الروائي شعيب حليفي يقدم “خط الزناتي”
نظم المنتدى الفكري والفني والعلمي لجمعية تياترو ببرشيد، بفضاء الذاكرة التاريخية بالمدينة ذاتها، لقاء ثقافيا مع الأكاديمي والروائي شعيب حليفي من أجل تقديم روايته الأخيرة “خط الزناتي” الصادرة سنة 2023.
حضر هذا الموعد الأدبي، الذي يندرج في إطار البرنامج السنوي للمنتدى سالف الذكر، جمهور غفير من المثقفين ومن متتبعي أعمال الكاتب.
وقد أشرفت على تسيير وتنسيق أعمال الجلسة ذة. حليمة وازيدي.
تناولت المداخلات قراءات تحليلية ونقدية للرواية، حيث انطلقت الناقدة والباحثة سلمى براهمة من عنوان “الذات والطبيعة في رواية خط الزناتي لشعيب حليفي”، فذهبت إلى أن ما يثير اهتمام وملاحظة القارئ لهذه الرواية هو التوظيف اللافت والمثير للبيئة والطبيعة بشكل عام بمختلف مكوناتها. يتجلى ذلك في عناصر التراب والشجر والطيور والحيوانات والحشرات.. حضور الحيوان بصفة خاصة له وظائفه الواقعية ودلالاته الرمزية وتوظيفاته المجالية. تدور أحداث الرواية في البادية من بدايتها إلى نهايتها، خلال يوم انتهاء موسم الحصاد، وليل الاحتفال بإنجاز هذه المهمة. ومن خلال تسلسل أحداث الرواية يتم التوظيف الفني الجمالي الجزئي والمحدود للكائنات غير البشرية، أي الحيوان، باستعمال التوظيفات العجائبية والفانتستيكية. هذا التوظيف يثير أسئلة عديدة تتعلق بالذات والواقع والوجود الإنساني في المجتمعات الحديثة، كما يتزايد وجوده في الأعمال الغربية الحديثة، إما استلهاما حسب المفهوم الكافكاوي في رواية “المسخ” أو كما في النقد الأدبي الإيكولوجي. هذا النقد البيئي المدرك لأهمية البيئة، مدرك لما تتعرض له من كوارث ومخاطر على يد الإنسان.
للإشارة، فالمشروع الروائي لشعيب حليفي، الذي يمتد على مدى ثلاثين سنة، يتم فيه توظيف الطبيعة، خاصة الحيوان، إلى جانب الآليات والتقنيات الفنية؛ كاللعب والسخرية وتعدد الخطابات. كل ذلك يهدف إلى تعبير عميق عن الذات والوجود والزمن، الذي ليس إلا الوجه الآخر للكون. إنها رؤية تعبر عن حاجة الإنسان للإنصات والتأمل ولكل ما يحيط به لبلوغ نوع من السمو الروحي. هذه الرؤية لا بد أن يكون الوعي بالبيئة أحد أركانها، ما دامت تلح على حقيقيتين، تتمثلان في الإنسان والزمن؛ فالإنسان الفرد ليس سوى جزء من هذا الكون الفسيح الذي نعيش فيه، بأرضه وسمائه وأغراسه وحيواناته. أما الزمن فهو سر الأسرار، لا الإنسان ولا الكائنات الحية الأخرى القائمة على الأرض بإمكانها أن تواجهه.
الزمن والطبيعة أو البيئة والذات، عناصر أساسية لقراءة الرواية. فالزمن يلعب دورا أساسيا كتيمة محورية لرواية “خط الزناتي”، كما تتداخل تيمات أخرى كالطبيعة والخوف من الجيل الخفي أو الزمن المستقبلي باعتباره يدخل في مضمون الغيب، والذي يتطلب تفعيل الخط الزناتي للاطلاع على المخفي مما سيحدث كما في العديد من الثقافات منذ ما قبل الحداثة.
تفتتح الرواية وتختتم بالحديث عن الزمن، وإن كان زمنها لا يتعدى اليوم الواحد بنهاره وليله. فالأحداث تبدأ مع طلوع الفجر وتنتهي بظهور الخيوط الأولى لفجر آخر. إن زمن الخطاب كان متعاقدا مع الأحداث، متسلسلة ومتابعة خطيا، رغم استرجاعات الزمن الخارجية الكثيرة التي تعود بنا إلى أواخر القرن الثاني عشر الميلادي وبداية القرن الثالث عشر، والتي كانت ضرورية للتعريف بالشخصيات، لتداخل مشهدين: إنهاء الحصاد والاحتفال به. إن اختيار الزمن وسطوته وغموضه وأسراره ستكون موضوع حوارات وتأملات وأسئلة تطرحها شخصيات الرواية البشرية وغير البشرية. سيقتنع موسى الزناتي بأن يوما واحدا يكفي للحياة. إن تحديد يوم واحد لأحداث هذه الرواية هو اختيار له دلالته وأبعاده الفكرية والوجدانية. إننا أمام رؤية خاصة بالزمن، من ذلك هيمنة الزمن نفسه، أو إحساس الشخص بالزمن رغم قصره في الرواية. كما سيهيمن حضور البيئة من خلال التأملات في الليل والنهار، الشمس والغروب، السماء والنجوم. ويسهم تلازم حضور الزمن وكائنات البيئة في تشكل المعنى والغنى الفني للرواية. كما هو الحال في حضور الفجر والفراشة معا في بداية ونهاية النص، يجعل من هذا الحضور دلالة على التحول والبعث والولادة.
الحيوان كليم موسى الزناتي
وتتابع المتدخلة حديثها بأن “النقد الأدبي هو نوع أدبي حديث، ورغم كونه ما يزال في طور البناء والتبلور، لكن أهدافه ومشاريعه واضحة. إن أهم ما يركز عليه هو الاهتمام بالتمثلات الأدبية للطبيعة، وتحويل التركيز من الاجتماعي إلى علاقات طبيعية بين أبطال الرواية. فارتباط الإنسان بالطبيعة يهتم بالمنظومة الإيكولوجية، حيث نجد هذا النقد الأدبي في كثير من محطات رواية حليفي. التمثيل الإيجابي للبادية من خلال عالم مثالي، فهي فضاء الهوية والانتماء الأول، أو الانتماء الحقيقي، والعودة إليه عودة إلى الجذور، عودة إلى الأصل. هذا الفضاء هو ما أصبحت تدعو إليه جمعيات حقوق الحيوان، وأصله نابع من البادية. هناك علاقة وجدانية وتفاعلية تتمثل في التفاعل الاستثنائي بين موسى الزناتي، وجل الكائنات غير البشرية. فبعد اكتشاف عقمه، تغيرت نظرته إلى الحيوانات، وأصبح يعاملها كأنها من صلبه، حيث فتح لها ضيعته، وأخذ يهتم بها، دون أن يتدخل في قضية شكلها، ونمط عيشها. هذه العلاقة الاستثنائية تبلغ مداها ومنتهاها حينما نصل إلى ما يعتبره النقد البيئي أنسنة البيئة، أو حينما تمنح الصفات الإنسانية للكائنات، والعكس صحيح في هذه الحالة. فحينما يصحو حال الزناتي، تصحو كل الكائنات وتنشرح. وحينما يتكدر حاله، تتكدر الكائنات أيضا. لكن الرواية لا تخلو من إشارات إلى التحولات الجديدة التي تطال البادية، في حالة الراعي الذي أصبح مهووسا بالهاتف النقال والمذياع، والابتعاد عن عالم اللعب الفطري والمعارف المرتبطة بالحيوان في البادية”.
وختمت المتدخلة سلمى براهمة تحليلها بأن “ذ. حليفي يضيف إلى رواياته السابقة أسئلة جديدة حول الزمن وأسراره والطبيعة وكائناتها، والذات الإنسانية في علاقتها بهذين العنصرين معا. وهذا ما جعله يختار البادية فضاء لأحداث رواية “خط الزناتي” ويجعل شخصياتها تتفاعل بشكل استثنائي مع البيئة بكل مكوناتها، ومع الكائنات غير الآدمية تفاعلا سعى إلى خلخلة المركزية البشرية، مما يجعل هذه الرواية تعكس وعيا عميقا للبيئة”.
وبدوره، قدم ذ. المعطي العلوي دراسة تفكيكية للرواية بعنوان “الساحر الذي يكتب ويضرب بالخط الزناتي”. وذهب إلى أن رواية حليفي تحضر روح الميثولوجيا بين السماء والأرض، وتعيد قراءة المخيال الشعبي المغربي عن طريق السرد الروائي، إذ الكاتب هنا يعتمد الازدواجية بناء على عملية الهدم والبناء ليشكل عوالم سردية خيالية قابلة للحياة يتآلف فيها الواقع البئيس لغالبية الشخصيات. الازدواجية في هذه الرواية ظاهرة لفظا ومعنى، تتدفق من خلال المواقع، وتجعل شخصياتها توحي بذلك. ونجد أن الكاتب يجعل من فضاءاته السردية مزيجا متشابكا لا يمكن فصله عن الواقع الذي أصبح خيالا، ومن الخيال الذي تجسد واقعا. هو مزيج من سرد تمثيلي على لسان حيوانات، أو خطاب حيواني على لسان إنسان. وذهب إلى أن الخط الزناتي متجذر في ثقافتنا الشعبية المغربية.
وقدم تحليلا لتفكيك رمزية شخصيات الرواية رغم أنها حيوانات، فلها دلالات تزيد أحيانا من غموض معنى اسم الشخصية التي تحمله. يرى المتدخل أن رواية “خط الزناتي” هي حلقة من حلقات الرواية الكبرى التي يحملها الكاتب الراوي، ويكشف في كل مرة، وفي كل رواية، عن سر من أسرارها. هي رواية كبرى شبيهة بدورة الأرض، من زرع وحصاد وفرح وآلام ونبش في الأرض، في الذكرى والذكريات والتاريخ والقراءة والكتابة والذاكرة.
أما مداخلة ذ. إدريس الحسيني، التي جاءت تحت عنوان “الخط الزناتي والذاكرة التاريخية”، فقد انصبت على اعتبار هذه الرواية امتدادا لمشروع شعيب حليفي منذ رواية “زمن الشاوية”. يعمل الكاتب من خلال مشروعه السردي على فتح المجال للمهمشين، وللمسكوت عنه عبر التاريخ، من خلال استعادة التمثيل التاريخي لذاته. ويرى أن عنوان الرواية يفتح الباب أمام مجموعة من القراءات، وتعبير عن تفاعل الإنسان مع محيطة من خلال القدرة على قراءة الأبراج من أجل التأثير على الفرد والجماعة معا.
وفي إطار تعقيبه على المداخلات والمناقشات، أشار المؤلف إلى أنه بدوره يطرح أسئلة، من قبيل تداول مفهوم ضرب “الخط الزناتي” منذ ما يزيد على ثمانية قرون، أو قراءة “الدمياطي”. وقال إنه ليس من حقنا أن ننكر بأن هذه ثقافة شعبية متجذرة في مجتمعنا، وتعبر عن عدد كبير من الأفكار والأحلام التي نحملها. وهي رمزية تتلاحم مع هويتنا. كما تطرق من منظوره وقناعته إلى أن الكاتب ينبغي أن يكون صوتا للمجتمع. كما المثقف بصفة عامة يجب أن يكون جزءاً من المجتمع، وأن يعبر عما يختلج الناس من الداخل، أن يعيش ويتعايش معهم، ويشاركهم عن قرب أفراحهم وهمومهم. ويضيف: “نحن نكتب لنصون أرواحنا، لأن أهم ما فينا هي روحنا، مع الانطلاق نحو المستقبل، وأن نأخذ من الحداثة ما يتوافق مع هويتنا، ولا ننتظر أن يكتب عنا الآخرون الأجانب. ينبغي أن تكون مبادرة المثقف جزء من مبادرة الإنسان المغربي للوصول إلى الأفق الذي نحلم به جميعا”.
وعن مشروعه في كتابة الرواية، يقول شعيب حليفي: “اخترت كتابة الرواية بديلا عن شيء آخر لا يصعب علي تكتمه. هناك لحظتان فارقتان ومتنافرتان في حياتي رمتا بي في نهر الرواية، وفتحتا لي باب الكتابة في هذا المجال. تتمثل اللحظة الأولى، حينما كنت صغيرا، وشققت صدر طائر الهدهد، والتهمت قلبه، وذهب بخاطري أنني صرت قادرا على كتابة الرسائل بلغة شاعرية بإمكانها أن تجذب انتباه الآخر امرأة أو رجلا.
واعتبرتها سلطة تجعلني أتحكم في آلية الكتابة. أما اللحظة الثانية فبدأت خلال سفري، وأنا ما زلت تلميذا على أبواب الباكالوريا، أول سفر لي خارج الشاوية. ذهبت إلى إيطاليا مع صديق لي، وانتبهت وأنا أتحدث إلى ذلك المجتمع، كنت أختلق الحكايات عن نفسي وعائلتي، ولاحظت بأن هذه المبادرة في الحديث، اندهش لها من كانوا من حولي، فأغراني هذا الشغف، بأن تكون لي هذه الروح التي لم أكتشفها آنذاك بهذا الوعي الذي أمتلكه اليوم”.
وأضاف حليفي ضمن تعقيبه: “نحن جزء من هذا العالم ومن صيرورته، ولسنا حطبا نحترق في بداية الحرب ونهايتها. نحن ننتمي إلى شعب هو جزء من الحياة. شعب عاش داخل الأسطورة والملحمة والشعر والحكاية. لذلك، فإن أية رواية تكون خارج هذا السياق، فهي قناع مستورد وترصيف كلام. أما الرواية التي تليق بنا، فهي امتداد لحكاياتنا التي يكون فيها الانكسار والمحن والموت مجرد سحابة عابرة، وليست لحظات نتوقف عندها ونتباكى. الرواية ينبغي أن تكون نابعة من روح أساطيرنا وملاحمنا وأشعارنا. جوهرها الحماس وحب الحياة، ضد التوحش، ولا تكون مما يقدم بهرجة وفولكلورا أو تمثيلا لحرارة وثقافة أخرى. الرواية ليست مجرد كتابة وتدوين، بل هي بحث ومعرفة بالنفس البشرية”.