بترحيل الأمراء والكهنة وكبار القوم إلى عاصمة مُلكه: “بابل”، كما عاشوا عودتهم إلى أوطانهم خمسة (5) عقود فقط بعد تهجيرهم وذلك نتيجة انتصار فرس “كوروش” الثاني على البابليين. فالشعب الفلسطيني هو الوارث الحقيقي لمن عايش استيلاء اسكندر المقدوني (ذو القرنين) على المنطقة في القرن الرابع قبل الميلاد كما أن أجداد هذا الشعب هم الذين جابهوا ببسالة كبيرة طغيان الملوك الذين استخلفوا إسكندر المقدوني، خلال ثورة “المكابيين” في القرن الثالث قبل المسيح. ثم بعد هذه الملاحم، المضبوطة تاريخيا خاض أجداد هذا الشعب العريق معركة مجابهة الاحتلال الروماني الذي تسرب إلى البلاد منذ نهاية القرن الثاني قبل الميلاد واستمر حكمه في الواقع تحت لقب الروم البيزنطيين إلى الفتح الإسلامي في القرن الأول الهجري أو القرن السابع للميلاد. وخلال هذه الفترة من تاريخ المنطقة قام عيسى عليه السلام بالتبشير إلى رسالته وحصلت انتفاضة عارمة ضد الحكم الروماني بقيادة “باركخبة” أي “ابن الكوكب”. وبشكل مواز لهذه الأحداث يجب التذكير بأن معظم سكان هذه البلاد اعتنقوا، مع مر الزمان، الديانة المسيحية، ثم عندما أتى الإسلام ستة قرون بعد المسيح اختاروا تدريجيا أن يصبحوا، في معظمهم، مسلمين، علما أن العمليتين عملية “التنصير” أولا ثم اعتناق الإسلام ثانيا لم تحصلا بين عشية وضحاها بل تطلبت زمنا طويلا.
فبعد الفتح الإسلامي لم تسلم المنطقة من الحروب الداخلية ولا من الغزوات الأجنبية. فحصلت التسربات التركية ثم الغزو المغولي ثم الهجومات الصليبية حتى “استقر” الأمر تحث إمرة العثمانيين من القرن 16 الميلادي إلى القرن 20 قبل أن يأتي الاستعمار البريطاني جارا تحت مظلته الحركة الصهيونية ونظامها الاستيطاني الذي ينبني، كما سبق قوله، على محاولة احتكار تاريخ سكان المنطقة الأصليين وإضفاء صيغة “أسطورية” عليه، في محاولة تضليله لمعتنقي دين موسى عليه السلام عبر العالم، جاعلة من تاريخ وضعي موضوعي تاريخا وهميا أخذ يتبناه حتى من لم تكن لهم أي صلة إثنية وقومية بالمنطقة.
ولتوضيح هذه الفكرة وطابعها “السريالي”: لنفترض أن مسلمي العالم بأسره اعتبروا الحجاز أو الجزيرة العربية برمتها أرضهم لأنها هي مهد الديانة الإسلامية وبالتالي سيمكنهم، في أي وقت يريدون، ومهما كانت أصولهم، أكانوا إندونيسيين أو أمازيغ أو ويـﯖور أو لست أدري، قلت سيمكنهم غزو الجزيرة وطرد كل سكانها والحلول محلهم!
ويمكن استعمال هذا المنطق الغريب نفسه في شأن الزنوج الذين رُحِّلُوا قهرا كرق إلى الأمريكيتين الشمالية والجنوبية أن يقرروا في يوم ما العودة إلى أرض أجدادهم ليستقروا بها ويطردون سكانها. وبالفعل حصل تبني مثل هذا المنطق لفترة في نهاية الربع الأول من القرن 19 حيث حصل بإيعاز من الحكومة الأمريكية التي كانت تراودها فكرة التخلص من زنوجها أن عددا من هؤلاء رحلوا إلى إفريقيا الغربية وأنشؤوا جمهورية “ليبيريا” لكنهم، ولحسن حظ السكان الأصليين، لم يقدموا على طرد هؤلاء حتى وإن حاولوا لمدة أن يضعوهم على الهامش.
ولنعود إلى فلسطين والصهيونية ونقول إن على الفلسطينيين ألا يترددوا في تملكهم تاريخ شعبهم وأرضهم وذلك منذ “عصر البرونز”، على الأقل، إلى يومنا هذا، وألا يتركوا تاريخهم الحافل بالأمجاد والنكسات لدخلاء يزيد طغيانهم شراسة بمدى الدعم الذي يقدمه لهم مجتمعهم الأصلي الغربي الذي نبذهم وتعامل معهم بعنصرية مدة قرون من الزمن.
وفي نشوة “انتصارهم” فإن هؤلاء الدخلاء لا يشعرون بأن من يدعمهم ويؤازرهم في المحافل الدولية وحتى عسكريا لم يغير شيئا من موقفه العنصري إزاءهم. والأدهى في الأمر هو أن هؤلاء الدخلاء أصبحوا يتصرفون مع أهالي المنطقة التي استولوا عليها جورا، على أساس تاريخ مفترى عليه وأساطير مطبوعة بعنصرية لا تقل مقتا عن تلك التي مارستها وتمارسها معظم الدول الغربية و”نخبها”.
واليوم أصبحنا نسمع كلاما مفاده أن الرئيس السابق للولايات المتحدة بعجرفته المعتادة قد يُحضِّر، مع بعض عملائه حتى من داخل دول عربية وإسلامية، لعرض “صفقة قرن” سيمحو من جرائها الشعب الفلسطيني من الوجود وسينتصر أصحاب التصورات الخرافية والتاريخ المفترى عليه.
وحيث أن الوضعية الحالية تجعلنا نتوهم وجود “صفقة قرن” اقترحها الرئيس الأمريكي “ترامب” (Trump) وهو يتمتع بمساندة حلفائه “العرب”، فلماذا لا يتقدم الفلسطينيون أنفسهم “بصفقة قرن” هم بدورهم؟ ويقولون: “إن أرضنا عرفت منذ الأزل توافد أقوام وأقوام. وحيث أن الأوضاع الدولية ودسائس الإمبريالية فرضت علينا غزوَ واحتلالَ بلادنا من قبل “شعوب بحر” جُدد، شبيهين بأولئك الذي دخلوا هذه الأرض نهاية القرن 13 وبداية القرن 12 قبل الميلاد، أي قبل حوالي 3200 سنة، أتوا مثل سابقيهم من كل “فج عميق”، ما يمنعنا من أن نعلن أن شعبنا الفلسطيني، في هذا القرن الحادي والعشرين، وهو شعب متحضر له ما يكفي من وعي وروح إنسانية تجعله يقبل بمجيء الوافدين عليه في الوقت نفسه الذي يرفض فيه الطرد التعسفي من دياره ويعارض وسيعارض كل أنواع السلب الممنهج لتاريخه وتقاليده وحضارته وتراثه. لأنه شعب مضياف؛ لكن في المقابل، على الوافد عليه أن يحترمه ويحترم حقوقه المشروعة وأن لا يصبح وهو الشعب المستقبل المضياف مُهمشا بل منبوذا فوق أرض وطنه.
كما تُجمع الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة وكل الشعوب المحبة للسلام، فإن قيام الدولة الفلسطينية يظل هو الأفق الوحيد الذي من شأنه أن يحقق السلام العادل وضمان الاستقرار في المنطقة.
فليجلس إذن الوافدون أو ممثلوهم حول مائدة وليعترفوا بأنهم اقترفوا ظلما غير مقبول بل جنحا كبيرا ضد هذا الشعب الذي لم يكن في يوم من الأيام عنصريا كالشعوب التي استعملتهم هم، بإبعادهم عن ديارهم وأوطانهم ليتحولوا إلى دمية تخدم مصالح من رفضهم كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات وباقي سكان البلدان الأصل.
ثم على ممثلي الوافدين، بعد تقديم الاعتذار، أن يعلنوا تخليهم عن كل تصور عنصري وعن كل أنواع الحيف الذي يمكن أن يعاني منه السكان الأصليون المتجذرون بأرض فلسطين وأن الوافدين والأصليين سيشيدون، كتِفًا على كتف، دولةً مدنية، متحضرة تبرهن للإنسانية أن تجربة إفريقيا الجنوبية يمكن لها أن تتكرر وبشكل أكثر عدلا في القرن الحادي والعشرين.
لرُبّ قائل سيقول إن هذا لقول طوباويٌ ويستحيل ترجمته على أرض الواقع!
لا سيما وأن هذا النص صيغا قبل المآسي الراهنة التي يحياه الشعب الفلسطيني، أجل فمع تطورات الأحداث بالخصوص ما تعيشه غزة من حرب ضروس قد يبدو مثل هذا الأفق وما يحياه سكان قطاع غزة راهنا، بعيد المنال حيث تقوم دولة الفصل العنصري على شن حرب إبادة في حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بدعم صريح من القوى الإمبريالية ومساندة العديد من الدول الأوروبية، دون أن ننسى ما يعانيه يوميا سكان الضفة من ويلات وانتهكات.
من الواضح أن الغاية من هذه الحرب القذرة والتصرفات الشنعاء التي تقترفها إسرائيل ضد المدنيين العزل في القطاع والضفة ما هي، في حقيقة الأمر، سوى امتداد للمشروع الصهيوني- الإمبريالي الساعي لتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين نحو سيناء وغيرها من الأراضي المجاورة، بغية التصفية النهائية للقضية الفلسطينية والإجهاز، الكامل على حل قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وفق ما تنص عليه مقررات الأمم المتحدة ويتلاءم مع مقتضيات الشرعية الدولية.
إن تقتيل الأطفال والشيوخ والنساء، وقصف المستشفيات والمرافق الحيوية في قطاع غزة وفرض حصار شامل على المدنيين والتصرفات التي يعاني منها الأمرين سكان القطاع، ما يمثل سابقة عز نظيرها حتى خلال أسوأ أشكال الحروب المدمرة، إن هذه الجرائم البشعة لتكشف عن الوجه الحقيقي للصهاينة الغزاة، كما يفضح مزاعم قادة الدول الغربية الذين يتشدقون بكون إسرائيل تدافع عن نفسها بالوكالة عن “قيم الحضارة الغربية ومثلها العليا”.
إن المنحدر الأخلاقي الذي سقط في مستنقعه خطاب الغرب المخادع والمدعوم بوسائل الإعلام المسخرة وبأشباه المفكرين الذين ارتضوا لأنفسهم العبودية الإرادية بدل الحفاظ على حرية الفكر المناصر للمثل الإنسانية العليا، إن هذا المنحدر ليكشف مرة أخرى عن الإيديولوجيا الاستعمارية التي عكس ما يعتقد البعض، ظلت كامنة وموجهة للسياسات الغربية والأمريكية ضد إرادة الشعوب في الانعتاق والعيش الكريم في عالم تسوده قيم الحرية والعدالة والمساواة.
إن الفظائع التي ترتكبها إسرائيل باسم الدفاع عن قيم الحضارة الغربية، ليفرض فتح أفق للتفكير يتجاوز التخوم التي رسمها الفكر الغربي منذ ما يسمى بفكر الحداثة، حيث أن مكتسبات الحداثة الغربية، إن كانت تنطوي على أبعاد كونية، فإنها مكتسبات ساهمت في قيامها ثقافات وحضارات أخرى ومن ضمنها الحضارة العربية والإسلامية، التي شارك مفكروها بقدر غير يسير في قيام النهضة الأوروبية على المستويات العلمية والفلسفية وغيرها.
إن البعد الإنساني والتنويري لفكر الأنوار الأوروبي، إن شكل حلقة أساسية من سيرورة تطور الفكر الإنساني، فإن هذا البعد تضاءل بفعل توسع الحركة الاستعمارية وغزو أقطار وشعوب من مختلف أركان المعمور باسم إشاعة قيم الحضارة الغربية والارتقاء بالشعوب المتخلفة عن الركب الحضاري إلى مستوى المدنية والتقدم.
لقد مثلت الحقبة الاستعمارية، وما واكبها من جرائم في حق الإنسانية، في حد ذاتها نفيا عمليا لفكر التنوير وقيم الإنسانية كما تمت بلورتها خلال القرن 18 على وجه الخصوص من قبل مفكري ذاك العصر في أوروبا، مما يستدعي بالضرورة إعادة الاعتبار للفكر التحرري والقيام بمراجعة شاملة للذات تتوخى بالأساس التخلص من مختلف أشكال الاستلاب والتبعية.
إن حركة الاحتجاج المنددة بالجرائم الصهيونية ضد شعب فلسطين والتي امتدت إلى مجموع بلدان العالم تقريبا، لتعبر على رفض الشعوب وحتى الغربية منها لجبروت القوة ومنطق الحرب المدمرة، من هنا وجب العمل على بعث روح الانعتاق وإعادة الاعتبار للعمل الصبور من أجل إشاعة الوعي بضرورة النضال للحفاظ على السلم العالمي وضمان حق كل الشعوب في الحرية والعدل والمساواة. إن نصرة القضية الفلسطينية هي في الآن نفسه، نصرة لتلك القيم السامية الكفيلة وحدها بضمان التعايش السلمي وتوفير العيش الكريم لمختلف الشعوب.