لكريني يرصد جرائم إسرائيل في غزة ويرهن السلام بإقامة “الدولة الفلسطينية”
وصف إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية ومدير مختبر الدراسات الدستورية وتحليل الأزمات والسياسات، ممارسات إسرائيل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بغزة بالعمل العدواني بكل المقاييس، وذلك بنظر إلى نوعية الأسلحة المستخدمة وكذا الضربات التي لم تسلم منها المساجد والكنائس والمستشفيات والمدارس.
وأكد الأكاديمي المغربي، ضمن مقال توصلت به هسبريس معنون بـ”جرائم الاحتلال في غزّة ومطلب الدولة الفلسطينية”، أن إسرائيل لا يمكن أن تنعم بالأمن والاستقرار ما لم تتم بلورة حل دائم وعادل للقضية الفلسطينية، بصورة تضمن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، لتعيش في سلام وأمن إلى جانب إسرائيل.
وهذا نص المقال
أعادت عمليات “طوفان الأقصى” التي نفّذت داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما تلاها من عدوان إسرائيلي جائر على قطاع غزة، مستقبل القضية الفلسطينية إلى واجهة النقاشات الإقليمية والدولية، في ظرفية يشهد فيها مسار القضية جمودا كبيرا، بسبب تنصل إسرائيل من التزاماتها، واستمرارها في عمليات الاستيطان والاعتقالات، واستهداف المسجد الأقصى وتهويد القدس، وتضييق الخناق على الشعب الفلسطيني، وهو الوضع الذي عمّقه التواطؤ الأمريكي والغربي مع سلطات الاحتلال، واستمرار الخلافات الفلسطينية الداخلية، وتردي النظام الإقليمي العربي بكل مكوناته الاقتصادية والعسكرية.
واعتبر كثير من المهتمين والمراقبين أن هذه العمليات (طوفان الأقصى) تعبّر في جزء كبير منها عن ردّة فعل طبيعية إزاء السياسات الإسرائيلية التعسفية، منذ تسعينيات القرن الماضي، وعدم تحريك عجلة السلام، ومحطّة للمرافعة بشأن الحقوق المسلوبة للشعب الفلسطيني، بينما أبدى آخرون تخوفهم من أن يمثل ذلك ذريعة بالنسبة لإسرائيل لفرض مزيد من الاعتداءات والقيود، بما يعمق المعاناة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية داخل القطاع الذي يعيش به أكثر من مليوني فلسطيني يرزحون تحت الحصار منذ عام 2007.
وتتذرع إسرائيل في عملياتها العدوانية وكعادتها بممارسة حقها في الدفاع المشروع عن النفس، الذي هو إمكانية وقائية يوفرها القانون الدولي عندما تستحيل الاستعانة بالقانون في حماية الحقوق وردّ الاعتداءات. والواقع أن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة والفقه الدولي أطرا استخدام هذا الحق بمجموعة من الشروط والضوابط، حتى لا يتحول إلى عمليات انتقامية يجرمها القانون الدولي، فالخطر موضوع الدفاع ينبغي أن يكون داهما وحقيقيا، مع استحالة اللجوء إلى السلطات الأمنية والقضائية لدفع الخطر وتجاوزه، وأن يكون الرد آنيا ومرحليا؛ ويتناسب مع حجم الخطر ولا يتجاوزه.
وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إن ما تقوم به إسرائيل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بغزة وتكيّفه وفقا لمصلحتها يعتبر عملا عدوانيا بكل المقاييس، فالأسلحة المستخدمة فتاكة وخطيرة، فيما طالت الضربات المساجد والكنائس والمستشفيات والمدارس، وسقط خلالها عدد كبير من الأطفال والنساء. كما أن الرد لم يكن مرحليا، بل مستمرا، وتحول إلى سلوك عدواني استغلته إسرائيل في تجويع الفلسطينيين والدفع باتجاه تهجيرهم خارج أراضيهم ومنازلهم، بما يشكل جرائم حرب واضحة المعالم، وضربة للقضية الفلسطينية ومحاولة لإقبارها.
إن كل المعطيات السابقة تبرز أن ممارسات إسرائيل داخل غزة تتنافى مع مضمون وأهداف المادة 51 من الميثاق الأممي، باعتبارها (الممارسات) عملا عدوانيا، يجسد خرقا سافرا لمبادئ القانون الدولي العام، والقانون الدولي الإنساني على وجه الخصوص، واستهتارا بكل المواثيق والمؤسسات الدولية المعنية بحفظ السلم والأمن الدوليين؛ بل ويشجع على اللجوء إلى القوة لتسوية النزاعات، بما يهمش أداء هيئة الأمم المتحدة، ويوفر المناخ للتدخل في الشؤون الداخلية للدول بسبل ملتوية.
ورغم المواقف الدولية المندّدة بهذا العدوان، والداعية إلى وقفه، إلا أن صمتا مريبا تقابل به الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ما يحدث من جرائم خطيرة، واستخدام حق الفيتو داخل مجلس الأمن لمنع صدور قرار يدين هذه الممارسات، ويدعم وقفها، ويتيح وصول المساعدات الإنسانية إلى شعب يتعرض للتجويع والتهجير والإبادة.
لقد كشفت أحداث غزّة عن المفارقة الصارخة التي تطبع تعاطي الدول الغربية مع قضايا حقوق الإنسان، وأبرزت حقيقة الشعارات والدروس الحقوقية التي ما فتئت ترفعها في وجه الدول الضعيفة.
تبرز التجارب الدولية أن الحلول التي تفرزها الحروب والمواجهات العسكرية تظل مؤقتة، بين متاهات الفعل ورد الفعل. ولعل هذا ما دفع بكثير من الدول إلى أخذ العبر والدروس من التاريخ، والانفتاح على المستقبل، من خلال إرساء حوار بنّاء يفضي إلى بناء سلام مستدام. فالدول الأوربية التي عانت من ويلات الحروب والصراعات على امتداد عدة عقود تنبهت بعد الحربين العالميتين المدمرتين إلى أهمية الحوار والتعاون وإرساء سبل متينة لتحقيق السلام.
رغم إمكانياتها العسكرية لا يمكن لإسرائيل أن تنعم بالأمن والاستقرار، ما لم تتم بلورة حل دائم وعادل للقضية الفلسطينية، بصورة تضمن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة التي تجد أساسها في عدد من المواثيق الدولية والقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، لتعيش في سلام وأمن إلى جانب إسرائيل.
لقد برزت معالم حلّ الدولتين بعد الحرب العربية – الإسرائيلية لعام 1967، وما تمخض عنها من احتلال لعدد من الأراضي العربية، وصدور قرار مجلس الأمن رقم 242، ومع طرح الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إعلان الاستقلال عام 1988 الذي تحدث فيه عن “دولتين لشعبين”، بالإضافة إلى بنود اتفاقية أوسلو لعام 1993 التي نصت على قيام دولة فلسطينية بحلول عام 1999، ثم مبادرة السلام العربية لعام 2002 التي أكدت على الخيار نفسه.
وفي ظل التواطؤ الغربي مع إسرائيل، تتحمّل الدول الكبرى، كروسيا والصين الطامحتين إلى إرساء نظام دولي تعددي أكثر عدلا، مسؤولية حقيقية في الضغط باتجاه ترسيخ هذا الحل، الذي سيمثل عند تحققه مؤشرا على إعادة الاعتبار للمشروعية الدولية، وبداية لزعزعة أركان النظام الدولي الراهن.
ورغم قسوتها، تمثل الأزمات فرصا حقيقية لاعتماد قرارات حاسمة؛ فهل تستوعب إسرائيل ومعها الدول الغربية الكبرى الدرس بوقف دوامة العنف ومتاهات الصراع، وتمكين الفلسطينيين من حقوقهم في العيش بكرامة داخل دولة مستقلة؟.