حرب غزة: كيف انتهت قصة 15 رهينة احتجزهم مقاتلو القسام في بئيري؟
- Author, محمد همدر
- Role, بي بي سي نيوز عربي – بيروت
خلال هجوم حماس على بلدات إسرائيلية محاذية لقطاع غزّة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، احتجز مقاتلو القسّام 15 رهينة في أحد منازل كيبوتس بئيري لساعات طويلة.
دارت يومها معارك بين قوات الجيش الإسرائيلي والمسلّحين الفلسطينيين وجرت مفاوضات بين الجانبين، لكنها انتهت بمقتل جميع من كان في المنزل باستثناء امرأتين.
وسط غبار المعارك، قد يكون من الصعب الجزم بالتسلسل الدقيق للأحداث، حتى بالنسبة لمن عايشوها. ولكن تفاصيل أوضح عما حصل ذلك اليوم بدأت تظهر، بعد مرور أكثر من شهرين، ونشر شهادات جديدة تناقض ما تناولته تقارير إعلامية سابقة بشأن ما حدث في منزل السيدة بيسي كوهين في كيبوتس بئيري.
حاول فريق بي بي سي إعادة تركيب صور المشهد قطعة قطعة، بحثاً عن سرد شامل قدر الإمكان، استناداً إلى شهادات الناجين وعائلات الضحايا، والتقارير الإعلامية التي تناولت الحدث.
تحذير: التقرير يتضمن مشاهد وشهادات قاسية.
تنويه: نعتمد على شهادات لأشخاص لم نجرِ مقابلات مباشرة معهم، والذاكرة البشرية غير معصومة من الخطأ.
هل قُتل مقاتلو القسّام ومعهم 13 رهينة بنيران الجيش الإسرائيليّ؟
كان من المفترض أن يمرّ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول بهدوء بالنسبة لسكان مناطق غلاف غزّة بعد أمسية احتفلوا خلالها بعيد العرش اليهودي. لكن الهجوم المباغت غير المسبوق الذي نفذّته حركة حماس في ساعات الصباح الأولى، قلب الأمور رأساً على عقب.
وتُحمّل السلطات الإسرائيلية حركة حماس المسؤولية الكاملة عن تداعيات الهجوم. وأعلن الجانب الإسرائيلي بداية عن مقتل 1400 شخصاً من المدنيين والعسكريين خلال الهجوم، ثمّ خفضّ العدد إلى 1200 ومؤخراً إلى 1139.
بعد إعلان الجيش الإسرائيلي استعادة سيطرته على البلدات الإسرائيليّة الواقعة في غلاف غزة، تحوّل كيبوتس بئيري – أكبر الكيبوتسات المجاورة لقطاع غزّة مساحة وأقدمها – إلى محطة مهمّة لوسائل الإعلام وللسياسيين المتضامنين مع إسرائيل، بسبب عدد القتلى والمخطوفين الكبير، وحجم الأضرار.
أفيد عن وقوع نحو 120 قتيلاً واختطاف العشرات من بئيري. وكشف انتهاء المعركة عن تدمير عدد كبير من المنازل بشكل شبه كامل.
وجه ناجون، وعمّال إنقاذ، وضباط من الجيش الإسرائيلي اتهامات إلى مقاتلي حماس بارتكاب أعمال قتل وتعذيب وتدمير وإحراق منازل وأشخاص وخطف آخرين.
لكن بعد مرور أسبوع على الهجوم، أدلت ناجية إسرائيليّة تدعى ياسمين بورات بشهادة مختلفة، وكانت روايتها نقطة انطلاق لكشف مصير 15 شخصاً احتجزهم مقاتلو كتائب القسام، في منزل سيدة تدعى بيسي كوهين في بئيري.
كيف بدأ الهجوم على بئيري؟
أظهرت كاميرات المراقبة وتلك التي كانت بحوزة مقاتلي حركة حماس، اقتحام المسلّحين للبوابة الرئيسية للكيبوتس، عند الساعة السادسة صباحاً.
بداية، حاول مقاتلان من حماس عبور البوابة الرئيسية، وعند فشلهما، كمنا جانباً وانتظرا وصول سيارة مدنيّة، أطلقا النار على سائقها بعد فتح البوابة.
أظهرت مشاهد أخرى بداية دخول المقاتلين إلى بئيري، وتوجههم نحو المنازل.
تبادل السكان رسائل صوتية تحدثوا خلالها عن سماعهم أصوات أشخاص يتحدثون بالعربية يقتربون من بيوتهم.
الكاميرات المثبّتة على أجساد المقاتلين أظهرت اقترابهم من بعض المنازل وإطلاق النار من الخارج. في أحد المشاهد، يظهر شخص يسقط داخل منزله برصاصة أطلقها مقاتل من حماس.
كان المسلحون محمّلين بأسلحة رشاشة وقنابل يدوية وبعضهم كان يحمل قذائف “أر بي جي”.
معظم شهادات الناجين الذين لم يقعوا في قبضة مقاتلي القسّام، أكدت لوسائل الإعلام إسرائيلية وعالمية الآتي: حاول مقاتلو حماس اقتحام المنازل، كانوا يطلبون من السكان الخروج لأخذهم رهائن إلى غزّة. وكانوا يطلقون النار على الأبواب المغلقة، فيما اختبأت العائلات في غرف محصّنة مخصصة للحماية من إطلاق الصواريخ من غزّة.
جاء في عدد من شهادات الناجين وضباط الجيش، أنّ المقاتلين كانوا يحرقون المنازل أحياناً لإجبار السكان على الخروج.
بعد ساعات قليلة، ظهر مدنيون فلسطينيون من غزّة في بثّ مباشر من داخل بئيري.
حتى هذه اللحظات، ليس هناك أي أثر لمواجهة مع الجيش الإسرائيلي داخل الكيبوتس، رغم تسجيل بعض المواجهات التي بدأت صباحاً بين بعض عناصر الأمن ومقاتلي حماس.
بئيري بعد المعركة
استغرق الجيش الإسرائيلي يومين لإعلان سيطرته الكاملة على بئيري وإفراغها من المقاتلين.
دخلت عدسات وسائل الإعلام إلى الكيبوتس في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول، فكشفت عن ساحة حرب وعن دمار هائل.
الأضرار الجسيمة التي لحقت بالسيارات والمباني أشارت إلى أن معارك ضارية دارت داخل الكيبوتس.
عثرت وحدات الإنقاذ على جثث مدنيين تحت الركام، وعلى جثث تفحّمت وكان من الصعب التعرّف إليها.
واستدعت السلطات لاحقاً عناصر من فرق علماء الآثار، للبحث عن آثار رفات أشخاص أكدّت المعلومات مقتلهم دون العثور على أي أثر لجثثهم.
كانت آثار مرور الدبابات داخل الكيبوتس واضحة في بعض الصور واللقطات التي نشرتها وسائل إعلامية، مثل قناة 24 الإسرائيلية وصحيفة الغارديان البريطانية.
لاحقاً كشفت صحف إسرائيلية عن مساندة الدبابات لوحدات الجيش الإسرائيلي، أثناء معركة استعادة السيطرة على الكيبوتسات.
على سبيل المثال، روى المقدّم في الجيش الإسرائيلي، سلمان حبكا، لأكثر من وسيلة إعلامية محلية، أنه كان أول الواصلين بدبابة إلى بئيري، وتحدّث عن قتال دار من منزل إلى آخر في مواجهة المقاتلين الفلسطينيين.
ياسمين بورات: ناجية من “مجزرتين”
كُتب لياسمين بورات أن تنجو مرتين في يوم واحد؛ الأولى عند فرارها من مهرجان نوفا الموسيقي الذي اقتحمه مقاتلو حماس، والثانية عند خروجها حيّة من معركة بئيري، بعد احتجازها رهينة.
تحدثت ياسمين إلى أكثر من قناة وصحيفة عمّا عاشته خلال أكثر من 12 ساعة، منذ بدء الهجوم في الصباح الباكر.
وكرّرت روايتها للأحداث التي شاهدتها منذ لحظة فرارها من حفل نوفا، إلى لحظة تسليمها للجيش الإسرائيلي بعد احتجازها في منزل بيسي كوهين، مع رهائن آخرين.
نستعيد هنا قصّة ياسمين كما روتها لأكثر من وسيلة إعلامية، من بينها إذاعة “كان” وصحيفة معاريف والقناة 12 الإسرائيلية وقناة سي أن أن الأمريكية.
كانت ياسمين بورات حاضرة برفقة حبيبها، تال كاتز، في مهرجان نوفا الموسيقي قرب كيبوتس رعيم.
مع ورود إشارات الخطر الأولى وانطلاق الصواريخ من غزة، طلب رجال الأمن المكلّفين بحراسة المهرجان وقف الحفل ومغادرة الجميع.
غادرت ياسمين مع تال سريعاً في سيارتهما، وتوقفا بعد أمتار قليلة للاختباء. بعد 20 دقيقة سمعا صوت إطلاق رصاص، فعادا إلى سيارتهما بسرعة، وغادرا. في اللحظات التي اتجها فيها نحو السيارة، شاهدا مقاتلي حماس يدخلون موقع الحفل، ويطلقون النار.
قاد تال السيارة خمس دقائق تقريباً، فوجد أمامه زحمة، وشاهد آلية لمسلحين تقطع الطريق، فاستدار بالسيارة، وغيّر وجهته.
دخلا إلى كيبوتس بئيري عند الساعة السابعة تقريباً، وركنا السيارة ولم يعرفا بوجود مقاتلي القسام داخل الكيبوتس.
طرقا باباً وتحدثا بالعبرية لطلب الدخول، فأدخلهما صاحب المنزل، أدي داغان، وزوجته هاداس داغان، واختبأوا جميعاً في الغرفة المخصّصة للحماية من الهجمات الصاروخية.
عند السابعة والنصف بدأ أصحاب المنزل بتلقي رسائل عن وجود مسلحين داخل الكيبوتس.
أكثر من ست ساعات مرّت وهم جالسون في الغرفة الصغيرة داخل منزل الزوجين داغان.
عند الواحدة ظهراً، قالت لهم هاداس، التي كانت تتابع الأخبار الواردة من سكان الكيبوتس على هاتفها، إنّ المقاتلين أصبحوا على مسافة منزل واحد.
بعد خمس دقائق وجدهم المسلحون. قالت ياسمين إنّ أدي داغان أمسك بمقبض الباب ما يقارب الساعة في محاولة لمنعهم من الدخول، في النهاية رمى أحد المسلحين قنبلة يدوية لم تقتل أحداً، لكنها أجبرتهم على الاستسلام.
وقالت إنّ محاولة المقاتلين اقتحام غرفة المنزل حيث كانوا يختبئون، كانت أصعب ما عاشته. وأرسلت حينها رسالة “وداع” إلى أولادها.
اقتادهم المسلحون إلى منزل بيسي كوهين المجاور، وانضموا إلى رهائن آخرين ليصبح العدد، وفق ما روت ياسمين، 15 رهينة، ونحو 40 مسلحاً من كتائب القسام.
من هم الرهائن الذي كانوا في منزل بيسي كوهين؟
كانت بيسي كوهين، مالكة المنزل، تستضيف شقيقتها هانا وزوج شقيقتها إسحق سيتون وابنهما تال.
عند اقتحام حماس المنزل، قُتل إسحق وجُرح تال.
وأحضر مقاتلو القسام الرهائن الآخرين من المنازل المجاورة إلى منزل بيسي، فانضمت ياسمين بورات، وتال كاتز، مع أدي داغان وزوجته هاداس.
وكان قد سبقهم زئيف، وزوجته زهافا هاكر، وآفا بن آمي، وهم يقطنون أيضاً بجوار منزل بيسي.
أمّا آيالا حرتزوني والطفلان التوأم يناي وليال حرتزوني (12 عاماً)، فاقتادهم المسلحون من منزلهم بعد مقتل جدّ الطفلين آفي خلال الهجوم، وفق ما ذكرت تقارير إعلامية.
بالإضافة إلى هؤلاء، شاب فلسطيني من القدس يدعى صهيب أبو عامر (22 عاماً)، وكان يعمل سائقاً في مهرجان نوفا الموسيقي، اقتاده مقاتلو حماس إلى بئيري ليساعدهم في الترجمة.
قبل أن يأخذوا صهيب معهم، اتصلوا بشقيقه للتأكد من هويته، وأخبروه بأنهم سيأخذونه معهم إلى غزّة.
وصول الجيش الإسرائيلي
قالت ياسمين في المقابلات التي أجرتها، أنّ المسلحين لم يوجهوا سلاحهم إلى الرهائن، وطمأنوهم بأنهم لا يريدون قتلهم، وإنما أخذهم إلى غزّة.
طلب حسن – قائد المجموعة – من ياسمين الاتصال بالشرطة والإبلاغ عن وجود رهائن مع مقاتلي حماس وتحديد الموقع.
وهكذا فعلت، اتصلت بالشرطة وشرحت لهم الوضع، ثمّ أخذ حسن الهاتف، وطالب الشرطة بتأمين مخرج آمن لهم وللرهائن إلى غزة. وقال إنّ معه نحو 50 شخصاً وإنه سيقتل أفراداً من الرهائن إن تعرّض لهم أحد في الطريق.
مرت ساعتان، لم يظهر أحد من الشرطة أو الجيش، فاتصلت ياسمين بهم مجدداً وطلبت مجيئهم.
أخرج المسلحون عدداً من الرهائن إلى باحة المنزل الخارجية، هم بيسي كوهين وهاداس وأدي داغان وتال كاتز وزئيف هاكر.
عند الساعة الرابعة، ظهرت آلية عسكرية إسرائيلية، ضمن قوات من “وحدة اليمام”، وبدأت بإطلاق الرصاص على المنزل، بحسب ما روت ياسمين في أكثر من مقابلة. وقالت إنّ الأجواء توترت عند هذه اللحظة و”شعرنا بالخطر على حياتنا”.
وأضافت أنّ الجميع انبطح أرضاً: المقاتلون والرهائن. وشعرت ياسمين بألم شديد وسخونة في قدمها نتيجة احتكاك بشظية نتجت عن إطلاق النار على المنزل.
كيف خرجت ياسمين من المنزل؟
تبادل الجانبان إطلاق النار بكثافة أكثر من مرة.
كان حسن، قائد المجموعة يتحدّث طوال الوقت باللغة العربية عبر الهاتف، فهمت ياسمين في ما بعد أنه كان يتحدث مع الشرطة الإسرائيلية.
نادى حسن ياسمين وأمرها بالتقدم أمامه خارج المنزل وبدأ بخلع ثيابه. كان المقاتل ينفّذ تعليمات القوات الإسرائيلية التي طلبت منه الخروج مع ياسمين.
أكمل خلع ملابسه واستخدم ياسمين درعاً بشرياً، وبدأ بالتقدم ببطء نحو قوات الجيش الإسرائيلي واضعاً ذراعه حول عنقها.
فهمت ياسمين أن قرار حسن بالاستسلام للجيش لم يحظ بموافقة جميع رفاقه، وقالت إنّ أسلحة مقاتلي حماس وقوات الجيش الإسرائيلي، كانت موجهة إليها وإلى حسن عند خروجهما.
في طريقها إلى الخارج، رأت حبيبها تال ممدّداً في الخارج وإلى جانبه أدي وهاداس داغان، وكانوا جميعاً أحياء وفق ما قالت ياسمين. نادت تال لتطمئن عليه بعد إطلاق النار الكثيف، فأجاب بحركة من رأسه.
كانت هذه المرة الأخيرة التي تتحدث فيها ياسمين إلى تال كاتز.
تقدّما من قوات الجيش الإسرائيلي وصرخت ياسمين بالعبرية طالبة منهم عدم إطلاق النار فامتثلوا. ودفعها مقاتل القسّام باتجاه الجيش ثم سلّم نفسه.
ذهبت ياسمين برفقة ضابط وبدأ باستجوابها مستفسراً عن عدد المسلحين وعدد الرهائن ومواقعهم داخل المنزل.
تحدثت ياسمين عن استجوابها أكثر من مرة، وقالت إنهم لم يصدقوا في البداية أنّ نحو 40 مقاتلاً من القسام موجودون في المنزل.
ماذا حدث بعدها؟
مكثت ياسمين بورات ساعتين خارج المنزل، استمر خلالهما إطلاق النار بين الطرفين مع محاولات للتفاوض مع المسلحين، حتى أنّ قائد المجموعة، حسن، الذي سلّم نفسه، تحدّث مع المقاتلين عبر مكبر الصوت وطلب منهم الخروج والاستسلام، لكنهم لم يرضخوا.
في النهاية، تقدّمت دبابة للجيش الإسرائيلي.
سألت بورات الجنود إن كانت الدبابة ستطلق نيرانها فعلاً نحو المنزل؟ كانت الإجابة أنّ الهدف من استقدام الدبابة هو فقط لتحطيم الجدران الجانبية.
قالت بورات إنّ الدبابة أطلقت قذيفتين نحو المنزل.
دوى انفجاران داخل المنزل، بعد وقت قليل تبيّن أنّ هاداس داغان على قيد الحياة، وخرجت من بين الغبار لتصبح الناجية الوحيدة من المنزل بعد المعركة.
قالت بورات مرّة أخرى لإذاعة “كان” الإسرائيليّة أنّ جميع الرهائن كانوا أحياء لحظة خروجها من المنزل.
وقالت إنّهم كانوا عالقين وسط تبادل كثيف لإطلاق النار بين مقاتلي حماس من جهة، وقوات الجيش الإسرائيلي من جهة أخرى.
لكنها أضافت أنها لا تستطيع أن تؤكد من الذي قُتل لاحقاً برصاص هذه الجهة أو تلك.
وبعد انقضاء يومين، أعلن الجيش الإسرائيلي رسمياً مقتل رفيقها تال كاتز – دون ذكر سبب الوفاة.
لكنّ ما أثار الجدل هو اختفاء جثث بعض القتلى وعدم العثور على بعضها إلّا بعد أسبوع على الأقل.
إذ عثرت فرق البحث على جثّة الشاب الفلسطيني، صهيب أبو عامر بعد 12 يوماً على الهجوم، وعُثر على رفات آيالا حتزروني وابن شقيقها، يناي، بعد 11 يوماً.
واستغرق العثور على جزء من رفات الطفلة، ليال حرتزوني، أكثر من شهر وأسبوع من الوقت.
الطفلة ليال حرتزوني
قالت ياسمين في حديثها لإذاعة “كان” في 15 نوفمبر/تشرين الثاني إنها تتذكر الطفلة ليال، وأنها كانت موجودة في المنزل وكانت تسمع بكاءها طوال الوقت.
لكنّ فرق الإنقاذ لم تجد في البداية أي أثر لجثّة الطفلة البالغة من العمر 12 عاماً.
وأثارت قصة الطفلة تعاطفاً واهتماماً واسعاً في الإعلام وعلى سائل التواصل الاجتماعي، مع ورود تقارير في صحف إسرائيلية عن مقتل الطفلة وإحراق المنزل التي احتجزت بداخله مع رهائن آخرين، “على يد مقاتلي حماس”.
دُفنت رفات جثة آيالا وابن شقيقها يناي في مقبرة مؤقتة خارج بئيري.
وبعد شهر من الانتظار دون العثور على جثّة الطفلة ليال، قرّرت العائلة إقامة مراسم تشييع رمزية في 14 نوفمبر/تشرين الثاني، ودفن أغراضها الشخصية.
في اليوم التالي، تحدث أومري شيفروني، أحد أفراد عائلة الطفلين يناي وليال، إلى راديو “كان”. وقال إنّه لا يستبعد مقتل الطفلة على يد الجيش الإسرائيلي، وذلك بعد استماعه لشهادة ياسمين بورات في الإذاعة.
وأضاف قائلاً إنّ العائلة تشعر بغضب كبير وتريد رداً رسمياً، وأكّد أنّ معلوماته تفيد بأن أحداً لم يخرج على قيد الحياة من ذلك المنزل، لذلك قرّرت العائلة إقامة مراسم دفن رمزية.
لكن بعد مرور أكثر من أسبوع، وبمساعدة فرق علماء الآثار، أعلنت السلطات في 25 نوفمبر/تشرين الثاني العثور على جزء صغير جداً من رفات ليال، وسلّم إلى العائلة لإجراء مراسم دفن جديدة.
ماذا عن الناجية الثانية هاداس داغان؟
بقيت العديد من الأسئلة دون إجابات، لا سيما وأن الناجية الثانية هاداس داغان لم تتحدث إلى أي وسيلة إعلامية، ولم يُنقل عنها سوى كلمات قالتها أثناء تأبين زوجها، أدي، خلال مراسم الدفن في كيبوتس رفيفيم؛ حيث قالت إنّ زوجها قُتل بين يديها وإنّها خسرت منزلها.
مساء السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وأثناء نقلهما في سيارة خارج كيبوتس بئيري، تحدثت ياسمين بورات إلى هاداس داغان ونقلت عنها الآتي:
“ياسمين، شعرت أني أطير في الهواء بسبب الانفجارين الكبيرين… احتجت دقيقتين أو ثلاثة لأفتح عينيّ، لم أشعر بجسدي. كنت مشلولة بالكامل. حين فتحت عينيّ، رأيت أدي يحتضر…”.
سألتها عن تال، فأجابتها بأن الجميع توقف عن الحركة بعد الانفجارين.
قالت ياسمين إنّ هاداس قالت لها أنّ مقاتلي حماس لم يعدموا أحداً، على الأقلّ في ما يخصّ الأشخاص الذين كانوا إلى جانبها في حديقة المنزل.
وقالت ياسمين إنّ آثار دماء كانت ظاهرة على ملابس هاداس (يعتقد أنها دماء زوجها).
وفي ما يخصّ الطفلة لِيال، نقلت بورات عن داغان قولها إنّ الفتاة “لم تتوقف عن الصراخ”، لكن عند إطلاق القذيفتين “توقف الصراخ. كان هناك صمت”.
بعد انقضاء شهرين على ذلك اليوم، نشر موقع مجلة “ماكو” الإسرائيلية مقابلة مصوّرة تحدثت فيها هاداس داغان للمرة الأولى، وأكملت وقائع ما جرى في ذلك اليوم.
وقالت إنها وافقت على الظهور في المقابلة، لتنقل إلى عائلات الضحايا، حقيقة ما حدث في اللحظات الأخيرة من حياة أبنائهم وبناتهم.
شمل التقرير المصوّر على موقع ماكو، مقابلة مع ياسمين بورات أيضاً، وتقاطعت روايتها مع شهادة هاداس في جميع المحطات التي سبقت خروج ياسمين من المنزل.
من جهتها، روت هاداس القصة منذ سماعها وزوجها صوت إطلاق الصواريخ صباحاً، وقدوم ياسمين وتال للاختباء في منزلهما.
وتحدثت عن اختبائهم جميعاً في الغرفة الصغيرة التي تستخدم عادة للحماية من إطلاق الصواريخ من غزّة، إلى أن عثر عليهم مقاتلو القسّام وأخرجوهم بعد معركة طويلة لفتح باب الغرفة، انتهت برمي قنبلة يدوية.
انتقلوا مع المقاتلين إلى منزل بيسي، الذي يبعد عن منزل آل داغان 30 متراً تقريباً، وأجلسوهم حول طاولة في الغرفة المخصصة لتناول العشاء.
قالت هاداس إنّ المقاتلين كانوا يحيطون بهم في تلك الغرفة، وكانوا هادئين وواثقين من أنفسهم.
وأضافت أنّ الجميع كانوا يرتدي زيّاً عسكرياً باستثناء المترجم.
بعد اتصال ياسمين بالشرطة، طلب المسلحون من هاداس وزوجها أدي، وتال كاتز وزئيف هاكر وبيسي كوهين، البقاء خارجاً في باحة المنزل.
عند وصول قوات الجيش الإسرائيلي وبدء تبادل إطلاق النارـ أدركت هاداس، بحسب قولها، أنّ وظيفتها ومن معها في الخارج، كانت تشكيل دروع بشرية بين الجانبين.
احتمت هاداس خلف زوجها على الأرض وعانقته، واستمر إطلاق النار بين الجانبين.
ياسمين، التي كانت لا تزال داخل المنزل، قالت لموقع ماكو، إنّ الرصاص كان يدخل المنزل من جميع الجهات.
وقالت هاداس إنها لا تستطيع نسيان صراخ الطفلة (لِيال) في هذه اللحظات. كانت تصرخ طلباً للمساعدة.
اللحظات الأخيرة
توقف إطلاق النار لوقت قليل مع خروج ياسمين وحسن من المنزل، لكنّ هاداس لم تفهم سبب الهدوء المفاجئ.
ثمّ عادت الاشتباكات، وقال أدي لزوجته فجأة “هاداس، لقد فقدنا زئيف”.
نظرت هاداس خلفها وقالت لأدي: “فقدنا بيسي أيضاً”.
عند السابعة مساء اقتربت الدبابة وأطلقت القذيقة الأولى.
قالت هاداس إنّ انفجاراً كبيراً وقع، ولم يعد باستطاعتها تحريك ساقها ولا ذراعيها. قالت لزوجها إنها أُصيبت.
“كان واضحاً بالنسبة لي وجود دبابة، كان ذلك واضحاً للغاية لا تسأليني كيف، لا أعلم”، بحسب ما قالت هاداس لموقع ماكو.
عندها دوى انفجار آخر، شعرت هاداس أنها أصيبت، والدماء تملأ جسدها، ورأت أدي ينزف بقوة من عنقه.
وضعت إبهامها على عنق زوجها لتوقف النزيف، لكنها وجدت نفسها في ما وصفته بأنه بركة من دماء، وكان أدي قد توقف عن الحركة.
بعد ذلك سمعت صوت رصاصة واحدة داخل المنزل، وساد الصمت. نظرت حولها إلى من كانوا معها في الخارج، لا أحد يتحرك.
قالت هاداس إنها لا تدرك كم مرّ من الوقت قبل سماعها صوت أشخاص يقتربون، وهم يحملون مصابيح، نقلوها إلى سيارة حيث التقت بياسمين بورات مرة أخرى.
ما جاء على لسان ياسمين وهاداس قد يفسّر حجم الأضرار التي لحقت بمنزل بيسي والمنازل المحاذية. وإن كان كلامهما دقيقاً، سيناقض ذلك فرضية إحراق الرهائن أو إحراق المنزل على يد مقاتلي حماس.
لم يصدر تعليق رسمي بعد عن الجيش الإسرائيلي أو الحكومة على ما جاء في شهادتي ياسمين بورات وهاداس داغان.
العقيد في الجيش الإسرائيلي، غولام فاش، كان من بين الضباط الذين شاركوا في معركة بئيري، واصطحب مراسلي وسائل الإعلام العالمية أكثر من مرة في جولة داخل الكيبوتس، ليشرح لهم ظروف المعركة وما الذي وجدوه.
كان هو من أبلغ عن انتشاله جثة طفل مقطوع الرأس داخل الكيبوتس. وهو الذي أقرّ لاحقاً باستخدام الجيش الإسرائيلي الدبابات لإبعاد مقاتلي حماس.
في 18 ديسمبر/كانون الأول، نشرت القناة 12 تقريراً جديداً يتضمن للمرة الأولى مشاهد مأخوذة من كاميرا طائرة أباتشي، لدبابة تطلق النار داخل كيبوتس بئيري.
واستعادت القناة 12 في تقريرها شهادتي هاداس داغان وياسمين بورات، وذكرت أنّ الدبابة أطلقت قذيفة نحو منزل بيسي كوهين.
وتحقق فريق بي بي سي من الفيديو ومن خريطة بئيري، وتمكن من تأكيد موقع الاستهداف الظاهر في الفيديو.
المنزل الذي يحمل رقم 424 ذكرته هآرتس في مقال سابق في إشارة إلى الضحايا الذين قُتلوا في منزل بيسي كوهين.
ويظهر في الفيديو المنزل رقم 424 والمنازل الثلاثة المحيطة به قبل تعرضها للدمار كما ظهر في الصور التي نشرت بعد المعركة.
نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريراً مفصلاً عن هجوم بئيري في 23 ديسمبر/كانون الأول الماضي، ونقلت عن الجنرال باراك حيرام الذي تولّى مهمّة قيادة وحدات الجيش في الكيبوتس، أنه أعطى توجيهات للدبابة بالتقدم وإطلاق النار نحو المنزل.
وقال حيرام للصحيفة إنه كان يريد حسم الأمور قبل هبوط الظلام وإنه بعد إطلاق قذيفة أربي جي من المنزل، أنهى المفاوضات وأمر الدبابة بالاقتحام ولو كان ذلك على حساب الخسائر في الأرواح.
نيران صديقة
ونقلت صحيفة يديعوت أحرونوت يوم 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي عن الجيش الإسرائيلي، أنّ ما لا يقل عن 20 جندياً قُتلوا بحوادث نيران صديقة منذ بدء العملية البرية في قطاع غزّة.
وقال الجيش الإسرائيلي في تقريره إنّ 13 جندي قُتلوا بنيران زملائهم في الجيش بعد خطأ في تمييزهم عن مقاتلين من حماس، وإنّ واحداً قُتل برصاصة طائشة وستة جنود آخرين قُتلوا في حوادث مختلفة أخرى، من بينهم واحد على الأقل قُتل في غارة نفذتها مروحية للجيش الإسرائيلي، وفق ما نقلت يديعوت أحرونوت.
وقالت الصحيفة إن هذا الرقم يستثني حوادث النيران الصديقة التي حدثت مع بداية الهجوم في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وقبل البدء بالعملية البرية.
وأفادت الصحيفة أنّ تقديرات الجيش تشير إلى وجود عدة مئات من الجنود الآخرين الذين أصيبوا “بنيران صديقة أو بحوادث عملياتية” في غزّة.
وذكرت أنّ إصابات سقطت بنيران الجيش الإسرائيلي في اليوم الأول من الهجوم.
لكنّ الصحيفة أشارت إلى أن الجيش الإسرائيلي يعتقد بأنه ليس من اللائق أخلاقياً التحقيق في هذه الحوادث، نظراً لعددها الكبير والمعقّد داخل الكيبوتسات ومجتمعات المناطق الجنوبية في إسرائيل، نتيجة المواقف الصعبة التي وُجد فيها الجيش.
وقد ارتفع عدد القتلى في صفوف الجنود الإسرائيليين بنيران صديقة إلى 29، وفق آخر الأرقام التي كشف عنها الجيش الإسرائيلي يوم الإثنين الأول من يناير/كانون الثاني الحالي.