“إيض إيناير” يجدد التراث .. والتاريخ يدقق سرديات “سياق النضال”
اهتمامٌ بالمعلومة العلمية والتاريخية، واحتفالٌ بـ”رأس السنة الأمازيغية” بالكسكس والتهاني، حضرا أمس الاثنين بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط.
وقال عالم الأنثروبولوجيا المغربي أحمد سكونتي، الخبير لدى اليونسكو في التراث الثقافي غير المادي، إن هناك تنوّعا في تسميات “رأس السنة الفلاحية” بين مناطق شمال إفريقيا، وداخل المغرب نفسه تاريخيا؛ مثل “ينّاير” و”أسكاس”، و””حاكوزا”، وغير ذلك من التسميات.
وأضاف: “تقويم (نّاير) مرتبط بالتقويم اليولياني السابق على التقويم الغريغوري، ويرجع إلى الإمبراطور الروماني سيزار، ووُضع على أساس التقويمات الموجودة آنذاك، وعدّلها لتصير تقويما رسميا للإمبراطورية، وتأثَّر المغرب دونَ شك بهذا القرار السياسي”.
وتابع: “تغيَّر هذا مع البابا غريغوار في القرن السادس عشر ليصير مناسبا مع دوران الشمس، فصار اختلاف 13 يوما بين التقويم القديم والجديد. ولذلك، نجد الاحتفال بالسنة الجديدة يوم 13 يناير أيضا عند الأرتدوكس في أوقيانيا وروسيا وأوكرانيا”.
وذكر عالم الإناسة أن هناك اختلافا بين الباحثين حول أصل التقويم بين العهد الروماني، أو القبطي عند المصريين، أو الأندلس الإسلامية. ورجّح أنه “بني على شيء موجود أقدم، ربما تم تغييره للتلاؤم مع ظروف جديدة”.
وفي شمال إفريقيا، تُرافق هذا الموعد المرتبط بالأرض “ممارسات مختلفة متنوعة”؛ مثل “الكسكسو”، و”تاكلا” أي العصيدة، أو خلط العدس والفول وما توفره الأرض “فهذا هو المغزى”، مع إضافة عظم الثمر كثيرا في الجنوب، واللوز في الشمال؛ “ومن يجد علفة الثمر أو اللوز له حظ في السنة الجديدة، فيحدث تسابق للأكل وإيجادها، كحيلة من الآباء ليأكل الأبناء جيدا في موسم البرد”.
وذكر سكونتي أن هذا الاحتفال ارتبطت به “ممارسات في طريق الزوال”، نجدها مدوّنة في كتابات استعمارية؛ ومنها “إخراج الناس بعض الطعام للخارج لتقاسمه مع الجن والموجودات الأخرى غير المرئية مثل الأرواح، وفي الوقت نفسه في الأطلس الكبير يوضع الطعام خارجا في الليل ثم يلاحظ تغيره ويؤوَّل في الصباح، كما يوضع حجر الملح في كميات من الطعام تمثل أشهُر، والذي يذوب فيه الملح هو الشهر الممطر، وإلا فلا مطر”.
وحول “السنة الأمازيغية” قال أستاذ الأنثروبولوجيا بمعهد الآثار: “هذا التقويم جديد، يعود إلى القرن العشرين؛ لكنه مبني على ممارسة موجودة، جرى تأويلها لمسايرة خطاب الحركة الأمازيغية، حتى تصير لها دلالة في بناء رموز الهوية، مع (الأكاديمية البربرية) التي هي جمعية تأسست في فرنسا سنة 1966، وكان أغلب مثقفيها من منطقة القبايل، ومُنعت سنة 1987 لأسباب سياسية”.
واسترسل المتحدث شارحا: “لقد لعبوا دورا في وضع الرموز المؤسسة للحركة الأمازيغية التي أثرت في شمال إفريقيا من العلَم، وتيفيناغ الجديدة التي أخذت مما هو موجود في النقوش والمواقع الأثرية وتختلف عما اعتمده فيما بعد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. والسنة الأمازيغية أرجعوها رمزا من رموز الأمازيغية، وربطوها بسنة 950 قبل الميلاد، سنة تأسّس الأسرة الفرعونية الحادية والعشرين من طرف شيشانق ذي الأصول الأمازيغية”.
ثم استدرك قائلا: “من المهم توضيح أن ما قُدِّم تم تقديمه في سياق نضالي، للدفاع عن الأمازيغية، فربطت بحدث شيشانق على أساس أنه دخول الأمازيغ إلى مصر (وحكمها)، وهذا ليس صحيحا؛ بل إن قبيلة قد دخلت وسكنت في دلتا النيل لعقود، ودخل أبناؤها الجيش الفرعوني، وتقلدوا مناصب، ومنهم شيشانق الأب الذي صار جنرالا، وابنه تزوج ابنة الفرعون، وعند موت الفرعون أسس شيشانق الابن ذو الأصول الليبية أسرة فرعونية”.
وحول السنة الأمازيغية 2974، التي احتفل بها رسميا بالمغرب للمرة الأولى سنة 2024، بعد قرار ملكي استجاب لمطالب مدنية توالت في العقدين الأخيرين، ذكر سكونتي أن “السنة الفلاحية اعتُبرت أمازيغية في إطار نضال بدأ في منتصف القرن العشرين (…) وتم اعتماد احتفال جديد؛ فانتقل الاحتفال من إطار العائلة إلى الفضاء العام بمبادرة من الجمعيات الأمازيغية، لمّا سمحت الأجواء في الجزائر والمغرب والمهجر بالاحتفال العمومي”.
وسجّل الخبير لدى منظمة اليونسكو أن “ينّاير” تراث “أعيد خلقه”؛ لكن لا يعني ذلك أنه ليس تراثا، فـ”اتفاقية اليونسكو لصون التراث الثقافي غير المادي” وصفت التراث بأنه “يتم تجديده باستمرار بما يتلاءم مع ظروف عيش الجماعات”؛ لأن “التراث ليس جامدا يمارس كما هو منذ وُجد”.
لكن، هذا لا ينفي الحاجة “إلى أن نكون واعين” بحدوث “تجديد، وإعادة إنتاج للاحتفال بانتقال التسمية من السنة الفلاحية (التي كانت معروفة مثلا في تقويم بوعياد) إلى السنة الأمازيغية، ومن مظاهر احتفال عائلي إلى مظاهر احتفال عمومي”.
وزاد: “يوجد من يقولون إن السنة لم تكن بهذا الاسم، بل وإن تسمية الأمازيغ لم تكن؛ لكن عليهم معرفة أنه رغم منافاة الواقع والتاريخ.. فالتراث، كما كل ما يهم البشر، مسألة توافقية”، و”التراث يتجدّد باستمرار”.
وحول الاختلاف بين الاحتفال برأس السنة الأمازيغية بالمغرب يوم 14 يناير والاحتفال بها في الجزائر يوم 12 يناير، ذكر سكونتي أن “هذه كلها أيام لرأس السنة، ومناسِبة للاحتفال”، ثم قال: “من الجيد التفكير في ملف لتسجيل هذه السنة في قائمة اليونسكو للتراث غير المادي للإنسانية، ولو أن هذا الملف ينبغي أن يكون شمال إفريقيا؛ لكن تواجه هذا صعوبات سياسية، ليتحقق ما تحقّق بالنسبة للسنوات الصينية واليابانية واليونانية والتايلاندية”.