أخبار العالم

“تاكلا إيض يناير”.. أكلة “البركة” وتشبث الأمازيغ بالأرض والديمقراطية المحلية



تفصل العائلات الأمازيغية في المغرب خاصة وشمال إفريقيا بشكل عام ساعات فقط على تذوق “تاكلّا” أو “الطبق السنوي” الذي تعدّه الأمهات سنويا خلال رأس السنة الأمازيغية أو “إيض يناير”، والذي يعكس خصوصية سوسيوثقافية فريدة في تصور “إيمازيغن” للتقويم الفلاحي الذي سيطفئ هذه المرة شمعته الـ2974.

ويرتبط هذا اليوم عند الأمازيغ بالموسم الزراعي، حيث كان الإنسان الأمازيغي القديم دائم التخوف من “الطبيعة” التي انبهر بها؛ مما دفعه إلى تقدسيها، ولجأ معها إلى أساليب وطقوس لاستعطافها ولطلب أن يكون الموسم مثمرا وحاملا للرزق والبركة.

ومن المنتظر أن يكون طعم “عصيدة الأمازيغ” أو “تكلا إيض يناير” هذه السنة مختلفا؛ فالمغاربة جميعا سيحتفلون حكومة وشعبا بالسنة الأمازيغية الجديدة، التي تذكر بعمق أنثروبولوجي يحاكي الوجود الهوياتي للإنسان القديم في أرض شمال إفريقيا. وستكون هذه المرة في عطلة رسمية مؤدى عنها نتيجة القرار الملكي التاريخي في شهر ماي الماضي.

رمزية أنثربولوجية وارتباط بالأرض

عبد الله بوشطارت، دكتور في التاريخ باحث في الثقافة الأمازيغية، قال إن “وجبة تاكلا هي نوع من أنواع الأطباق التي يتم إعدادها في بعض المناطق داخل خريطة شمال إفريقيا، المعروفة في المصادر التاريخية ببلاد الأمازيغ”.

وأضاف بوشطارت، في تصريح لهسبريس، أن “احتفالات السنة الأمازيغية يتم تخليدها بتناول أطباق وأطعمة عديدة حسب طبيعة المنطقة والمناخ السائد بها الذي يتحكم في الإنتاج الفلاحي؛ فالمناطق السهلية التي تنتج فيها الخضر بكثرة يتم تناول أكلة الكسكس بـ”سبع خضاير”. أما المناطق التي تمتاز بإنتاج الحبوب والقطاني، فيتم إعداد وجبة أوركيمن. وبخصوص المناطق الشبه الجافة والصحراوية والسفوح الجبلية التي تنتج القمح والشعير، فإنها تحتفل بإعداد تاكلا”.

وأوضح الباحث في الثقافة الأمازيغية أن “وجبة تاكلا تمتاز بسهولة الإعداد؛ لأنها تحتاج فقط إلى دشيشة الشعير والماء. كما أنها أكلة تتلاءم مع ظرفية فصل الشتاء، حيث تقل المؤونة بسبب شدة البرد”.

وسجل المتحدث ذاته أن “إعداد هذا الطبق خارج مناسبة إيض يناير يكتسي رمزية أنثروبولوجية عميقة تدل على الترحاب وحسن الضيافة، إذ تُقَدم للضيوف مباشرة بعد حلولهم بالمنزل، وترمز إلى الكرم والجود؛ فبالرغم من بساطتها فإنها تبقى مفضلة لدى الأمازيغ ونجدها عادة في جميع البيوت حتى لدى العائلات الميسورة مثلا في بيوت الشيوخ (إمغارن) داخل القبائل، لترمز بذلك أيضا إلى الجاه والكرم والحُظوة”.

وأفاد بوشطارت بأن “هذه الوجبة ترمز أيضا إلى العلاقة القوية بين الإنسان والأرض. لهذا، يتم إعدادها خلال رأس السنة الأمازيغية احتفالا بالأرض والخصوبة، ويتم وضع نواة التمر (أغرمي) وسطها، ومن وجده أثناء الأكل يكون ذا حظ وافر خلال السنة المقبلة، وهذا طقس قديم جدا ينم عن وجود ورسوخ الثقافة الزراعية لدى المجتمعات الأمازيغية”.

رمزية كبيرة ومعتقدات قديمة

محمد بنيدير، باحث في التاريخ ورئيس “مركز أكلو للبحث والتوثيق”، قال إن “ساكنة المناطق الأمازيغية، خاصة في سوس، دأبوا على إعداد أكلة العصيدة أو “تاكلا” كما تسمى باللغة المحلية، وبالخصوص في المناسبات التي تكتسي أهمية كبيرة بالنسبة لهم على غرار إيض يناير، حيث تسمى هذه الأكلة التي يتم إعدادها بالأمازيغية بتاكلا إيض يناير”.

وسجل الباحث ذاته، في تصريح لهسبريس، أن “هذا الطبق يعد أساسا من سميد الشعير في هذه المناسبة، وفي غيرها من المناسبات بالقمح أو مواد أخرى، حيث تختلف المواد التي يتم إعدادها بها باختلاف المناسبات وبمدى قربها من وجدان الأمازيغ”، موضحا أن “اختيار إعداد هذه الأكلة بالشعير، الذي كان يعد منتوجا وفيرا، يعكس الرمزية الكبيرة التي يحظى بها هذا اليوم في نفوس الأمازيغ”.

ولفت إلى أن “ربات البيوت يطبخن عادة تاكلا إيض يناير بدون ملح لارتباط ذلك بمجموع من الطقوس والمعتقدات القديمة المرتبطة بحقب زمنية غابرة والتي توارثها الأمازيغ ودأبوا على ممارستها بهذه المناسبة بتلقائية وفي إطار التشبث بالموروث الثقافي؛ فعلى سبيل المثال، يتم وضع جزء من هذه الأكلة على أعتاب الغرف كنوع من القربان التي يتم تقديمها لما يُعتقد أنها الأرواح التي تسكن مع البشر في البيوت”.

وأضاف: “تعد ربات البيوت من هذه العصيدة ثلاث كرات يتم تسمية كل واحدة منهن بواحد من الشهور الثلاثة الأولى في السنة: يناير وفبراير ومارس، ثم تضعن على كل واحدة منهن قليلا من الملح وتحملنها لتبيت في السطوح ليلة واحدة، حيث يتم على أساس ذلك توقع الشهر الذي سيعرف تساقطات مطرية مهمة والذي تحيل عليه كرة العصيدة التي ذابت عليها الملح دون غيرها من الكرات”.

وأورد المصرح لهسبريس أن “العادة دأبت كذلك على حمل ربات البيوت أداة مطبخية مصنوعة من خشب النخيل تسمى “أوفال” وتستعمل لخلط وتحريك العصيدة، حيث تتم هذه العملية في مكان في البيت يمكن معه التنصت على الجيران اعتقادا منهن أن أول ما ستسمعنه من كلام الجيران، خيرا كان أو شرا، سينعكس على السنة الفلاحية كلها”.

وخلص رئيس “مركز أكلو للبحث والتوثيق” إلى أن “هذه الطقوس المرتبطة بتخليد رأس السنة الأمازيغية تختلف من منطقة إلى أخرى، سواء داخل المغرب نفسه أو داخل منطقة شمال إفريقيا ككل؛ غير أن القاسم المشترك بينها جميعا هو أن هذا اليوم يشكل مناسبة لاجتماع الناس وإحياء هذا اليوم الذي يتزامن وبداية السنة الفلاحية التي يتمنون أن تكون مثمرة وأن تشهد تساقطات مطرية مهمة، مع ما يعنيه ذلك من زيادة في المحاصيل والمدخرات الزراعية باعتبار أن المجتمع الأمازيغي كان وما زال مجتمعا زراعيا بامتياز”.

“أكلة البركة” وتجسيد للديمقراطية المحلية

من جانبه، أوضح الحسين العمري، أستاذ علم الاجتماع والأنثربولوجيا، أن “الأمازيغ يحتفلون بالسنة الأمازيغية الجديدة التي تتزامن مع موسم الأمطار والذي يعني بدوره الكثير بالنسبة لهم ولأنشطتهم الزراعية”، مسجلا أن “الاحتفال بهذا اليوم يتخذ أشكالا متعددة، كما يُحتفل به بإعداد وجبات تختلف من بقعة جغرافية إلى أخرى؛ لعل أبرزها تكلا”.

وأضاف المتحدث ذاته، في تصريح لهسبريس، أن “اختيار إعداد وجبات تتكون مما تنتجه الأرض من الحبوب والقطاني خلال المناسبة يحمل رمزية وقدسية كبيرة وتعبر عن الحرص على ضمان الأمن الغذائي للفرد الأمازيغي في مختلف مناطق المغرب”، مشيرا إلى أن “الأمازيغ، خاصة في جنوب المغرب، يتمثلون هذه الأكلة باعتبارها أكلة للبركة ومن خلالها يتم طلب أن يكون الموسم الفلاحي ماطرا وأن تكون السنة الجديدة زاهرة ومثمرة”.

ولفت أستاذ علم الاجتماع والأنثربولوجيا إلى أن “المعروف أن المجتمعات التقليدية الفلاحية تؤمن بهذه المعتقدات وتواكبها بمجموعة من الطقوس؛ على غرار طقوس طلب الغيث والمطر التي تمزج بين الدين والمعتقدات الشعبية”، مسجلا أن “حضور أكلة تاكلا على موائد الأسر الأمازيغية قديم قدم الزمن، ويعود إلى فترات ما قبل مجيء الإسلام”.

في المقابل، أفاد المتحدث ذاته بأن “هذه الأكلة في الثقافة العامية تحيل على مبادئ التقاسم والتشارك والديمقراطية المحلية، حيث يجلس الفقير بجنب الغني في إيض يناير وفي غيرها من المناسبات ويجلسون على مائدة واحدة من أجل تناولها وتقاسمها، مع ما يعنيه ذلك من رسائل سوسيولوجية تحيل على ضرورة اندماج الفرد في المجتمع بغض النظر عن طبقته الاجتماعية وضرورة أن يكون عنصرا فعالا في مجتمعه”.

وخلص إلى أن “احتفال الأمازيغ في بعض المناطق برأس السنة الأمازيغية يأتي بالتوازي مع طقوس أخرى ترافق هذه الاحتفالات بهذه المناسبة؛ على غرار طقوس طلب الاستسقاء وغيرها من الطقوس الأخرى، التي تدل على أصالة وعراقة الثقافة الأمازيغية التي يحتل فيها الماء والأرض موقعا متميزا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى