الأديان العامة في العالم الحديث .. من دولة الكنيسة إلى علمنة الحياة اليومية
وقعت ثورة في الذهنيات حين احتفل الشيخ محمد الفيزازي واليوتوتبز رضا ولد الشينوية بليلة رأس السنة مباشرة على قناة “شوف تيفي”.
هذه مناسبة للتفكير في موقع الدين ورموزه في المجتمعات الحديثة.
تروج في العالم الإسلامي اليوم مطالب بضرورة إصلاح ديني أو ثورة دينية… فقد ظهرت تنظيمات سياسية تتقوى بالدين، وزادت المطالب بتجديد الخطاب الديني. لنر ما جرى في دول أخرى على أمل أن تساعدنا المقارنة على فهم ما يجري بين المحيط والخليج. فكيف ينظر الغرب إلى الدين؟ ما تحولات موقع الدين في المجتمعات الغربية؟
رفع الغرب شعار العلمانية منذ نهضته. ويوحي ذلك للكثيرين في العالم الإسلامي بأن الدين خرج من الحياة السياسية والاجتماعية في الدول الغربية. وهذا خطأ ناتج عن شيطنة العلمانية. ويأتي كتاب الإسباني خوسيه كازانوفا “الأديان العامة في العالم الحديث” ـ ترجمة قسم اللغات الحية والترجمة في جامعة البلمند، المنظمة العربية للترجمة، ط 1 بيروت 2005- ليدرس الموضوع من زاوية سيوسيولوجية. يتتبع قضايا دينية اكتسبت أهمية عامة وسياسية. كتاب يتمحور حول التجربة الغربية؛ لكن يمكن أن يضيء تجربة العالم الإسلامي.
لقد عملت الأنظمة السياسية طويلا على مماهاة النظام الاجتماعي مع مملكة الله ص 274. أي أن يقول النظام السياسي إنه في خدمة الله.
ويمول عمل رجال الدين للإشراف على رعاية رفاه نفوس الأفراد. ويقول الحاكم إنه سيمكّن لدين الله في الأرض، ويسحق خصومه بهذا التبرير.
وهنا، وقع تغير كبير مس موقع الدين في المجتمع حين “أضحت وسائل فرض وحدة الإيمان باهظة جدا منذ تحول عدم الالتزام الديني إلى معارضة سياسية”. لذا، سخر الفلاسفة الغربيون من رجال الدين الظلاميين، وكان الحل الأول لهذا هو “لكل إقليم دينه”، ومن هذا التعدد ولد التسامح والحرية الدينية.
عوامل العلمنة في الغرب
بسبب هذا التغيير خرج الراهب من الدير، وخضع لإغواء الحياة، فصار “زمنيا” ومن هنا علمانيا؛ فالعلمنة تعني “الممر”، أي الانتقال. نقل الأشياء والوظائف والمعاني من حيز ديني إلى حيز زمني دنيوي ص 27؛ من الملكوت المقدس إلى الأرض. وهناك أربعة عوامل قوضت النظام التصنيفي الديني في القرون الوسطى؛ وهي: الإصلاح البروتستانتي، ونشأة الدولة الحديثة، ونمو الرأسمالية الحديثة، بداية الثورة العلمية الحديثة.
لقد كان التنوير النيوتوني (نسبة إلى إسحاق نيوتن مكتشف الجاذبية) مناهضا للدين. لقد أكد العلم على النسبية. ولا تستطيع الكنيسة القبول بالنسبية، أي أن فكرة أن الخطأ والصواب واردان بالدرجة نفسها.
لقد فتحت البروتستانتية الباب للحداثة. ويتمثل محركا الحداثة في السوق الرأسمالية والدولة الإدارية.
تعمل الدولة على العلمنة من الأعلى للسيطرة على المجال الديني. تمارس الرقابة على المناظرات العامة… بينما يؤدي تغلغل الرأسمالية في المجال الديني لتجعله يخضع لمنطق التسليع. لذا، ترتفع اتهامات استخدام الدين لأغراض متباينة… تحتضن السوق الدينية المذاهب المتنافسة بحرية فتصير المذاهب اختيارية.
هكذا تغيرت النظرة إلى الدين ودوره في المجتمعات الغربية. لقد كان المنظور الرسمي الذي رأت من خلاله مجتمعات القرون الوسطى نفسها منظورا دينيا مكن البابا من تعيين الملوك وعزلهم. وقد بدأت العلمنة حين بدأ المنظور “الزمني” يشكل نظرة المجتمعات إلى نفسها، خاصة في عصر النهضة الأوروبية. وحينها، استقلت النطاقات الزمنية بقيمها ونظرتها إلى نفسها. وسمي ذلك علمنة مع الانتقال للحداثة. انتهى ذلك بإضعاف موقع المسيحية وتعويضه باعتناق المذهب الإنساني وتقوي النزعة الفردية. هذا ما يخلص إليه الكاتب في القسم الأول من الكتاب، وفيه فصلان يتناولان صيرورة العلمنة والتنوير والفرق بين الدين العام والدين الخاص الذي يقتصر على الشؤون الفردية للمؤمن.
فقد الدين موقعه في الغرب بسبب خوف الليبراليين من تسييس الدين، جراء خوفهم من التعبئة والتعبئة الدينية المضادة وخوفهم من سم المذاهب التمردية وشبح الدين التعبوي. وقد كان البديل هو العلمانية. وهذه هي النتيجة “أصبح الدين، وكذلك الأخلاق مجرد مسألة ذوق فردي خاص… تنزع المجتمعات الحديثة إلى إدانة أي استعراض عام للدين…” ص98.
لقد هيمنت هذه الصيرورة والنظرة طويلا؛ لكن التاريخ أثبت أن ادعاء اندثار الدين باطل. الدين باق ويعمل في المجتمع والسياسة “كلما أراد الدين تحويل الدنيا إلى اتجاه ديني، تورط في الشؤون الدنيوية وتحوّل من قبل الدنيا”؛ ذلك هو ثمن رجوع الدين إلى الحقل العام.
أصبح الدين عاما في الثمانينيات من القرن العشرين. يتحدث الكاتب عن الغرب، وليس عن ثورة آية الله الخميني في إيران. في الغرب كان رونالد ريغان والبابا يوحنا بولس الثاني متفقين على دعم نقابة تضامن في بولندا… لدراسة هذا التوجه، يعرض الكاتب خمس دراسات تجريبية هي: أولا تراجع دور الكنيسة وتغير دورها بإسبانيا، ثانيا دور الكنيسة البولندية في دمقرطة البلد، ثالثا مناهضة اللاهوت التحريري للنظام العسكري في البرازيل، رابعا تحولات البروتستانتية الإنجيلية، وخامسا صعود الكاثوليكية في الولايات المتحدة الأمريكية.
مقارنة حالات لتعميم الدين
في الفصل الثالث “إسبانيا من دولة الكنيسة إلى سحب الاعتراف بالكنيسة كقوة مهيمنة على الحقل السياسي والاجتماعي”، يحكي الكاتب أن ملوك إسبانيا قد عملوا على نموذج حكم يجمع الدولة والدين في وحدة شاملة؛ وهو ما أبعد إسبانيا عن أوروبا منذ القرن الثامن عشر. لم يدخل التنوير إسبانيا. وقد قاد الكهنة الإسبان الحرب ضد نابليون الذي ألغى محاكم التفتيش الإسبانية. ورحب الشعب بالحكم المطلق في مدريد وعارض النخبة الإصلاحية الليبرالية. وقد باركت الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية الحرب الأهلية ضد الليبرالية في 1870 وضد الشيوعية في 1936.
تحطم المشروع الليبرالي ووقعت الممتلكات في يد الملاكين المحافظين وسادت الإقطاعية الزراعية في إسبانيا… وتمكنت الكنيسة من “إعادة النعاج التائهة إلى القطيع” ص123، وتحملت الدولة تمويل رجال الدين وقد صاروا جزءا من الدولة وسهلوا سيطرة الدين على التعليم… صاروا في خدمة فرانكو؛ لأن “الضامن الأخير للنظام الاجتماعي ليس الكاهن بل الجلاد”.
بدأ التحول في إسبانيا منتصف القرن العشرين، إذ وقعت مواجهات في جامعة مدريد بين الطلبة الكاثوليكيين والطلبة الفاشيين سنة 1956. وقد اتخذ فرانكو إجراءات أبعدت النخبة الكاثوليكية واستبدلها بنخبة جديدة فتشكلت تكنوقراطية لا تخضع للكنيسة. فقد الرهبان موقعهم، فغيّروا وجهتهم نحو الشعب، وقد أسهم المناضلون الكاثوليك في سبعينيات القرن الماضي في الديمقراطية، فتقوى المجتمع المدني في وجه فرانكو.
لقد فصل فرانكو الكنيسة عن نظامه فضعفت شرعيته. وبالمقابل، انتقمت الكنيسة من فرانكو بدعم المعارضة الديمقراطية، فسقط نظام الدكتاتور. هكذا، جرى التحول في النهاية من كنيسة سلطوية إلى كنيسة معترف بها في مجتمع مدني متعدد، وبدأ التغيير الذي قاد إسبانيا إلى الديمقراطية بعد 1976.
بولندا من كنيسة الأمة إلى المجتمع المدني
في الفصل الرابع “بولندا من كنيسة الأمة إلى المجتمع المدني”، يقول الكاتب إنه في بولندا أيضا تماهت وتطابقت الكنيسة مع الدولة. وحاولت بولندا تفادي نزاع الكنيسة الكاثوليكية مع الليبرالية العلمانية في القرن التاسع عشر. وفي القرن العشرين، كانت الكاثوليكية البولندية ضد الشيوعية ورفضت سيطرة الدولة على أماكن العبادة. كانت الدولة تريد خلق “الإنسان الاشتراكي”؛ وهو ما فشلت فيه بفضل تمسك الكنيسة والعائلة البولندية بالتربية الدينية. وقد صار البولنديون يشاركون في الاحتفالات الدينية تعبيرا عن معارضتهم للنظام. وقد تفوقت الكنيسة في حشد الأمة ضد النظام التوتاليتاري. هكذا، صارت الكنيسة حارسا للأمة وصارت للأساقفة البولنديين سمعة دولية وقد دعموا حركة تضامن بقيادة ليش فاليسا… وقد لعب البابا البولندي يوحنا بولس الثاني دورا كبيرا في تحرر بولندا من الشيوعية. يخلص الكاتب إلى أن صوت الكنيسة يكون مسموعا حين تستمع هي أيضا للآخرين.
البرازيل من كنيسة النخبة إلى كنيسة الشعب
في الفصل الخامس “البرازيل من كنيسة النخبة إلى كنيسة الشعب”، يتناول الكاتب علاقة الدين بالمجتمع المدني لتحرير الشعب. واستخدمت كلمة الشعب بمعنى دفاع المجتمع عن نفسه ضد الدولة. وقد تقوى هذا الدفاع السلمي مع تزايد انخراط الناشطين الدينيين والكنائس في النضال من أجل التحرير والعدالة الاجتماعية، فانتشرت الإيديولوجية التحريرية في جل أمريكا اللاتينية.
في هذه الصيرورة، اضطلع المجتمع المدني بدور محوري في الخطاب السياسي الجديد. وتحولت البروليتاريا نحو التعبير الإنجيلي مع ظهور لاهوتيو التحرير البرازيليين. هاجموا الفاتيكان وقد كانوا يدافعون ليس عن امتيازات رجال الدين؛ بل عن الكرامة المقدسة للبشر، ضد الفاشية القومية العسكرية التي استبعدت الشعب والمجتمع المدني من المشاركة السياسية.
وقد انتصر الشعب على العسكر بمساهمة لاهوتيو التحرير، وصارت البرازيل دولة ديمقراطية.
البروتستانتية والكاثوليكية في أمريكا
في الفصل السادس، يتناول الكاتب “البروتستانتية الإنجيلية” في الولايات المتحدة الأمريكية. ويسجل أن هذه الطائفة خرجت من انطوائها في ثمانينيات القرن العشرين بأن قدمت نفسها كيمين مسيحي جديد. وتأتي هذه العودة بعد أن تعرضت البروتستانتية الأمريكية لثلاث هزات:
الهزة الأولى: سحب الاعتراف بالدين من الدستور، فانفصل الدين عن الدولة.
الهزة الثانية: علمنة الحياة الفكرية مع التمدن والتحول الصناعي، وتغلب الفكر الرومانسي؛ ما جعل الكنيسة تركز على الجنوب الأمريكي حيث في القرى الصغيرة جمهور جاهز للتعبئة.
الهزة الثالثة: علمنة الحياة اليومية بتغيير الذهن والفكر والقلب بواسطة التلفزيون…
نتيجة لهذه الهزات تحولت البروتستانتية الإنجيلية – التي أسهمت في تحرير العبيد – من وضعها المهيمن في القرن التاسع عشر إلى ثقافة فرعية فقدت نفوذها. وقد استعادت نفوذها في ثمانينيات القرن العشرين وما بعدها بتقديم أجوبة معاصرة وسلعة مذهبية جديدة. (ملاحظة لم ترد في الكتاب: لعبت الحركة دورا كبيرا في انتخاب جورج بوش الابن رئيسا لأمريكا لولايتين متتابعتين).
في الفصل السابع، يتناول الكاتب “الكاثوليكية في الولايات المتحدة من الطائفة الخاصة إلى الطائفة العامة”. كان الكاثوليك أقلية في أمريكا، وقد نص دستور الاستقلال الأمريكي على ما يلي: “ولد كل البشر متساوين ما عدا الزنوج، الأجانب والكاثوليك” ص258. ومع مرور الزمن، تحولت الكاثوليكية الأمريكية من فرقة دينية غير مستقرة إلى مذهب عام فرض مكانته مع تزايد المهاجرين من دول كاثوليكية، وخاصة أمريكا الجنوبية. وقد سهلت السوق الدينية الحرة صعود الكاثوليكية، لتصير أكبر طائفة في الولايات المتحدة. وللكاثوليكي الأمريكي صفات خاصة، فهو يتمرد على رئيس الكنيسة دون قطع صلته بها. يرفض الإجهاض لأن الحياة البشرية مقدسة. يعتقد أن بناء مدرسة يسبق بناء الكنيسة… ويتجنب الصدام مع الحداثة.
وفي ربط للفصلين يلاحظ الكاتب أن الحرب الباردة ضد الشيوعية قد وحدت شقا الهوية الأمريكية أي البروتستانتية الإنجيلية والكاثوليكية.
في الفصل الثامن والأخير، يتناول الكاتب تعميم الدين الحديث. ويقر بأن الدساتير الغربية لا تعلن عن دين معين. وبذلك، لم يعد أي دين هناك رسميا وإلزاميا. صار اختياريا؛ لكن الدين لم يفقد دوره في التأثير على الحياة العامة، أي صار عكس محاولات الخصخصة التي تعرّض لها. وهذا تأكيد على أن للدين تأثيرا كبيرا في حياة البشر. يعود الدين بقوة حين توجد نخبة سياسية دون قوة تمثيلية؛ “فالأديان ترغم المجتمعات الحديثة على التفكير علنا وجماعيا في بناها المعيارية”، عبر دخول هذه الأديان النطاق العام وتحفيزها للنقاشات العامة. ومع هذا التقدم للدين، تتعرض العلمانية وفكر الأنوار لنقد شديد.
أثر منهج ماكس فيبر في الكتاب
هذا الكتاب هو تفكير عميق في الدين، ليس من وجهة الراهب والفقيه، بل من وجهة نظر عالم الاجتماع الذي يرصد الممارسات أولا. ويظهر تأثر المؤلف بالسوسيولوجي الألماني الكبير ماكس فيبر الذي قدم خدمة كبيرة لعلم اجتماع الديم. يقول الكاتب لقد وضع فيبر “الأسس لعلم اجتماع دين مقارن وتاريخي وفينومونولوجي بتخليه عن هاجس اختزال الدين في جوهره وتشديده على دراسة دلالته المتنوعة إلى جانب ظروفه الاجتماعية – التاريخية وآثارها”.
يقول الكاتب إن أهم مساهمة لماكس فيبر هي اكتشاف الصلة الوثيقة لأخلاقيات أديان العالم التاريخية بسيرورات تمايز العقلنة. وهذه إشارة إلى كتاب ماكس فيبر “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”. وفيه يشرح دور “الأخلاق الاقتصادية” كدوافع للتحرك والاستثمار والعمل؛ مما يراكم الثروة. يقدم الكاتب مثالا لدور الدين في تحول النظرة إلى الفقر على الاقتصاد. يقول الإنجيل: “طوبى للفقراء”. وبذلك، جعلت المسيحية الإحسان أعظم الفضائل، فصار الفقر مهنة تدر الصدقات؛ لكن الإصلاح الديني المسيحي أدان الصدقة واعتبر الفقر عقابا إلهيا على الخطيئة ص 38. أدان الصدقة، ومجد العمل كفضيلة مطلقة، وأرغم هذا الفقراء على الإنتاج بدل انتظار الإحسان… ماذا لو قام منتظرو الحسنات في المجتمع العربي بالعمل؟ كم سيكون الربح للدولة والمجتمع؟