“إرسال أموال إلى كوريا الشمالية يشبه أفلام الجاسوسية”
بي بي سي، كوريا
“الأمر مثل أفلام الجاسوسية، فالناس يضعون حياتهم على المحك”، كانت هذه كلمات هوانغ جي سونغ، الوسيط الكوري الشمالي، الذي انشق عن النظام عام 2009، واتجه لكوريا الجنوبية وبدأ يساعد الكوريين الشماليين المنشقين على إرسال المال لذويهم.
ومنذ سنوات طويلة يسمي الناس في كوريا الشمالية من يحصلون على دعم مالي من منشقين في الخارج “هالاسان ستيم”، كما يقول هوانغ.
وتشير الكلمة الأولى إلى جبل هالا البركاني الشهير في كوريا الجنوبية.
ويضيف هوانغ “يرغب الناس في الزواج أكثر بشخص ينتمي إلى أسرة من هؤلاء، حتى أكثر من شخص ينتمي إلى لحزب الشيوعي الحاكم”.
وأشارت دراسة أجراها مركز الأبحاث الإنسانية بكوريا الشمالية، عام 2023، وتضمنت 400 منشق كوري شمالي، إلى أن 63 في المئة منهم يحولون الأموال لأسرهم في كوريا الشمالية.
لكن حاليا مع زيادة العقبات من الشطرين الشمالي والجنوبي على تحويل الأموال بينهما، أصبح الأمر يشكل مخاطرة كبيرة، رغم أنها بالفعل أمر شديد الخطورة، يتضمن وسطاء عدة، ورسل يحملون المال، بين شطري كوريا، والصين، لإتمام الأمر في خفاء.
ويتم إجراء الاتصالات السرية عبر هواتف صينية، باستخدام أسماء رمزية وأكواد اتصال، وتبقى الفرص كبيرة لمصادرة المال في أي جانب من البلدين.
وكثف قائد كوريا الشمالية كيم جونغ أون، منذ عام 2020، حملته ضد الوسطاء لوقف تدفق الأموال وما يصاحبه من “تأثيرات أيديولوجية وثقافية” من الخارج.
وأصبحت الفرص عالية لإرسال أي شخص يقبض عليه إلى السجن، أو معسكرات الاحتجاز، التي تعرف باسم “كوان لي سو”، والتي مات فيها مئات الآلاف.
تقول جو سو، زوج هوانغ، والتي تعمل كوسيطة أيضا: “عدد الوسطاء في كوريا الشمالية زاد أكثر من 70 في المئة مقارنة بعددهم قبل سنوات قليلة”.
وتمنع كوريا الجنوبية أيضا التحويلات المالية للشطر الشمالي، بينما كانت تغض الطرف عنها في السابق.
وتمت مداهمة منزل هوانغ قرب العاصمة الكورية الجنوبية، سول، العام الماضي، من قبل أربعة من عناصر الشرطة الذين اتهموهم بانتهاك قوانين التحويلات المالية.
وفي الوقت الحالي، يواجه سبعة وسطاء على الأقل تحقيقات تتعلق بنفس الاتهامات.
ولم ترد الشرطة على طلب بي بي سي بخصوص مداهمة منزل هوانغ.
وأخبرت الشرطة هوانغ بأن أي تحويلات مالية للشطر الشمالي، يجب أن تتم “عبر أي بنك قانوني”.
يقول هوانغ: “لو كان هناك بنك واحد أخبروني عنه”، مضيفا إنه لا توجد مؤسسة مالية واحدة يمكنها القيام بمثل هذا التحويل لأن الكوريتين نظريا لا تزالان في حال حرب.
وتزداد العلاقات بين الكوريتين سوءا منذ أن أغلق الشمال مكتب لجنة العلاقات الثنائية مع سول عام 2020، كما قال القائد الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، قبل أسابيع إنه لم يعد ممكنا الاتحاد مع الجنوب، وهو الأمر الذي ينص عليه الدستور في كوريا الشمالية.
يبدأ الأمر بمكالمات سرية عبر الهواتف الصينية المهربة من المقاطعات الحدودية، يتحدث فيها المنشق مع أسرته في كوريا الشمالية، وتسجل السلطات هناك المكالمة على أنها تتم عبر شبكات الاتصال الصينية.
ويتم تسهيل الاتصال عبر الوسطاء أيضا في كوريا الشمالية، الذين يجب عليهم السفر لمسافات طويلة وأحيانا تسلق الجبال لجعل الاتصال ممكنا.
وخلال الاتصال يتفق المنشق مع أسرته على إرسال مبلغ معين لهم، كما يجب تجنب المراقبة الحكومية خلال المكالمة، حتى لا تلفت الانتباه ويتم تسجيلها من عناصر الأمن.
وبعد ذلك يدفع المنشق جانبا من المبلغ بشكل مقدم، في حساب بنكي في الصين، عبر وسيط في كوريا الجنوبية، وهو أمر مهدد بمصادرة المال من السلطات الصينية، التي تراقب الأمر عن كثب.
وبذلك يصبح الأمر متعلقا بالوسيط في الصين، والذي عليه نقل المال إلى كوريا الشمالية. ويتنكر الوسطاء أحيانا على أنهم يقومون بتحويلات مالية بين شركات صينية، وأخرى في كوريا الشمالية.
يقول كيم جين سيوك، الذي اعتاد أن يعمل كوسيط مالي في كوريا الشمالية قبل انشقاقه عام 2013: “الذين ينقلون المال لا يعرفون بعضهم البعض، ولا ينبغي لهم ذلك، فحياتهم في خطر”.
ويستخدم الوسطاء أسماء رمزية وأكواد لتأمين أنفسهم وأسرهم، والأسر التي تتلقى المال.
وقد رفضت بعض الأسر المال الذي أرسل إليها عبر هوانغ، خوفا من الأمر.
ويقول هوانغ: “يشعرون بالرعب ويخشون من أن يكون الأمر خدعة، أو فخا، من قبل الأمن ويقولون عبارات مثل: لن نقبل المال من الخونة”.
ويحصل الوسطاء على نحو نصف المبلغ الذي يرسله المنشق إلى أسرته.
ويضيف هوانغ: “الوسطاء في كوريا الشمالية يخاطرون بحياتهم ليكسبوا ما بين 500 إلى 600 ألف وون للعملية الواحدة”.
ويواصل: “الآن لو اعتقلتك السلطات وتمت إدانتك، فستواجه 15 عاما في السجن على الأقل بتهمة التجسس، ويمكت إرسالك إلى معسكرات الاحتجاز”.
وقد أظهر لنا هوانغ شهادات عدة من الشمال لأشخاص عدة تلقوا تحويلات مالية بواسطته.
وفي إحدى هذه الشهادات مقطع مصور لسيدة عجوز تقول: “كنت أتضور جوعا وأكل الحشائش” وقد تورمت يداها من البحث عن الطعام في الغابات.
وسيدة أخرى تقول في نفس المقطع: “الأمر صعب جدا هنا وأريد أن أشكركم 100 مرة”.
وتقول جو، زوج هوانغ، إن قلبها ينفطر بسبب هذه المشاهد.
وتضيف: “لقد ترك بعض المنشقين والديهم وأطفالهم خلفهم، ويريدون تأمين الطعام لهم في كوريا الشمالية على أقل تقدير، ليبقوا على قيد الحياة وتكون فرصة لقائهم مرة ثانية أمرا ممكنا”.
وتقول إن مبلغ مليون وون يكفي لإطعام أسرة من ثلاثة أشخاص لمدة عام كامل في كوريا الشمالية.
وليس من الواضح أسباب الحملة في كوريا الجنوبية ضد التحويلات للشمال، لكن المحامي بارك وون يون الذي يقدم الاستشارات القانونية للمنشقين يعتقد أنه ربما الحماس الزائد، والرغبة في تعقب حالات التجسس، مع نقل المسؤولية عنها العام الجاري، إلى الشرطة بعدما كانت لدى الاستخبارات.
ويقول: “إذا فشلت الشرطة في إثبات الاتهامات بالتجسس، فسيتحول الأمر إلى المحاكمة بسبب مخالفة قانون التحويلات المالية”.
وتحت ضغوط كبيرة من حكومتي الدولتين، يمكن أن تتحول حياة أسر المنشقين في كوريا الشمالية إلى الأصعب.
ويقول هوانغ إنه سيواصل التحدي في قضيته هو وزوجه، حتى المحكمة العليا، إذا لزم الأمر، ويشير إلى أنه يعتقد أن تحويلات المنشقين لا تقتصر على الجانب المادي فقط.
ويقول: “إنه الأمر الوحيد المتاح لإسقاط النظام في كوريا الشمالية دون قتال، فإلى جانب المال يُحضر الوسطاء الأخبار والمعلومات، وينقلون إلى هناك صورة الازدهار والثراء في كوريا الجنوبية، وهو ما يخشاه كيم جونغ أون”.
ويعتقد كيم جين سيون أن المنشقين من أمثاله لن يتوقفوا عن إرسال الأموال لأسرهم، حتى لو اتفقت السلطات في البلدين على منع ذلك، ويؤكد أنه سيسافر للصين بنفسه لفعل ذلك لو استدعت الحاجة.
ويضيف: “لقد خاطرت بأني قد لا أرى أطفالي مرة أخرى، لكن على الأقل يجب أن يحصل أطفالي على حياة جيدة، ونحن سنستمر بإرسال المال بأي طريقة ممكنة”.
ويعمل الرجل حاليا كسائق شاحنة 5 أيام في الأسبوع في كوريا الجنوبية، ويدخر المال قدر الإمكان ليتمكن من إرسال مليون وون لزوجه وطفليه في كوريا الشمالية كل عام، ويستمع إلى رسائلهم الصوتية بشكل مستمر.
ويقول أحد أبنائه في تلك الرسالة “كيف حالك يا أبي؟ لقد عانينا كثيرا. معاناتنا لا تقارن بما تعاني أنت”.
كيم جين سيوك إسم مستعار بهدف حماية أمن الشخص وسلامته.