هل تغير الموقف الأمريكي تجاه حرب غزة؟
تحذيرات الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لإسرائيل من أنها قد تخسر التعاطف والدعم الذي تلقته من العالم بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي أثارت اهتماماً كبيراً.
وكان بايدن قد انتقد ما وصفه بالقصف العشوائي الإسرائيلي لقطاع غزة، ودعا رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لتغيير حكومته بإقصاء العناصر الأكثر تشدداً فيها، وتغيير استراتيجية إسرائيل العسكرية وتوضيح التزامها بحل الدولتين صيغةً وهدفاً لعملية سلام مع الفلسطينيين مستقبلاً.
لقد كان هذا الموقف الأكثر صراحة من جانب الرئيس الأمريكي ضد نتنياهو منذ بدء الحرب بين إسرائيل وحماس، كما أنه أتى بعد أيام قليلة من وقوف واشنطن لوحدها في مجلس الأمن مستخدمة حق النقض (الفيتو) لإسقاط قرار من المجلس ينص على وقف فوري لإطلاق النار لأغراض إنسانية.
وكان المجلس قد اجتمع بعد طلب نادر من الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، الذي فعَّل المادة التاسعة والتسعين من ميثاق الأمم المتحدة التي تتيح له مخاطبة المجلس بسبب “ظروف إنسانية استثنائية” تهدد الأمن والسلم في العالم.
ليس من السهل على واشنطن، وهي القوة الأكبر في العالم، أن ترى نفسها في موقع منعزل بصورة متزايدة على المسرح العالمي وهذا ما يحصل بسبب التزامها بدعم إسرائيل في رفض وقف إطلاق النار رغم الارتفاع الكبير في عدد الضحايا المدنيين الفلسطينيين وتدهور الوضع الإنساني في غزة.
ويعد الالتزام الأمريكي بدعم أمن إسرائيل واحداً من أبرز ثوابت سياسات واشنطن وأكثرها رسوخاً، وعندما هاجمت حركة حماس إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت الولايات المتحدة الدولة الأقرب والأكثر تضامناً مع إسرائيل على كل المستويات، إذ زار بايدن إسرائيل بنفسه بعد أيام من الهجوم، الذي أعقبه هجوم إسرائيلي على قطاع غزة.
لا رسالة أوضح وأقوى من وجود الرئيس الأمريكي في إسرائيل وهي في حالة حرب.
وبسبب الغضب العربي من الطريقة التي هاجمت بها إسرائيل غزة وحجم الدمار والضحايا، انهارت ترتيبات الجزء الآخر من زيارة بايدن الذي كانت من المفترض أن تشمل في العاصمة الأردنية عمان لقاء مع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وزعيمي الأردن ومصر.
لكن يبدو أن بايدن لم يهتم كثيراً لذلك، إذ تبقى الولايات المتحدة رغم كل شيء الطرف الدولي الأكثر قدرة على العمل دبلوماسياً والتوسط بين العرب وإسرائيل، لكن استمرار الحرب والتوغل الإسرائيلي أدى الى استمرار وتعمق العزلة الأمريكية دولياِ، ومن هنا تأتي تصريحات بايدن التي يتحدث فيها عن ضرورة تغيير حكومة نتنياهو بإخراج الأحزاب الأكثر تشدداً منها وتغيير إستراتيجيته العسكرية أيضاً.
يريد بايدن أيضاً أن تكون إسرائيل واضحة في دعم حل الدولتين وذلك لإعطاء أمل – على الأقل – في تسوية سياسية للصراع الذي انفجر بهذه الطريقة التي لم يتوقعها بايدن.
ما يزال الرئيس الأمريكي حتى مع هذه التصريحات ملتزماً بقوة بدعم إسرائيل عسكرياً في حملتها ضد حماس، إذ أرسل حاملتي طائرات لدعم الموقف الإسرائيلي والأمريكي أيضاً، لمواجهة أي تهديد محتمل يوسع الحرب قد يأتي من إيران أو من القوى التي تدعمها إيران.
وقد تحركت تلك القوى (التي تدعمها إيران) وهاجمت أهدافاً أمريكية وإسرائيلية على جبهة جنوب لبنان والبحر الأحمر والعراق وسوريا لكن ذلك لم يتحول بعد إلى حرب في أي من تلك الجبهات.
ومن أجل إدامة تلك الدرجة من الدعم العسكري لإسرائيل توجه بايدن إلى الكونغرس مطالباً بتخصيص مبلغ يفوق الأربعة عشر مليار دولار لدعم إسرائيل في الحرب، لكنه ربط ذلك الطلب بتخصيص مبلغ يفوق ستين مليار دولار لحرب أخرى وحليف آخر هو أوكرانيا.
وهنا وقع بايدن في معضلة مع الحزب الجمهوري، حزب الرئيس السابق دونالد ترامب، فقد أصبح كثير من الجمهوريين مؤخراً معارضين لزيادة تمويل أوكرانيا.
واضطرت وزارة الخارجية الأميركية لاستخدام صلاحيات الطوارئ لإرسال عتاد تحتاجه إسرائيل، ويأمل بايدن أن لا يستمر بالعمل بهذه الطريقة بل أن يحصل على دعم الكونغرس لسياسته وطلباته.
السياق الآخر المهم جداً، هو الذي جاءت فيه تصريحات بايدن، ويمكن الانتباه إليه من المكان الذي صدرت فيه تلك التصريحات، لأن لذلك علاقة بدوافع بايدن وهواجسه. فقد صدر كلام بايدن أثناء اجتماع مع مجموعة من الداعمين لحملته الانتخابية من المتبرعين لحزبه، الحزب الديمقراطي.
يواجه بايدن مشكلة ومأزقاً مزدوجاً في الواقع، ففي الوقت الذي يهاجمه الجمهوريون ويتهمونه بالتساهل مع إيران، داعمة حماس، ويرفضون ربطه لدعم إسرائيل بدعم أوكرانيا، فهو يواجه مشكلة كبيرة مع الجناح اليساري في حزبه وهذا الجناح معروف بانتقاده الدائم لإسرائيل وسياساتها.
ويحتاج بايدن الساعي للحصول على فترة رئاسية ثانية الى المحافظة على وحدة حزبه وحماسة ناخبيه، فلقد كانت تلك هي المعادلة التي أوصلته للرئاسة في انتخابات عام 2020 لكن تلك الوحدة باتت مهددة الآن مع مطالبة يسار الحزب بوقف فوري لإطلاق النار، وإيقاف الدعم المطلق لإسرائيل مقابل التزام الجناح التقليدي في الحزب بدعم إسرائيل ورفض وقف إطلاق النار واعتباره انتصاراً لحماس واستمراراً لخطرها على الأمن الإسرائيلي.
يمتد الخلاف والجدل حول الموقف من إسرائيل ومن الحرب وما أحدثته ليكتسب بعداً اجتماعياً في الولايات المتحدة، فقد ازدادت منذ الحرب الاعتداءات العنصرية ضد اليهود كما ازدادت في الوقت نفسه الاعتداءات العنصرية ضد المسلمين والعرب، وحاولت إدارة بايدن إطلاق مبادرات لتهدئة الطرفين لكنها لم تحقق كثيراً من النجاح.
وتعقدت قضية العنصرية والكراهية المجتمعية على مستوى المفاهيم – أي في تعريف معانيها وطرق التعامل معها. وقد بدا ذلك جلياً في جلسة استماع عقدها مجلس النواب الأمريكي لثلاث رئيسات من ثلاث جامعات كبرى هن هارفارد وبنسلفانيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. فقد انتشر مقطع فديو لجزء من تلك الجلسة تسأل فيه نائبة جمهورية بارزة هي أليس ستيفانيك الرئيسات الثلاث عما إذا كانت الدعوات المعادية للسامية تشكل انتهاكاً للوائح تلك الجامعات، لتأتي إجاباتهن متشابهة ومتجنبة الجواب الصريح بـ”نعم”، وبالإجابة بدلاً عن ذلك بأن الأمر يعتمد على السياق، واضطرت رئيسة جامعة بنسلفانيا ليز مغيل إلى الاستقالة من منصبها بعد أن ثارت عاصفة من النقد حول تلك الإجابات على أساس أن معاداة السامية واستهداف اليهود أمر مدان بالمطلق وهو ضد اللوائح بالتأكيد. لكن تياراً ملحوظاً داخل الحركة الطلابية والجامعية التف أيضاً، لمساندة موقف رئيسات الجامعات معتبراً إياه دفاعاً عن حرية التعبير في مواجهة القيود والتخويف من انتقاد إسرائيل. أدى ذلك إلى تأييد مجلس جامعة هارفارد لرئيستها كلودين غاي في مواجهة دعوات الاستقالة مما أدى إلى صمود غاي واحتفاظها بموقعها.
في خضم هذا الجدل السياسي المجتمعي في الولايات المتحدة جاءت تصريحات بايدن التي يأمل فيها أن يأتي التغيير من إسرائيل نحو حكومة أكثر واقعية وتعاوناً من أجل أن يخرج من المأزق المتعدد الأوجه الذي وضعته فيه هذه الحرب.